أضرار التاريخ والسياسة في “الاتفاقات الإبراهيمية”

كتب بواسطة نبال خماش

 نشر البيت الأبيض على صفحة موقعه الرسمي في شهر سبتمبر/أيلول 2020، النص الكامل لاتفاقات “السلام” بين دولة الإمارات العربية وإسرائيل، ومملكة البحرين وإسرائيل. وبخلاف الاتفاقيات التي أبرمتها إسرائيل في السابق مع مصر والأردن والسلطة الوطنية الفلسطينية، والتي عرفت كل واحدة منها باسم “اتفاقية السلام”، فقد ارتأت الإدارة الأمريكية أن إطلاق عنوان ” اتفاقات إبراهيم/أبراهام” على الاتفاقات الجديدة يحقق فائدة أكبر لجهة الدعاية والتبرير، من خلال استحضار معتقد شعبي وتوظيفه في خدمة غرض سياسي.

 وكعادة كل وثيقة يكشف عنها للمرة الأولى، تعنى ديباجتها، أو مطلعها، بتوضيح الخطوط العريضة للمحتوى الذي تتضمنه تلك الوثيقة، أهدافها ومبرراتها، غاياتها، أدواتها… فقد احتوت “اتفاقات إبراهيم” جميع العناصر السابقة، ومما جاء في مبررات ودوافع توقيع الاتفاقية السابقة… “تشجيع ثقافة السلام بين الديانات الإبراهيمية الثلاثة، والبشرية جمعاء…” والسعي إلى “التسامح والاحترام لكل إنسان من أجل جعل العالم مكانا يمكن للجميع الاستمتاع فيه بحياة الكرامة والأمل”…وأن موجبات تلك المبادئ والتفاهمات الإبراهيمية تهدف في النهاية إلى ” إقامة علاقة دبلوماسية بين إسرائيل وجيرانها في المنطقة بموجب مبادئ تفاهمات إبراهيم”.

   كما أشار مطلع الوثيقة “الإبراهيمية” إلى بعد إضافي لا نجده في ديباجة أي من اتفاقات “السلام” السابقة، من خلال إطلاق صفة “شعب” على المجموعات البشرية من اليهود المقيمة في فلسطين، وواحدة من مبررات إبرام تلك الاتفاقية، إقامة حالة من التعاون بين: “الشعبين العربي واليهودي” وتذهب الوثيقة إلى ما هو أبعد من إطلاق صفة شعب على التجمع البشري للكيان الصهيوني، لتستحضر عينة رديئة من أكاذيب التاريخ وخدعه، من خلال الإشارة لفكرة، أن  كلا الشعبين، العربي واليهودي ” “ينحدران من جد مشترك هو إبراهيم…”. ويمضي النص التمهيدي، في تفصيل محددات العلاقة التي ينبغي أن تسود بين أبناء العمومة من الطرفين، باعتبارها “مصدر إلهام لهما لخلق بيئة في الشرق الأوسط يمكن فيها للمسلمين واليهود والمسيحيين والشعوب من كل الديانات والطوائف والمعتقدات والجنسيات، العيش والالتزام بروح التعايش والتفاهم والاحترام المتبادلين” . وبعد ذكر مبررات الاتفاقية وأهم عناصرها والأهداف التي تأمل بلوغها في ديباجتها المشتركة، يأتي التفصيل القانوني لكل اتفاقية على حدا.  

   خطوة تتسم بالمراوغة عندما اتكأ الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، ومستشاروه على فكرة “الأب التاريخي” للعرب واليهود، كشكل من أشكال ترغيب شعوب الخليج العربي في تطبيع علاقتها مع المجموعات اليهودية. فالعرب واليهود، وفقا للمنظور الشعبي الذي استلهم الفكرة من موروث ديني بصفته البشرية، يرجعون إلى أصل سلالي واحد، هو النبي إبراهيم… اليهود ينحدرون من ابنه إسحاق، فيما ينتسب العرب إلى ابنه إسماعيل، وعليه تغدو صلة القرابة بين الجانبين شديدة. ورغم حالة التنافس الشديد التي نشبت بين أبناء العمومة منذ بداية تشكل العلاقة، وفقا للرواية الإسلامية. وأخيرا، وبعد مضي أكثر من ثلاثة آلاف عام من الصراع بين أبناء إسماعيل وأبناء إسحاق ونسلهما، شاءت الأقدار وضع حد لهذا الصراع الأزلي، بعد تدخل الإدارة الأمريكية ونهوضها بانجاز هذه المهمة التاريخية، لتصبح لحظة التوقيع على الاتفاق الإبراهيمي بين دول من الخليج العربي وإسرائيل برعاية أمريكية، هي لحظة نهاية حالة الصراع الأزلي بين أبناء العمومة.  

