وجهة نظر سلطان عُمان حول إسرائيل والفلسطينيين؟

كتب بواسطة جاريد كوشنر

مقتطف من كتاب يصدر قريبا لمستشار ترامب جاريد كوشنر بعنوان “كسر التاريخ: مذكرات البيت الأبيض”: الفصل 28.

ترجمة: علي المجيني

في الثالث والعشرين من فبراير [عام 2019]، توجهتُ وآفي بيركوفيتز، جيسون جرينبلات، وبرايان هوك إلى الشرق الأوسط. تَضَمّنَ الرحلة زيارتنا الأولى إلى سلطنة عُمان الواقعة إستراتيجيا على مدخل الخليج الفارسي [العربي]، والتي تشترك في حدودها مع كلٍّ من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة واليمن. ويفصلها مضيق هرمز عن إيران بمسافة 21 ميلًا فقط. بعد وصولنا في الظهيرة، توجهنا مباشرةً إلى الفندق منتظرينَ اتصالًا من القصر حول موعد العشاء مع السلطان.

في بهو الفندق، صادفنا الصحفي توماس فريدمان. كاتب عمود في صحيفة نيويورك تايمز وخبير في شؤون الشرق الأوسط، والذي كان في عمان لإلقاء خطاب ما. أثناء تناول القهوة، أخبرني أنه يتابع جهودي عن كثب كما أعرب عن تقديره للطريقة المختلفة التي نتبعها في المفاوضات. حيث وعلى عكس من سبقونا لم نحاول لعب دور الوسيط المحايد، بل نقف بثباتٍ وبسالة مع إسرائيل بشأن السياساتِ التي اتفقنا عليها معهم، موقنين أن ذلك سيعمل على تأمين مناخٍ مليء بالثقة مع الإسرائيليين. ذكّرني توماس بقاعدته الأساسية حول المنطقة: ” في الشرق الأوسط، تحدث التغيّرات حين يقدم كبار اللاعبين على حركة صحيحة للأسباب الخاطئة” وأردف بإصرار كبير على أننا إن لم نكن نخطط لعرض دولة للفلسطينيين فإن كل جهودنا ستذهب هباءً. ولعدم رغبتي بكشف أوراقي أمام صحفيّ، قلت له أننا في خضم العمل على كل هذه القضايا وأننا نحاول الاستفادة من علاقتنا القوية مع إسرائيل.

بعد فترة وجيزة من تناول القهوة تلقينا مكالمة من القصر. حان الوقت للقاء السلطان قابوس بن سعيد آل سعيد. أحد أبرز الرموز في الشرق الأوسط. يعدُّ قابوس الوريث [الثاني عشر] للملك المؤسس لدولة البوسعيد في عمان. كما كان قابوس القائد الأطول حكمًا في المنطقة والعضو المؤسس الوحيد في دول مجلس التعاون الذي كان لا يزال على قيد الحياة في ذلك الوقت. عمل قابوس منذ الإطاحة بوالده في انقلاب مدعوم من بريطانيا عام 1970 على إصلاحات مهمة بوتيرة ممنهجة. خلال فترة حكمه التي استمرت نصف قرن تقريبًا، ألغى العبودية، واعترف بحق المرأة في التصويت، وعمل على إنشاء بنية تحتية حديثة. وعمل على تحويل بلاده من أرضٍ تعاني من الفقر والعزلة إلى دولة ذات اقتصاد مزدهر ومتنوع، ما أكسب عمان احترام جيرانها. على غرار معظم الدول العربية، لم يكن لسلطنة عمان علاقات دبلوماسية رسمية مع إسرائيل، لكن السلطان كان قد استضاف نتنياهو مؤخرًا في زيارة رسمية. كان ذلكً خبرًا صادما فاجأ مجتمع الاستخبارات الأمريكي، والذي فسر هذه الخطوة على أنها مؤشر على نجاح جهودنا في تغيير الانطباعات في المنطقة.

