مآلات الميت

كتب بواسطة أحمد الرحبي

1

استيقظ في الصباح وكان هدوء تام يلف البيت، على غير العادة، لم يسمع جلبة الأطفال ومشاحناتهم التي اعتاد عليها، هدوء قاسي وصعب يغرق البيت، خرج من غرفة النوم وتوجه إلى صالة الجلوس ولم يجد أحدا هناك، المكان فارغ وموحش، وذهب إلى المطبخ متوقعا أن يجد زوجته تعد وجبه الإفطار، لم يجد أثرا لها، وبعد ذلك توجه إلى بقية غرف البيت يفتش لعل أولاده ما زالوا نائمين في أسرتهم، فلم يجد أحدا، أخذ وقتا طويلا حتى يستوعب هذا الهدوء الذي يكتنف البيت، والغياب لأفراد عائلته، ووسط هذا الهدوء المطبق الذي يلف المكان، أخذ يتساءل باستغراب حول هذا الاختفاء لعائلته وهم الشيء الوحيد الذي يربطه بهذه الحياة، وسط هذا الاستغراب والذهول واتته فكرة الاتصال بزوجته لعلها خرجت مع الأطفال إلى مشوار للتسوق، رغم أن الوقت المبكر لا يبرر الخروج في هذا المشوار، تناول هاتفه وأخذ يهم بالاتصال بزوجته، لكن المفاجأة أنه وجد الهاتف لا يعمل كتلة صماء لا تصلح لشيء، لم يقف كثيرا أمام هذا العطل المفاجئ لهاتفه رغم أنه هاتف جديد لم يمض على شرائه أشهر، واتجه  للاتصال بزوجته في هاتف البيت، ضغط على أزار الأرقام وهو يستعيد رقم زوجته بسهولة ذلك لأنه هو الذي اختاره لها منذ أيام الخطوبة مستبدلا الرقم القديم، رقم ما قبل الخطوبة كما وصفه برقم جديد يليق بالمرحلة الجديدة، لكنه وجد الهاتف لا يعمل ولا يقدم خدمة الاتصال كما هو معتاد منه.

بعد محاولاته هذه، تهالك مستلقيا على إحدى الكنبات في صالة الجلوس، منتظرا أن تهل عليه الجلبة في أي لحظة وتملأ البيت سعادة، بعودة زوجته مع أولادها، وكان انتظارا طويلا لم يسفر عنه شيء، كم مضى من الوقت منذ أن تهالك مستلقيا هناك لا يعرف، وكم مضى من الوقت منذ أن استيقظ مواجها هذا الهدوء الذي يلف المكان أيضا لا يعرف، فتقريبا لا يوجد لديه شيء بإمكانه أن يقيس الوقت به، ومع أن الضوء والظل اللذين ترسمهما أشعة شمس ذلك الصباح، تصلح حركتهما لتخمين الوقت ومعرفة كم مضى وتبدد منه، وعلى أي مؤشر يؤشر في تلك اللحظة بمقياس الوقت، لكن ملاحظة بسيطة لضوء النهار والظلال التي يطبعها، تعرفه بأن الضوء ظل ثابتا منذ أن استيقظ وكذلك الظلال التي يعكسها، ظلت ثابتة في مكانها، كأنها مثبتة بمسمار في ذات البقعة.

2

لكي يخرج من دائرة الانتظار أو لتوسيع محيطها لا يدري، توجه إلى خارج البيت الذي يقع قبالة الشارع العام مباشرة، لكنه وجد أن الهدوء هناك يلف المكان برغم أن الشارع كما هو معتاد حافل بحركة السيارات والصخب الملوث للهدوء الذي تزفره محركاتها، الشارع والحي السكني بكامله غارق في الهدوء، هدوء أبكم، يحجر طبلتي الأذن في حالة من الصمم التام، الهدوء ألغى الحركة، جعل كل شيء جامدا، وقبل ذلك قبل أن يعم هذا الهدوء والسكون الذي يجرح السمع، اختفى كل ما هو متحرك من البشر والسيارات خاصة التي من المعتاد أن يملأ ضجيجها المكان، مما خلق مشهدا صامتا يرين عليه الهدوء أو يستولى عليه الهدوء إذا أردنا الدقة، ويحيله كمشهد في صورة مطبوعة، صورة ثلاثية الأبعاد لا يرى فيها أو لا يحس، إلا بالهدوء والسكون ينثال كأنه مياه سيل جارف، يغرق في لجته العناصر الجامدة في المشهد، من بيوت وعمارات وشوارع وأعمدة إنارة وأشجار.

