“برناردين إيفاريستو”…شارِك أسرارك و كُن شجاعاً !

كتب بواسطة مايكل مارتن

أجرى الحوار : مايكل مارتن
ترجمة : شيرين ماهر

لم يأتِ نجاح الكاتبة البريطانية “برناردين إيفاريستو” إلا بعد أن بلغت الستين من عمرها، حيث فازت روايتها “فتاة، امرأة، أخرى”، الصادرة عام 2019، بجائزة البوكر العالمية، لتكون بذلك أول امرأة سمراء اللون تنتزع الجائزة على مدار تاريخها الممتد 53 عامًا. امتلكت “إيفاريستو” جمهوراً عريضاً منذ ذلك الحين من جميع أنحاء العالم، فقد كان لها رحلة طويلة مع الكتابة المسرحية ونظم الشعر وفن كتابة القصة القصيرة، حيث كرست أغلب انتاجها الأدبي لمعالجة مفهوم الشتات الأفريقي. هي الآن تكتب مذكراتها، كي تقدم من خلالها فلسفتها الحياتية، والتي تجدها بدرجة من الصدق والإلهام لتثير مشاعر السعادة لدى من يقرأها، خاصة وأن رحلتها في الحياة بمثابة قصة تمكين معاصرة عن بطلة لم يتم الاعتراف بها إلا منذ فترة قريبة. فالشهرة التي تستحقها جاءتها متأخرة، لكنها سعيدة بكل مراحل عمرها وراضية تماماً عن أدائها الحياتي والمهني.

منذ وقت طويل قبل أن تصبح نجمة في عالم الأدب، كانت دائماً على يقين أن لديها ما تقوله وما يستحق أن يطلع عليه الأخرون. مذكراتها التي حملت عنوان “مانفيستو : في عدم الاستسلام” تروي قصة هذه الرحلة التي خاضتها مع ذاتها لمعرفة ما تريد قوله والكيفية التي تقوله بها. إنه سرد مباشر ثاقب للخطوات العديدة التي اتخذتها والعقبات التي تغلبت عليها، ليس فقط لتقص رحلتها الشخصية، ولكن للاحتفاء بها، بل ودعوة الآخرين لفعل الشيء نفسه.. تتحدث “إيفاريستو” عن التمثيل المنقوص للكُتاب السود في المشهد الأدبي البريطاني، حيث تقول في مقدمة كتابها :” لقد رأيت أنه من واجبي التغلب على شكوكي الشخصية ونقاط ضعفي من أجل أن أنجح في عالم الكتابة.. وحصولي على البوكر في سن متأخرة، جعل لحظاتي الأكثر سطوعاً أمامي وليست خلفي”… وفي حوار أجراه معها موقع “NPR” حول مؤلفها الجديد، تقص “إيفاريستو” لجمهورها لماذا ترى أن مذكراتها جديرة حقاً بالقراءة والاطلاع؟!
***
تُرى ما الذي ألهمكِ لكتابة هذا المذكرات الآن تحديداً، بعد النجاح الهائل الذي حققته روايتكِ الحائزة على جائزة البوكر العالمية؟
حسنا، لقد شرعت في كتابة مذكراتي، لأنني وصلت إلى هذه المرحلة من مسيرتي المهنية. كنت أتفاوض مع دار النشر حول كتابي التالي. وشعرت أنني لا أستطيع كتابة رواية أخرى. كنت قد كتبت روايتي “فتاة، امرأة، أخرى” ليتشارك في أحداثها 12 بطلًا. لقد كان هذا، في الواقع، متطلبًا صعبًا للغاية، فضلاً عن كونه ممتعًا أيضاً. لكنه أرهقني، بلا شك، لذلك لم أستطع التفكير في مشروع مشابه. و لم أكن أرغب أيضاً في أن يَعقِد قُرائي مقارنة سريعة ما بين كتابي التالي وروايتي السابقة. ومن ثمة، قلت لنفسي : “لماذا لا أكتب عن حياتي وأتشارك تفاصيلها مع القراء؟”.. هكذا خرجت الفكرة إلى النور وبدأت تتبلور ملامحها في رأسي.