اصطحبنا أحد مسؤولي القصر فور وصولنا إلى غرفة استقبال مهيبة التقينا فيها بثلاثة وزراء رفيعي المستوى. كانوا يرتدون الزي العماني التقليدي مع عمائم وخناجر مرصعة بالأحجار الكريمة على أحزمتها. تبادلنا المجاملات الرسمية بينما كنا ننتظر السلطان بترقب. مرت نصف ساعة، ثم أخرى. عملنا على ألا نظهر جوعنا وإرهاقنا خلال الدردشة. ربما كان علينا أن نوضح ذلك. لأننا لم نُعطَ أي إشارة على موعد وصول السلطان. أخيرًا، في تمام العاشرة مساءً وبعد ساعتين من الانتظار أعلن أحد المسؤولين أن السلطان جاهز. اُصْطُحِبنا إلى غرفة اجتماعات خالية من النوافذ، بجدران مغطاةٍ بألواح الماهوجني* تصطف على جانبيها الكراسي. لم يبدُ لأعيننا أي أثر للطعام، ولا حتى طاولة طعام. هَمَسَ (هوك) لـ(آفي): “أعتقد أننا لن نتناول العشاء هذه الليلة”.

حيّانا السلطان -وهو رجلٌ ضئيل الهيئةِ بلحية مشذبة بعناية وعمامةٍ ملكية- بحرارة ودفء. سُلوكُه المُعتدّ والمتأني أشعرنا بهالة تحيط بهِ كان قد اكتسبها من تجربة دامت خمس عقودٍ في المنطقة الأكثر قسوة على الصعيد الجيوسياسي.

خلال تقديم أنفسنا طرحتُ أسئلةً حول التاريخ وبعض الشخصيات في منطقة الشرق الأوسط. على خلافِ معظم قادة المنطقة الذين يميلون إلى أن يكونوا حيويين ونشيطين وحتى عاطفيين، أدهشني هدوء شخصية السلطان، خصوصًا حينما أخبرني قصةً عن إقدام أحد جيرانه على قتله، ثم وببرود بالغ أوضح أنهم قاموا بحلّ المسألة، وأنه لا يحمل أي ضغينة الآن. أدهشتني كثيرًا الطريقة التي روى بها القصة. لكن، ربما لم يكن عليّ أن أندهش لهذا الحدَ. حيثُ كان قد انتصر في معاركه لأنه كان يختارها بالقدر اللازم من الحصافة والدهاء. وكان يتقدم بخطواتٍ ثابتة وفق وتيرةٍ خاصة. كان يعرف نقاط قوته، ونقاط ضعفه. وكان يصبّ تركيزه دائمًا على المدى الطويل.

استمر الحديث وعند وصولنا للمسألة الفلسطينية، أعرب السلطان عن رأيه الذي كنت قد سمعته من غالبية الحكام في المنطقة. إلا أنه نجح في تشخيص جوهر القضية بدقة ووضوح مثيرين للإعجاب: إن العنصر الأهم في طريق تحقيق السلام العربي الإسرائيلي هو إمكانية الوصول للمسجد الأقصى في الحرم القدسي. وذهب السلطان في رأيه إلى ما هو أبعد من آراء القادة الآخرين حيث أعرب عن خيبة أمله من وسائل الإعلام العربية التي تنشر منذ سنوات رواية مُضللة حول رغبة إسرائيل في تدمير المسجد الأقصى. هذه الكذبة يصدّقها بشكل واسع عدد كبير من الدول الإسلامية، ولذلك يجب الوقوف عليها. كما أعرب بوضوح عن تعاطفه مع عبّاس. شارحًا كيف أن القادة العرب وعلى مدار سنوات عملوا على تأجيج الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين لصرف الانتباه عن تقصيرهم المحلي، وكذلك لحشد الدعم الشعبي.

كان السلطان صريحًا بشأن الضغوطات العلنية التي مارستها الدول العربية على الفلسطينيين للوقوف في وجه إسرائيل، واصمين كل من لا يفعل ذلك بالخيانة. ثم فاجئني باعترافه بأن كل هذه التصريحات العلنية كانت تتناقض مع ما يقوله القادة العرب في الغرف المغلقة، حيث توفر هذه الغرف أريحيةً للاعتراف بالمنافع التي جلبتها إسرائيل للمنطقة. وتوقّّع أن النفاق لن ينتهي إلا عندما يصرح القادة علانية بما يقولون في السر. مع استمرار نقاشنا، ألقى السلطان بعض اللوم على عباس لعدم قدرته على إيجاد الحلول، الأمر الذي ساهم في إدامة الصراع. وقال: ” من المفترض أن نتعلم من التاريخ” ثم أردف: “لكن لا يمكن العيش في التاريخ”.  كنت مصدوما مما سمعته. هذه التصريحات، قادمةً من الحاكم الأطول حكمًا في العالم العربي، أعطتني الأمل في أن يدعم السلطان خطتنا للسلام، وبمزيد من التفاؤل بدا أن إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل أمرًٌ محتمل في مسقط. أخبرني بعدها عن استمتاعه بالعشاء مع بنيامين نتنياهو وكيف أنه رأى فرصًا هائلة لعمان وجيرانها للتعاون مع إسرائيل.