من عادته أن لا يستسلم للانتظار أبدا، فهو يكره أن يفرض عليه الانتظار شروطه، لذلك فقد خرج يمشي على قدميه على طول الشارع الذي يقطع الحي السكني نصفين، مشى، وكان المشي إحدى العادات الأثيرة إلى نفسه، مسافة طويلة وسط هدوء وسكون عجيب وانعدام تام للحركة فقد كان يمر على الأشجار على جانبي الطريق ويجدها جامدة الأوراق في أغصانها، لا تتحرك، بعد مسافة قطعها متوغلا في شارع جانبي، لاحظ بشكل مفاجئ، أول شيء يتحرك في ظل هذا المسرح الجامد، فقد رأى كلبا يتسكع بهدوء، لكن ما أن نظر إليه جفل هذا الكلب وولى الأدبار مرعوبا، دهشة الموقف جعلته يتذكر قط البيت الذي ولى هاربا وهو يهر مرعوبا من نظرته، بعد أن حاول الاقتراب منه بحركات مستأنسة معتادة عليها القطط من قبل مستأنسيها، ومتذكرا أيضا قفص الطيور في إحدى ردهات البيت، الذي ضج بكل الطيور التي يحويها بعويل صاخب مرعوب، ما أن اختلس نظرة إليها، حينها لم يجد صعوبة في الاستنتاج بأن الشيء الوحيد وسط هذا المسرح الجامد الذي يتحرك هي الحيوانات وإن كانت حركتها كما بدا له هي تعبير عن ردود أفعال متشنجة لا يدري ما سببها.

عندما وجد أنه لا شيء يلفت النظر في هذا المشوار، سوى ردود أفعال الحيوانات الغريبة والأشجار الجامدة التي تتدلى الأوراق من اغصانها بدون أن تتحرك أدنى حركة، قفل عائدا إلى البيت، قاصدا العودة إلى النقطة التي انطلق منها في هذا الصباح الجامد، فرغم أنه يعول على هذه العودة إلى البيت كثيرا، بأن يجد عائلته في البيت، يملئون أرجائه بهجة وسعادة، وهي النهاية السعيدة التي يأملها، والتي تخرجه من هذا الكابوس، لكن عودته كانت لغرض أهم-إذا لم يجد النهاية السعيدة التي يأملها- أن يذهب إلى النوم مباشرة، يعود إلى النقطة التي انطلق منها، يدخل كهف النوم، عله يستيقظ على واقع آخر بعد ذلك.

3

ترك لخطواته أن تحمله عائدا في ذات الطريق الذي يحفظ معالمه عن ظهر قلب، كل التفاصيل على جانبي الطريق ملتصقة في ذاكرته بحكم استخدامه الدائم لهذا الطريق في مشاوير تنزهه سواء وحده أو مع زوجته، مضى عائدا تقوده خطواته بثقة في البداية، لكن في النقطة الوسط من مشوار العودة، طرأ على خطواته الواثقة ما بدى تشويشا خلط بين معالم طريق العودة وتفاصيله، مع معالم وتفاصيل طرق أخرى في الذاكرة انثالت وتدفقت بها، كموجة حبر تغمر رسالة واضحة الخط والمضمون، رغم ذلك تغلب على التشويش والخلط الذي أصاب ذاكرته بقوة مقاومة جبارة، ووصل بصعوبة إلى بيته، ليجده خاويا كما تركه، توجه إلى غرفة النوم كما كان يأمل، استلقى على السرير ونام بدون مقاومة برغم ما يمور في رأسه من أفكار وهواجس، ترك رأسه فوق الوسادة ودخل غشوة النوم مباشرة.