لا أنكر أنني تفاجأت بمدى صراحتك حول الأشياء التي يراوغ الكثير منّا في الإفصاح عنها.. أعني، إنك تتحدثين في الأمر بمرونة، وهو شيء جيد أن تكتبين الكثير عن طفولتك، ونشأتك بين الأعراق المختلطة وسط أجواء ثنائية العرق، كما نطلق عليها، في لندن.. تتحدثين عن حقيقة قاسية في حياة البعض. كما تعلمين، هناك أوقات لا يريد أصحاب البشرة السمراء الاعتراف بأبائهم ذوي الأصول الأفريقية. فعلى سبيل المثال، عندما كنتِ طفلة، إذا رأيتِ والدك في أحد الطرقات، هل كنت تديرين ظهرك ولا تبغين الاعتراف به؟ وهل تسبب ذلك في جعلك تشعرين بنوع من الخجل من كونك سمراء البشرة أو ممن نطلق عليهم “ثنائيي العرق”؟ هل ترك ذلك غصة في حلقك؟ لا أقصد أن تحكمي على نفسك أو الأخرين.. لكنه مجرد فضول لمعرفة إذا ما كان يعتريكِ ذلك الشعور دائماً.. أكان ذلك شيئًا عليك أن تقاتلين من أجله عند الشروع في كتابة مذكراتك؟
ككاتبة روائية، تعلمت ألا أصدر أحكاماً استباقية على شخصياتي. كما تعلم، فأنا أترك للقارئ مساحته الحرة في الحكم عليهم إذا كان هذا ما يريدون فعله. كل ما أحرص عليه هو بناء هذه الشخصيات المثيرة والرائعة والمعقدة التي تتحرك داخل مساحتي التخيلية التي أصنعها.. ربما قررت كتابة مذكراتي، لأنني أرددت أن أكتب عن تجربتي الخاصة. كما تقول، عن نشأتي في لندن في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي والكثير من الأشياء الأخرى المتعلقة بحياتي الناضجة أيضًا. لقد نشأت في مدينة يغلب عليها السكان من ذوي البشرة البيضاء. لا يوجد شيء الآن من حولنا كما كان في طفولتي- كل شيء حولي الآن يعزز هويتي السمراء. في طفولتي، كنت أنظر إلى والدي ذي البشرة الداكنة ولا أجد أي علاقة له بنا سوي اللون، لذلك لم تربطني به أي علاقة قوية. لقد كان يمثل، آنذاك، رمزًا للعنصرية في المجتمع من حولي. لذلك وأنا في الحادية عشر من عمري، كنت أشعر بإحراج شديد من والدي. ولازمني هذا الشعور لاحقًا أيضًا. وهو أمر مثير للاهتمام للقارئ يدفعه للاطلاع بالتأكيد، خاصة في ظل وجود مشتركات. وأعتقد أنه عندما تكون أكثر صدقًا وانفتاحًا مع قراءك لدرجة تجعلهم يثقون بك، ينجح كتابك آنذاك في خلق مساحة من الارتباط الحقيقي بين المؤلف والقارئ.

أجد ذلك جديرًا بالملاحظة لأنك، كما تعلمين، تضعيه في سياق (لا تفهموني بشكل خاطئ).. لا أريد أن يعتقد الناس أنكِ لم تتعاطفي مع والدك تمامًا. بل على العكس، يبدو لي أنكِ تكنين له تعاطفًا عميقًا. لكنكِ تحاولين وضع سلوكه في سياق أكبر دون أي محاولة للتبرير. أقصد، أنكِ تحاكين ما فعله الكُتّاب ذوو البشرة السمراء، على حد تجربتي، إذ تمكنوا خلال السنوات الأخيرة فقط من التعبير عن أحد أشكال الانتقاد للطريقة التي تربوا بها، مثل أشكال الإساءة المختلفة والعنف الذي عانى منه الكثير منهم، أليس كذلك؟! لكنك تصفين أيضًا القوى الدافعة والمحركة التي أوصلتهم إلى هذا الحال. أتساءل إذا ما كان انتابك شعور بأنه يتوجب عليكِ أن تقاتلين من أجل ذلك ومن أجل أن ترى مذكراتك النور.. هل أدركتِ بالفعل ما كان يجب عليك فعله آنذاك؟ هل أدركتِ قيمة أن تعبرين عن هذه المشاعر الخاصة وتطلقين سراحها للعامة؟
كنت أدرك ما يجب علىّ أن أقوله، إلى حد ما. لكنني أعتقد، أيضًا، أن كتابة مذكرات- كتاب عن حياتك كما أسميها- إنما هو عمل ضخم ينطوي على كثير من المجازفة واستجوابات الذات. لذلك علمت أنه يجب علىّ أن أقول الحقيقة دون مواربة. لكنني أثناء تأليف الكتاب، أعدت التفكير كثيراً وبعمق في أشياء كثيرة وما حولها. الأمر يتعلق، كما تعلم، ليس بالحديث عني وحدي، لكنه يتعلق أيضاً بالحديث عن عائلتي وإرثي وذكرياتي ووالدي. لم يكن من الضروري الوصول إلى تفاهمات جديدة، ولكن كان لابد من تعميق السياق أو حتى توسيع رقعته، ليعرف الجمهور هؤلاء عن كثب. نعم، كان والدي قاسياً وجائراً في معاملتنا كأطفال. لم يتحدث إلينا قط. لم يلعب معنا قط. لم يذهب معنا إلى أي مكان. رغم كونه أيضًا أبًا موثوقًا به ومسؤولًا، لكن لابد لي أن أقول أنه هزم أبوته داخلنا بقسوة غير مبررة. لقد كانت له خلفية ثقافية اكتسبها من مسقط رأسه في نيجيريا حيث لا يتم الاستماع إلى الأطفال أو تجاذب اطراف الحديث معهم .من الواضح أنه لم يستطع التخلص من تلك الثقافة رغم كونه يعيش تحت مظلة الثقافة البريطانية التي كانت تربي الأطفال بشكل مختلف تماماً. لذلك من الصعب جدًا، بالنسبة لي، ألا أحاول فهم الدوافع والسياقات الثقافية التي تجعل الناس يتصرفون بالطريقة التي يتصرفون بها. وهذا شيء أفكر فيه كثيرًا، وأدرب خيالي عليه مراراً بوصفي كاتبة. هذا يساعدني، بدرجة كبيرة، لاستدعاء الأفكار والأحداث أثناء الشروع في الكتابة.