بانتهائنا من إطلاع السلطان على الخطة، سألتُه عمّا إذا كان يعتقد أن لدينا فرصة لتحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. ردّ: إن لم نبدأ فإننا لن ننجز أو نغير أي شيء. إمكانيات عبّاس محدودة، لكن قلبه في المكان السليم. ثُمَّ ظهرت ملامح الندم على وجه السلطان وقال: أشعر بالسوء لأجل الشعب الفلسطيني، إنهم يحملون عبء العالم الإسلامي على عاتقهم.

لمدة تجاوزت الساعتين روى لنا السلطان عددًا من القصص وشارك معنا آراءً من منظوره المتفرّد. كنت منهمكًا في الحديث لدرجة أنني نسيت الجوع. إلا أن التعب كان ظاهرًا على زملائي. (آفي) و (هوك) كانا يناضلان لإبقاء أعينهما مفتوحة، وكثيرًا ما عدّلا وضعية جلوسهما على الكرسي ليبقيا مستيقظين. انتهى الاجتماع بعد منتصف الليل، وبينما كنّا نهمّ بالمغادرة، سأل السلطان: “هل نأكل؟” بطبيعة الحال كانت هناك إجابة واحدة فقط لهذا السؤال. أجبتُ بالموافقة بينما كان التعب باديًا على وجوهِ (آفي) و (هوك) و (جرينبلات). أرادوا فقط القليل من الراحة قبل مغادرتنا باتجاه البحرين في الثامنة صباحًا.

فتح موظفو القصر الأبواب على غرفة طعام فخمة ذات أعمدة هائلة ومداخل مقنطرة. تتوسط القاعة طاولة رخامية مزينة بزخارف ذهبية. خلف الكراسي وقف ثلاثةُ ندل بحللهم الرسمية. كانت سمعة السلطان أسطورية في استضافة حفلات عشاء أكثر رسميةً من تلك التي تقام في قصر باكنغهام، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا ليهيئنا لما هو قادم. على الطاولة توزعت مجموعة من الأواني الفضية اللامعة مصحوبةً بقائمة طعام ضخمة تضمنت ما يقارب ثلاثين وجبة متكاملة. كانت قائمة الطعام مصنفة بفئات مثل “الحساء” أو “السمك”، ومكتوبةً بخطٍّ أنيق باللغتين العربية والإنجليزية. كنت أتوقع أن أختار اختيارًا واحدًا من كل فئة، كما هو شائع في أمريكا. لكن وقبل أن أتمكن من اتخاذ قرار بشأن الطعام، قام نادل بتقديم حساء الأفوكادو البارد، ثمّ حساء اللحم تلاه حساء الريحان. كان السلطان يحدثنا عند وصول كل طبق عن المنشأ الأصلي له. وظل يدعونا لتذوق الطبق تلو الآخر. لم أكن لأرفض دعوة مضيفي الكريم فأخذت أتذوق منها جميعا. بعد تقديم سبعة أنواع مختلفة من الحساء، بدأ النُدُل بتقديم المأكولات البحرية كالقريدس المشوي، والجمبري، وجراد البحر الطازج، وسمك الكنعد المشوي، وكذلك سمك القد المشوي. بعد أربعة عشر وجبة، ألقيت نظرةً خاطفة على قائمة الطعام لأرى أننا لم ننته حتى من نصف القائمة. حاولت تجنب الطعام غير المباح حسب التعاليم اليهودية، وتناولت قضمات صغيرة حتى أتمكن من الانتقال للوجبة التالية بينما واصل السلطان شرح الآلية التي تسير عليها الأمور في المنطقة. في أكثر من مرة انهمكت في حديثي مع السلطان للحد الذي أنساني تجربة الطبق الذي أمامي. لأنتبه لاحقًا لتحديق (آفي) و (هوك) في وجهي منبهين إياي أن النُدُل لن يقدموا الطبق التالي حتى أتوقف عن الكلام. أراد رفاقي مني أن أصمت لنتمكن من مواصلة العشاء.