امتلأ البيت بضجة ساكنيه، ها هو يستيقظ على صوت أولاده، أصواتهم تتصادى في أجواء البيت، خرج من غرفة النوم متلهفا للقائهم، أول ما استقبلته في الرواق المؤدي إلى صالة الجلوس، ابنته الصغيرة، ذات الخمسة أعوام المحببة إلى قلبه بدلالها، احتضنها بحرارة، لهفة اللقيا والاحتضان جعلته أقل تركيزا في الاستماع إلى شكواها من أخويها الذين يكبرانها بعدة سنوات، وهي شكوى تستحق الاستماع، عن مناكفة أخويها لها، ذهب إلى الصالة وهو يحملها في حضنه، كان الأخوين موجودين هناك غارقين في مشاهدة فقرة كرتونية على جهاز التلفزيون، ذهب واندمج بينهم وابنته الصغيرة تجلس على ركبتيه يحتضنها في سعادة، كاد يستغرق في هذه اللحظة السعيدة لولا أنه تذكر زوجته، شريكة عمره، ذهب لرؤيتها في المطبخ وكانت منهمكة في إعداد وجبة الإفطار، حياها بفرح وسعادة، وكانت ابتسامتها المرسومة على محياها، هي تلخيص للسعادة الغامرة التي يعيش فيها، والتي ها هو يستعيدها، كان يحلق وسط فرحة غامرة من حوله أفراد أسرته، وكان يعيش عمره في ذلك الصباح بسعادة وفرحة غامرة، وهل العمر إلا صباح مشرق جديد، ويوم جديد آخر يضاف إلى روزنامة هذا العمر، صباح مشرق يفيض بأنوار شمسه الوضاءة  من النوافذ المشرعة على الأمل، ويعم بضوئه أرجاء البيت.

 فجأة ظلام دامس يعم المكان طمس كل المعالم، كان وحده هناك يتلمس طريقة يفتش بإذنه على أصوات أحبائه متخيلا في ذهنه صورهم التي اختفت، يبحث في لوعة عنهم وسط هذا الاختفاء الدامس، فجأة يعود الضوء مرة أخرى، ضوء النهار هذه المرة، وهو يتدفق من نافذة غرفة النوم مشرق وضاء، يغمر عينيه وهو مستلقي على السرير يتمطى في كسل ما بعد الاستيقاظ من النوم.

 كم هاله أمر اكتشاف أن ما عاشه من لقاء واجتماع شمل، مع عائلته كان مجرد حلم ها هو يستيقظ منه ليعود إلى معايشة نفس الكابوس، كابوس حياة جامدة لا يوجد فيها أحد إلا هو، والجمادات من حوله.

4

برغم الحزن الذي أصابه، من جراء هذا الاكتشاف، وخيبة الأمل، إلا إنه لم يبلغ بعد مرحلة الانهيار، هو قوي بطبعه، لا يستسلم بسهولة، عركته الحياة، وعودته على قوة المقاومة ومواجهة أعتى الصعاب التي تواجهه، قدرته على التحمل والثبات في أصعب المواقف واقساها، كان ما يميزه في اختبار الحياه، الذي واجهه مرارا طوال الخمسة عقود من عمره التي عاشها.

لكي يستوعب ما يحدث له، ولكي يطلع على سبب هذا العطل الذي اصاب عالمه الصغير، ومعرفة جلية الأمر حول هذا الجمود والسكون الذي يلف المكان البيت والشارع والحي السكني بأجمعه، عليه أن يخرج ويتخطى إطار البيت، متجاوزا محيط الشارع والحي السكني، والمنطقة برمتها، لكي يقف على جلية هذا العطل، والجمود والسكون الذي يخيم على الأشياء من حوله، عليه أن يرى الأمر ويكتشف حقيقة ما يحدث، في الإطار الأوسع للمكان.