   ليس بجديد أن يؤكد مضمون الوثيقة التاريخية على مبادئ مثل “أهمية الحفاظ على السلام”، وإقامة علاقة إقليمية قائمة على “التفاهم المتبادل والعيش المشترك واحترام حرية الإنسان وكرامته”، وإنهاء حالات “الصراع لتوفير مستقبل أفضل”، والتأكيد في أكثر من موطن، أن الوثيقة إنما هي صادرة عن : “رؤية تتضمن السلام والازدهار في الشرق الأوسط وحول العالم” إلى غير ذلك من المعاني الفضفاضة، والتي نطالعها، بصيغة أو بأخرى، في جميع “اتفاقيات السلام” التي وقعتها إسرائيل من قبل مع أطراف عربية عدة. ورغم حالة انكشاف المحتوى وبيان زيفه مقارنة بالواقع الذي انتهت إليه  تجارب “السلام” السابقة، ومع ذلك فإن ذلك الزيف والإدعاء الكاذب المتضمن في الاتفاقيات السابقة، يمكن أن يكون مقبولا وفق السياق السياسي العام، إذ ليس من المعقول أن تتضمن ديباجة اتفاقية ما، مجالها تطبيع علاقات ثنائية بين طرفين، الإفصاح عن خفايا  ومبررات طرفي المعاهدة بشكل واضح، والبوح بحقيقة أن أحد الأطراف تنحصر مهمته في جني مكاسب وعوائد الاتفاق، فيما يتحمل الطرف المقابل أعباء الاتفاقية وكلفتها، السياسية والاقتصادية… بالطبع ليس متوقعا أن يتضمن مطلع اتفاقية ما مثل تلك المضامين، وبذلك تغدو مسألة الإدعاء والكذب، وبعثرة الكلام المعسول بكل اتجاه، وفق مبررات السياسة، مسألة مفهومة بل ومألوفة، وأحيانا يبلغ هذا التوظيف مرحلة الحتمية التي لا مفر منها.

   إلا أن “اتفاقات إبراهيم” تفوقت في مضمونها على كل ذلك، حتى المساحة المتروكة لغايات التلاعب بالعقل عبر أضاليل النص وإيهاماته، تجاوزتها تلك الاتفاقات بمراحل، وصولا إلى مرحلة يمكن توصيفها بـ “تحطيم العقل”، من خلال هذا الاستحضار لحكايا وقصص شعبية ترجع إلى حقب بدائية من مراحل تطور الإنسان، والزج بها في اتفاقية تعتبر وفق المعايير القانونية اتفاقية إقليمية، ذات أبعاد دولية، برعاية دولة تعتبر الأقوى عالميا في مختلف المجالات، بما فيها الإنجاز العلمي والانحياز فقط لتفسيراته، لتتبنى رغم خصائصها العلمانية، مشهدية تحطيم العقل، وإحياء مظهر من مظاهر أضرار التاريخ وهرطاقته.