أظهر السلطان فهمًا دقيقًا للتاريخ بينما كان يمتعنا بقصص الغزو والمكائد. وكان عندما ينسى تاريخًا ما، ينظر إلى أحد وزرائه سائلًا: “هل كان ذلك عام 1942؟”. “لا، كان عام 1943″ ردّ الوزير بسرعة. تكرر هذا السؤال عدة مرات. ” هل حدث ذلك عام 1973؟” ” لا، كان في عام 1976″. لعدة أشهر، استخدم (آفي) و (هوك) هذا الموقف للمزاح. يسأل (هوك): ” هل كان ذلك في عام 1942؟” ليرد آفي بالقول: “لا، كان ذلك عام 1943”.

بعد أربع ساعات وثلاثين وجبة لذيذة انتهينا من تناول العشاء في الرابعة صباحًا. كنت في أقصى سعادتي نظرًا للحوار المثمر والمناقشة المثيرة. فقد تمكنت خلال ست ساعات من بناء صداقة جديدة. والحصول على تصوّر جديد حول أكثر القضايا الدبلوماسية تعقيدًا حول العالم. أشعرني كل هذا بأن شريكًا جديدًا قد انضم لخطة السلام. بينما كان السلطان يرافقنا إلى الباب لتوديعنا، سأل عرضًا: ” هل ترغبون بمشاهدة مجموعة سياراتي؟”. كنت على وشك الموافقة لعلمي بأنه كان يمتلك واحدة من أفضل مجموعات السيارات في العالم؛ والتي تضم أكثر من ثلاثمائة سيارة أثرية. لكن نظرت إلى (آفي) الذي كان يهز رأسه بالنفي. فأجبت السلطان: “من الأفضل ألّا نفعل ذلك اليوم. لكنني أتطلع لمشاهدتها في زيارتي المقبلة”

بمجرد أن أُغلقت أبواب سيارتنا، التفتُّ إلى (آفي) و (هوك) وقلتُ مبتسمًا: “لقد أردت حقًا أن أرى مجموعة السيارات تلك”. أثار كلامي ذلك حنقهم. قال (آفي):” لقد كانت ثمانيَ ساعاتٍ من التعذيب الباذخ. لم ننم منذ ثلاثين ساعة، ورحلتنا إلى البحرين بعد أقل من أربع ساعات” أثار ذلك تعاطفي، لكننا كنا قد قطعنا نصف العالم للقاء سلطان عمان وكان من الواضح أنّه قدّر صحبتنا حيث إنه أبقانا لوقت طويل برفقته. كنت مستعدًا للتخلي عن بضع ساعاتٍ من النوم من أجل بناء ثقة أكبير بيننا وبين السلطان الأمر الذي سيمنحنا فرصةً أكبر لتحقيق السلام. علاوةً على كل هذا، لقد استمتعتُ شخصيًّا بكل دقيقةٍ من تلك الليلة إذ متى ستتاح لنا فرصة كهذه للحديث طوال الليل مع سلطان عمان؟ اتضّح لاحقًا أن ذلك اللقاء كان الأخير. توفي السلطان في يناير من عام 2020 عن عمر يناهز التاسعة والسبعين.

أثناء الرحلة إلى البحرين لم أستطع التوقف عن التفكير في حديثي مع السلطان في الليلة الفائتة. سطرٌ واحدٌ يتكرر في رأسي: ” أشعر بالسوء لأجل الشعب الفلسطيني، إنهم يحملون عبء العالم الإسلامي على عاتقهم.” جعلني ذلك أتساءل: من الذي اختار محمود عبّاس ومجموعته غير الكفؤة من المفاوضين لتمثيل العالم العربي بأسره في قضية المسجد الأقصى.

هوامش:

  • الماهوجني: نوع من أنواع الخشب الفاخر.
سياسة

عن الكاتب

جاريد كوشنر