استسلم لخطواته تقوده، مشى على طول الشارع الذي يقسم الحي السكني، مضى وكأنه يقتفي خطواته خطوة بخطوة، حتى خرج نهائيا من محيط الحي السكني، دالفا بذات الخطوات التي ترسم مسارا مستقيما لا وجهة له، لكنه يتجنب تعدد الوجهات في ذات الوقت، دلف شوارعا تعبر أحياء سكنية، كل شارع يقود إلى الشارع الذي يليه، طالما أن خطواته تحافظ في مسارها المستقيم، نحو وجهة ثابتة، ليس بالضرورة أن تكون حقيقية، وكل الأحياء السكنية التي عبر من خلالها، يرين عليها السكون، بدون وجود أية تفاصيل تدل على الحياة، أو حضور لكائن حي وسط هذه الجمادات من البيوت والشوارع والأشجار وحشد السيارات المتوقفة بجمود أمام البيوت، لا يوجد أدنى إشارة على نبض حياة، في كل الشوارع والأحياء السكنية، التي جاسها وهو يقفوا خطواته، مستسلما لارتحال يبدو بأنه سيطول ماضيا بخطواته بدون توقف، باتجاه مسار يقود مباشرة إلى متاهة حقيقية، لا مجال من العودة منها، والتراجع للخلف، لم يعد هناك مجالا للعودة، بعد أن بدأ الجمود والسكون يغزو ذاكرته، فلم يعد يعرف شيئا من حوله، أبعد من خطواته التي لم يعد يثق فيها، فها هي تخونه وتقذف به في خضم متاهة لا رجعة منها.

5

كل ما بقى من ذاكرته التي خبت تفاصيلها واختفت أجزاء كبيرة ومهمة منها في عمق النسيان، إنه رهين صباح أبدي، يفيض بالسكون والجمود على كل شيء من حوله، وإنه الوحيد الذي يعيش في ظل هذا المسرح الجامد الغارق في سكون مرعب، وحيد وبلا ظل، فبرغم الضوء الثابت والجامد لهذا الصباح، لا يجد ظله منعكسا تحت شمس هذا الصباح، ليس له انعكاس ظل تحت أشعتها، أصبح الآن يتذكر بيته وعائلته بشكل غائم، أو أنه يتذكر فقط بأنه عالق في متاهة من المسير المفتوح الذي بلا نهاية، مسير طاف به أحياء سكنية ومدن وصحاري وسهول وجبال، لم يعد يتذكر وهو في خضم هذا المسير، من هو؟ .. وما هو بالضبط؟ لقد تلخصت كل كينونته التي كان يعيشها بشكل واعي حتى مغادرته الحي الذي يسكن فيه، تلخصت في قدمين تقدم قرابينها من الخطوات التي لا تنتهي ولا تتوقف، في حضرة متاهة رهيبة تطالب بالمزيد من الركض والاندفاع في مضمار مفتوح المسافة.

6

 برغم الضعف الذي أصاب ذاكرته، إلا أن هناك ومضات مضيئة بدأت تطفو في الذاكرة لديه، أو كأن صاعقة من الومضات أصابت ذاكرته فجأة،  كوى تنفتح في عتمة الذاكرة، تسلط الضوء على أحداث في حياته كأنها حدثت بالأمس القريب، ليس من الصعوبة استعادتها كأحداث طازجة، حيث أخذ يتذكر بجلاء وهو يستعيد هذه الأحداث، بأنه كان مريضا، تسعفه الومضات المضيئة لذاكرته، ليتأكد إلى حد اليقين، بأنه تقلب في أحضان المرض فترة طويلة امتدت لأشهر وربما بلغت هذه المدة وهو يصارع المرض، أكثر من سنة، تقريبا، لقد عانى فيها أشد المعاناة من هجمة المرض على جسده، ونهشه له بشكل عنيف في كل خلية من خلايا الجسد العليل.