   ولا تزال الأفكار الرديئة، حاضرة بقوة في مطلع تلك المعاهدة، وفي العديد من بنودها، لتذهب إلى أماكن لم تبلغها أي من اتفاقات “السلام” السابقة، والتي لم تكن تتحدث سوى عن إرادة حكومات في إبرام تلك المعاهدات. أما اتفاقات أبناء إبراهيم، أو أبراهام، فهي لا تتحدث عن إرادة حكومات وحقها في ممارسة سيادتها من خلال توقيع اتفاقيات وابرام معاهدات مع طرف آخر، إنما تتحدث بصورة أكبر عن إرادة “شعوب” وتطلعها لمزيد من التقارب والتفاهم فيما بينها، وهو بعد لم يكن حاضرا في أي من اتفاقات “السلام” الموقعة سابقا. ففي اتفاق أبناء إبراهيم الموقعة بين إسرائيل والإمارات العربية، تكررت كلمة شعب تسع مرات. وردت مرة بصيغة “إقامة علاقات دبلوماسية ودية والتعاون والتطبيع الكامل للعلاقات بينهما وبين شعبيهما…” ومن مثل “إن تطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات يصب في مصلحة الشعبين”… إنه الحضور الأول لمعنى “الشعب” منذ انطلاقة علاقة التطبيع الرسمي أو شبه الرسمي بين الكيان الصهيوني ودول عربية.  

   أكثر العناصر تحفيزا للوقف على عجائبية تلك الاتفاقيات، أن الكيان اليهودي، يقر هو ذاته أن صفة “شعب” ليست من خصائصه، بل إن المتعصبين اليهود يقاومون فكرة “الشعب” بالمعنى القومي، ويجهدون في سبيل عدم تحققها لتبقى مقتصرة على بعدها الديني باعتبار اليهود “شعب الله” الذي قضت مشيئته في شتاتهم وتفرقهم في أرجاء الأرض. أما التوصيف العلمي الأقرب لتلك المجاميع البشرية، وفقا للأدبيات اليهودية، أن وجودهم المادي لا يعدو كونه “جماعات دينية”، وهذه الجماعة موزعة داخل قوميات شتى، أهمها: اليهودي البريطاني، اليهودي الأمريكي، اليهودي الفرنسي، اليهودي الألماني، واليهودي العربي بكل تأكيد…… وبالتالي تغدو مسألة ربط هذا الخليط  المتشابك والمتعدد، في أعراقه وأجناسه وانتماءاته، والتعريف به باعتباره  مجموعة بشرية سلالية تنحدر من أصل واحد، هو ضرب من الجنون العلمي على نحو مطلق.

   ولأن مشهدية “تحطيم العقل” تتضمن أدوارا ولاعبين، رئيسيين وثانويين، في سبيل إتمام الحبكة والدعاية للفكرة أو الأفكار الرديئة، فإن شخصية رئيسية لعبت دورا حيويا في التهيئة والإعداد النفسي كي يتقبل الجمهور المحلي تلك المضامين، فكان ظهور رجل الدين من خلال تقديم عروضه، أسبق بمراحل مقارنة بظهور رجل السياسة الذي جاء لاحقا.  فالخطاب الديني كان معتمدا عليه بدرجة كبيرة في تهيئة وإعداد الجماهير للحظة الحاسمة، لحظة إشهار الاتفاقية الإبراهيمية. ومن خلال المخزون ذاته، أخذ رجل الدين في تأديته لدوره باستعادة قصص وحكايا من ذات المخزون الرديء الذي يحفل به تاريخ العلاقة العربية-اليهودية. ليأخذ هذا الخطاب في مرحلة لاحقة مسارا غير مسبوق في جرأته على تزييف الحقائق والتلاعب بالعقول، وقدم القاتل الذي لا زالت يداه مضرجتان بدماء ضحيته، باعتباره شخصية متسامحة ومحبة، لتتوجه الأنظار بشكل تلقائي نحو الضحية، لتبدأ عملية الإدانة والتجريم لها، باعتبارها أصل الشرور والفوضى في الإقليم وربما في العالم. وأخيرا يظهر السياسي في وقت لاحق، وبعد أن سادت حالة من الاحتقان والشد العصبي غير المسبوق، ليعلن صيغة اعتبرها حلا وسطا وترضي جميع الأطراف، من خلال إعلانه الجريء والواضح: إن صداقتي والتزامي تجاه القاتل، لن يؤثر في نظرتي للضحية وتعاطفي معها. هذا هو المنطق الذي اعتمد قبل وأثناء وبعيد الإعلان عن اتفاقات إبراهيم.  

