العنف في الحروب الأهلية

كتب بواسطة مصطفى شلش

يشهد الشرق الأوسط ظاهرتين مرتبطتين لكنهما متميزتين، وتجتذبا اهتمامًا متزايدًا هما: العنف العرقي، والحرب الأهلية. ويقود هذا الاهتمام تطورين سياسيين ينعكسا على النطاق الجُغرافي: التطور الأول، تراجع الحروب بين الدول، وتصاعد الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية (سوريا، ليبيا، اليمن، السودان، جنوب السودان، الصومال، لبنان…)، التطور الثاني: صعود الصراعات الأهلية المصنفة على إنها اقتتال أيديولوجي، وعرقي.

يطرح عالم السياسة اليوناني المختص في الحروب الأهلية ستاثيس كاليفاس في كتابه “منطق العنف في الحروب الأهلية – الذي تُرجم مؤخرًا للعربية بواسطة المترجم: عبيدة عامر، عن دار جامعة حمد بن خليفة، 2022 “، أربعة أسئلة مترابطة قد تفسر هذا التطور في نمط العُنف المُسلح خصوصًا في الشرق الأوسط الآن، وهي:

  1. ما الذي يفسر تنوع العنف في الحرب الأهلية؟
  2. لماذا الحروب الأهلية وحشية؟
  3. ما هو الارتباط السببي بين الولاءات الموجودة مسبقًا والعنف؟
  4. كيف ترتبط أسباب الحرب على المستوى الكلي بنمط العنف على الأرض؟

تنبع إجابات كاليفاس على الأسئلة أعلاه بناءً على قراءات ميدانية شكك مِن خلالها في القراءة التقليدية التي تُرجع سبب العنف الأهلي إلى الانقسامات الاجتماعية ما قبل الصراع، مُقترحًا نظرية عن “العنف الانتقائي” أو “خصخصة” سياسات الحرب الأهلية عبر بروز دوافع الصراعات الشخصية.

كما يعيد كاليفاس تعريف مصطلح “العنف” الذي يفتقر إلى الاستقلالية المفاهيمية: وعادة ما يستخدم كمُرادف لكلمة “الصراع”. ومن ثم فإن معظم الإشارات إلى العنف العرقي، على سبيل المثال، تشير إلى الصراع العرقي، وليس العنف الفعلي الذي يحدث في سياق الصراع. موضحًا أن العنف ليس مجرد درجة من الصراع ولكنه شكل من أشكال الصراع، أي شكل من أشكال العمل الاجتماعي والسياسي. ومن ثم فإن ما يُحاول كاليفاس أن يحدده ليس ما يسبب الحرب الأهلية ولكن بالأحرى ما الذي يسبب العنف الوحشي داخل الحرب الأهلية.

يجادل كاليفاس أن الحروب الأهلية هي حروب غير تقليدية أو غير نظامية، وهي نمط مِن الصراع يؤدي إلى تغير طبيعة السيادة بطريقة أساسية. وفي الحرب غير النظامية تختلف السيادة الإقليمية حسب المناطق بين طرفين متنافسين، والحدود بين المناطق الخاضعة للسيطرة غير واضحة. وهدف كل طرف في الصراع هو فرض السيطرة على المناطق المتنازع عليها، ومع طول مُدة الحرب الأهلية، تُحدد السيطرة مستوى تعاون السكان المحليين، لذا يُصبح الحصول على السيطرة يُحدد بالفعالية العسكرية التي تُقاس بمدى تكلفة وفوضى الحرب الأهلية. وبالتالي، يصبح السؤال في الحرب الأهلية هو عن كيفية استخدام القدرة العسكرية المتاحة للإكراه إلى أقصى حد.

يفترض كاليفاس أن الجهات المتصارعة في الحرب الأهلية لديها خياران قسريان، هما:

  1. العنف الانتقائي: خاص باستهداف المدنيين عبر عُنف محدود لضمان تعاونهم، والذي بدوره يتطلب بعض السيطرة.
  2. العنف العشوائي: يُمكن للسلطات استخدام العنف العشوائي، والذي يتضمن استهدافًا جماعيًا للسكان لعملية ردع واسعة للتمرد.

لكن، فيما يخص العُنف العشوائي يُجادل كاليفاس بأنه نمط عُنفي لا يمكن أن يؤدي بشكل موثوق إلى الامتثال وقد يؤدي إلى نتائج عكسية، لأنه لا يوفر هيكلًا واضحًا لحوافز التعاون ما قد يجعل الكُتلة المدنية المُستهدفة للسيطرة تزيد من تمردها.  في المقابل، فإن العنف الانتقائي هو استراتيجية ردع فعالة للغاية، على الرغم من صعوبة وتكلفة التحقق من معلومات المتعاونين، لأنه يخلق تصورًا بأن الفاعلين السياسيين يمكنهم مراقبة سلوك المتمردين ومعاقبتهم.

وبالتالي، مع الأخذ في الاعتبار تكاليف استخدام العنف، يتوصل كاليفاس لعدة استنتاجات أبرزها أن:

  1. أن الأطراف المُتصارعة خلال الحرب الأهلية لديهم حافز لاستخدام العنف الانتقائي (القتل) فقط في المناطق التي يتمتعون فيها بسيطرة آمنة ولكن سيطرة غير كاملة وذلك لردع المنشقين المحتملين وتعزيز سيطرتهم على المنطقة.
  2. يميل أحد الأطراف المتصارعة لاستخدام العنف العشوائي عندما يستهدف منطقة ليس له سيطرة عليها.
  3. يكون هناك القليل من العنف الانتقائي أو العشوائي أو لن يكون هناك أي عنف بمناطق التكافؤ في السيطرة.