في عمق الومضات المضيئة لذاكرته يستطيع الآن أن يركب صور الأحداث التي مر بها أو التي عاشها، يركبها يشكل متتالي لا يهمل أدنى تفصيل من تفاصيلها والتي عاشها وعانى من صعوبتها، فهو يتذكر بشكل واضح الليلة الأولى للأزمة التي فجرت هذه الأحداث بشكل مفاجئ وخطير، تلك الليلة التي سبقت الزيارة التي قام بها بشكل طارئ إلى طبيب المستشفى الخاص، الذي تأمينه الصحي يتيح له التمتع بخدماته عالية الكلفة، يتذكر في تلك الليلة هاجمه بعد تناوله وجبة العشاء، مغص شديد، مخلب من الآلام يمزق أحشائه بعنف، جعله يتقلب من أثر المعاناة طوال الليل، لم تأت بنتيجة تذكر الإسعافات التي قدمتها له زوجته المصدومة والمتأثرة بهذه الآلام التي تنهش في جسد زوجها، حيث قدمت له أصنافا من المسكنات، ومن الأشربة التي تخفف احتدامات المعدة، وتهدئ من الألم، لكن بدون فائدة، إلى أن سرقه النوم في غمرة معاناته وتعبه، ليدخل في غمار غفوة قصيرة، ليستيقظ بعدها على أعتاب الفجر، مستأنفا معاناته مع هذا المغص الذي ينهش امعائه.

في بداية الصباح كان أول الزائرين للمستشفى الخاص جلس قبالة الطبيب، وهو يتلوى من الألم، بحيادية مهنية جافة، سأله الطبيب عدة أسئلة، وكأنما يعرضه لسلطة التحقيق تحت نير الألم، بدافع  تخمين المرض الذي بعاني منه، وبدون أن ينبس ببنت شفه له عن أسباب هذا الألم الذي يعتصر جسده، أرسله بشكل مستعجل لإجراء فحوصات شاملة، منذ اجرائه للفحوصات المخبرية، وطوال المدة التي استغرقها في انتظار النتيجة، كان بلا هوية مرضية، مجرد مريض تعتصره الآلام، بانتظار هوية مرضية تتيح له خطة علاج تنقذه من معاناته، وفق التشخيص الذي يحدد على ضوئه المرض.

لقد كانت تخمينات الطبيب في محلها، فقد كان مرض السرطان( سرطان المعدة) هو ما ينهش في معدته، مسببا له هذه الآلام المبرحة، تخمينات تثبتها الفحوصات المخبرية وكأن ليس من دور للطبيب في هذه الحال سوى أن يخمن، والفحوصات المخبرية هي ما تؤكد تخمينه.

 حالته المرضية ميؤوس منها، كما أخبره الطبيب بلغة اختصاصية لا يشوبها أقل شبهة لتعاطف أو تأثر، تند عنه كإنسان، ناحية إنسان يقف بلا حول ولا قوة أمام قدره.

 لقد تعامل مع اليأس في مراحل سابقة من حياته، بشيء من التجاهل، لم يعترف باليأس ليكون له موطئ قدم في طريقه، لكن هذا يأس من نوع آخر، يسد عليه طريقه هذه ولا يجعله يتحرك خطوة واحدة، يأس لم يعتد عليه في حياته، التي تحدت كل أنواع اليأس في طريقها، يأس بشهادة طبيب بأنه لا مجال للتحدي ولا قدرة على المقاومة، حيث الاستسلام حتمي هذه المرة، هذا ما تقوله شهادة الطبيب، التي تأتي تأكيدا لتخميناته، التي أثبتتها الفحوصات المخبرية.

بعد سنة من مكابدته المرض في جسده وإحساسه بقسوة الألم في كل خلية فيه، انهار الجسد ودخل في غيبوبة، غيبوبة ابتلعته هو كذات واعية بقسوة الألم والمعاناة التي كابدها طوال أشهر من مرض السرطان،  وغاصت به في أعماقها السحيقة المظلمة، غارقا بما يشبه الثقل المنحدر من الأعلى إلى الأسفل، في كنف قاع معتم دامس الظلمة، قبل أن يجد نفسه في خضم شعور ما بين الحلم واليقظة، وهو يقطع نفقا مضيئا، قاده إلى الاستيقاظ في صباح جامد، حيث الأمكنة في هذا الصباح خالية من أي كائن، يقف وحده في مسرح يلفه الصمت والجمود وكأنه الممثل الوحيد على خشبته، يؤدي دوره بدون حضور أحد، وهذا ما جعله في النهاية يواجه بجزع حقيقة إنه ميت، لفضته الحياة خارجها.    

أدب فلسفة

عن الكاتب

أحمد الرحبي