هل لديك أي نصيحة فيما يخص فن كتابة المذكرات باعتبارها تمثل تحديًا للأفراد فيما يخص سرد قصصهم الشخصية ؟ وهل لديك بعض النصائح للأشخاص الذين يتطلعون إلى الكتابة بصدق وقدر كبير من المكاشفة ، ولكن تساورهم المخاوف أو لا يعرفون من أين يمكنهم البدء ؟
إحدى النصائح التي يمكنني تقديمها هي ضرورة امتلاك العزم لمواصلة كتابة هذه المذكرات مهما كان حجم الصعوبات. أقصد بذلك الكتابة عن كل المراحل المختلفة داخل دائرة السرد. عن نفسي، عندما وصلت في مذكراتي للحديث عن أوضاعنا المعيشية. فكرت، هل أريد أن يعرف الناس كم كانت هذه الأوضاع قاسية؟ وإلى متى استمرت هذه الأوضاع بهذا السوء؟ ووصلت إلى قناعة، أنني أريد أن أكون صادقة تماماً، وقررت أن أضع تفاصيل ذلك في مكانها السردي الحقيقي. هذا ما يحتاج الناس إلى معرفته. ثم وصلت إلى المرحلة الخاصة بعلاقتي المختلفة مع الأشخاص. وفكرت مرة أخرى.. هل أريد حقًا أن أخبر الناس عن ذلك؟ ماذا أفعل؟ وإلى أي مدى أريد أن أصطحب القُراء إلى داخل حياتي؟ إلى أي مدى أريد أن أكون كاشفة معهم؟ قضيت ليلتين مضطربة في نومي أحاول أن أفكر في الأمر جيدًا، هل سأمضي في كتابة ذلك حقاً؟ أنا في الواقع شخص كتوم وشديد الخصوصية طوال حياتي. وشعرت بالمخاطر تطاردني، والتي ربما وقعت بها جراء كتابة هذه المذكرات بهذا القدر من الشفافية والمصداقية. لكنني قررت أنه ينبغي أن أكون شجاعة في مواجهة نفسي والأخرين .بالطبع انتابتني مشاعر مقاومة. لكنني أدركت في النهاية كم سيكون ذلك رائعًا للقارئ، لأنني بالفعل قررت الحديث عن بعض أسراري. لقد قررت للتو مشاركة أسراري مع القراء. وعندما تشارك أسرارك، فأنت تتحدث أيضًا عن أسرار الآخرين وتجعلهم يفكرون في حياتهم من خلالك وعبر الولوج إلى عالمك. هذه هي النصيحة التي أقدمها لمن يريد أن يكتب عن حياته :”شارِك أسرارك، وكن شجاعًا ! تحدث عن تلك القصص التي لم تتحدث عنها قط ! هذا هو حقاً أكثر ما نحتاج إلى سماعه”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رابط الموضوع:

https://www.npr.org/2022/01/22/1075108320/girl-woman-other-author-bernardine-evaristo-on-new-memoir-about-perseverance

أدب ترجمات حوارات

عن الكاتب

مايكل مارتن