   يقول عالم الفيزياء، ألبرت أينشتاين:” الغباء هو تكرار فعل نفس الشيء عدة مرات وتوقع نتائج مغايرة” وهذه المقولة تكثيف دقيق لواقع تكرار التجارب العربية في علاقاتها القانونية التي تحمل صفة “سلام”مع الكيان الصهيوني. فمنذ اتفاقية السلام في كامب ديفيد، عام 1979، مرورا بصيغة التعاون الإقليمي التي طرحت في مؤتمر مدريد عام 1991 ، مرورا باتفاق أوسلو ووادي عربة، والنتائج التي أسفرت عن تلك الاتفاقيات هي هي، إقحام للمنطقة في دوامة من العنف، تراجع تدريجي لمستويات المعيشة في تلك الدول أو المناطق، تضخم أكبر لحجم الفساد وإهدار جنوني للموارد، كل ذلك كان من نصيب الأطراف العربية، في حين لا زال المشروع الصهيوني ماض في طريقه، يستثمر في أوجه الخراب والفوضى التي يخلفها وراءه في المنطقة. وبالعودة إلى مقولة أيشتاين فإن من الغباء  أن يتوقع الساسة في الخليج نتائج أفضل في علاقتهم مع الكيان الصهيوني مما حققها أشقاؤهم في مصر أو الأردن أو فلسطين.     

   صحيح أن الدوافع الاقتصادية وأعمال التجارة والسياحة وتبادل المعلومات الاستخباراية والتعاون في مجال التقنيات المتقدمة، هي عناصر حاضرة وبقوة في الاتفاقات الإبراهيمية الموقعة، إلا أن العنصر العسكري/الأمني يبقى بالنسبة للإمارات العربية والبحرين، وعموم دول الخليج العربي، العنصر الأكثر أهمية، وعلى وجه الخصوص في الجانب المرتبط بعلاقة تلك الدول مع إيران، حيث لا زالت دول: العربية السعودية، البحرين، والإمارات، تعتنق فكرة أن التهديد الحقيقي لتلك الأنظمة قادم من تمدد النفوذ الإيراني، الذي بات بمقدوره الوصول إلى قلب جزيرة العرب، من أكثر من جهة، شمالا وجنوبا وشرقا. وتأمل تلك الدول أن تشكيل “هيكل إقليمي” بمشاركة إسرائيلية، كفيل بالتصدي لهذا التمدد وإفشال مشروعه.

   وبغض النظر عن مبررات تلك المخاوف، إلا أن طريقة معالجتها من خلال الرهان على دور إسرائيلي في تعزيز أمن دول الخليج، رهان خاسر بكل المقاييس.  فالأطراف المتنازعة في الإقليم، وخصوصا إسرائيل وإيران، لديهما استعداد للتوصل إلى تفاهمات وتسويات مشتركة كلما دعت الحاجة إلى ذلك، حتى وإن كانت تلك التسوية على حساب أطراف عربية، وتحديدا دول الخليج العربي. ودوما إطالة في تناول تلك الفكرة فإن الإشارة إلى التطورات الأخيرة التي رافقت إعلان ترسيم الحدود البحرية بين الكيان الصهيوني ولبنان، كفيل بتأكيد الفكرة أو التحليل السابق. فذلك الاتفاق الذي حققت إسرائيل من خلاله كافة متطلباتها وعلى نحو فاق توقعاتها، وهذه النتيجة كانت ثمرة  تفاهمات شاركت فيها كل من طهران وواشنطن وتل أبيب، وبموجبها تعهدت إيران بالضغط على الحكومة اللبنانية لكي تستجيب الأخيرة للرغبات الإسرائيلية، مقابل إفراج واشنطن عن الأرصدة الإيرانية المحجوزة في الولايات المتحدة الأمريكية، وعدم تجديد الهدنة في اليمن، وبالفعل نجحت طهران في إفشال الهدنة بعد أن طلبت من الحوثيين التصعيد العسكري والتقدم بطلبات اعتبرتها الهيئات الدولية تعجيزية. لتخرج بالنتيجة جميع الأطراف مسرورين وقد حققوا أهدافهم الكبرى على حساب المصالح والعربية.

سياسة

عن الكاتب

نبال خماش

كاتب أردني