وعلى عكس القمع الاستبدادي والإبادة الجماعية، فإن عنف الحرب الأهلية ليس من جانب واحد، بل به على الأقل طرفي صراع يتمتعان باحتكار متقطع للعنف. وعادة ما يكون هذا الاحتكار غير مستقر ومجزأ، لأن الهدف النهائي للحرب الأهلية هو إما إعادة احتكار العنف المشروع أو استبداله باحتكار محلي دائم لعنف مشروع آخر (الانفصال). لذا غالبًا ما يتمتع المدنيين في ظل الحرب الأهلية في المناطق الخاضعة للصراع بدرجة من الاختيار في تحويل الولاء والموارد إلى أي طرف مُتصارع حسب المصلحة الشخصية،  وهذه التحولات مهمة لأنها تؤثر على نتيجة الصراع. وهذه الخاصية هي التي تعطي عنف الحرب الأهلية بُعدها الاستراتيجي.

لكن ما الذي يحدد توزيع الدعم المدني؟ غالبًا ما تعاني الإجابة على هذا السؤال مِن قصور نتيجة الافتراض بأن الدعم المدني مقدَّم بناءً على الانقسامات الاجتماعية (سواء كانت من الطبقة أو العرق) وأنه خارجي عن الحرب نفسها، في حين أنه من الصحيح أن النزاعات الموجودة مسبقًا تؤثر على هيكل التفضيل الأولي لمجموعات معينة، إلا أنه من الصحيح أيضًا أن هياكل التفضيل الأولية تتأثر بالحرب: ويمكن إعادة تحديد التفضيلات والهويات أثناء الحرب، ردًا على ديناميات الحرب – لا سيما في الرد على العنف.

وبغض النظر عن مقدار التعاطف الذي يشعر به السكان المحليون المدنيون تجاه طرف ما مِن الصراع، فمن المحتمل أن تكون هناك حوافز قوية لعدد قليل من الأفراد على الأقل “للانشقاق”، أي تقديم المساعدة والتأييد إلى الطرف الآخر. ويعتمد التعاون المدني الكامل بالتأكيد على توفير منافع مادية وغير مادية انتقائية، لكنه يتوقف في النهاية على إنشاء احتكار للعنف – أو السيطرة. وبهذا المعنى، فإن مفتاح هزيمة الخصم في الحرب الأهلية هو التحكم في الوصول إلى السكان المدنيين، وبالتالي، حرمان الخصم من التواصل مع المدنيين هذا هو هدف كل من المتمردين والسلطة.

فمن ناحية، يؤسس المتمردون احتكارهم لوسائل السيطرة في منطقة (نائية عادةً) من البلاد، ويكون جزء من استراتيجيتهم هو القضاء على ممثلي الدولة الرسميين (الجيش، والشرطة، إلخ) وغير الرسميين (المشتبه بهم من المخبرين والمتعاونين المدنيين). ومن ناحية أخرى، تعتمد السلطة على مجموعة من الاستراتيجيات (المعروفة غالبًا باسم “مكافحة التمرد”) التي يتمثل هدفها الرئيسي في حرمان المتمردين من الدعم المدني. ويمكن تحقيق ذلك بعدة طرق. على سبيل المثال، يمكن للسلطة اللجوء لأعمال انتقامية وحشية ضد المدنيين وفرض عقوبات جماعية على الحالات الفردية للتعاون مع المتمردين/الثوار.

على الرغم من أهمية الفوائد المادية وغير المادية في المراحل الأولى من الحرب الأهلية، وبمجرد تصاعد العنف إلى “حرق المدينة”، يصبح بقاء الأفراد هو الأولوية الرئيسية لمعظم القوى المتصارعة -بغض النظر عن تفضيلاتهم السياسية-. وسيهتم معظم المدنيين بشكل متزايد ببقائهم على قيد الحياة وسيؤثر هذا الاعتبار على الخيارات التي سيتخذونها.

لذا يخلص كاليفاس إن أعمال العنف التي تبدو ظاهريًا (وللمراقبين الخارجيين) ناتجة عن دوافع سياسية أو أيديولوجية حصريًا غالبًا ما يُكتشف بعد فحص دقيق أن الأمر ليس بسبب السياسة ولكن بسبب الكراهية الشخصية والثأر والحسد. حيث يشير كاليفاس إلى أن الدوافع السياسية الظاهرة غالبًا ما تكمن وراء العداوات الشخصية والخلافات العائلية والانقسامات المحلية.

هذه الاستنتاجات تتعارض مع العديد من النظريات التي تشير إلى أن العنف يكون أكثر حدة في المناطق الأكثر تنازعًا (مثل: نظرية هوبز، والتي مفادها أن انهيار الدولة يتيح فرصة لحرب الكُل ضد الكُل، وقد تكون دولة الصومال نموذجًا على هذا إلا أن الحرب لم تتمدد لكل أطراف المجتمع. ونظرية كارل شميت، والتي مفادها أن الانقسام المجتمعي يأدي لاستقطاب ينتج عنه حرب أهلية).

أخيرًا، يُقدم نموذج الحرب الأهلية لكاليفاس افتراضات أخرى تختلف عن غيرها، فهو يعتبر الحرب الأهلية ليست مجرد ترجمة للاستقطاب السياسي الموجود مسبقًا. مؤكدًا أن عمليات نزع الصفة الإنسانية عن الآخرين تستغرق وقتًا لتتطور ولا تظهر إلا بعد عدد من الحوادث. لذا يجب أن تُولِد نظرية عنف الحرب الأهلية فرضيات قادرة على تفسير تنوع العنف عبر المكان والزمان والأطراف المتصارعة.

سياسة مختارات السياسة

عن الكاتب

مصطفى شلش