الكاتب(1): جان فرانسوا بيلزيل
ترجمة وإعداد: محمد كزّو
لكي يتمّ توقيع تقرير الهيئة الحكوميّة الدّوليّة المعنيّة بتغيّر المناخ (GIEC) من قِبل جميع ممثّلي الحكومات الأعضاء، يجب اختيار الكلمات اللّائقة في هذا الشّأن، مثلًا: “تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالَميّة بشكل فوريّ وجذريّ، وتحويل مدننا، وطرق استخدام وسائل النّقل، ونظامنا الغذائيّ بشكل مفيد أكثر”.
والنّتيجة، أن وقّع على هذا النّص الجادّ والمهمّ، المأخوذ من ملخّص مقرّري السّياسات، مائة وخمسة وتسعون ممثّلا عضوًا؛ ومنذ انعقاد مؤتمر المناخ الأوّل في ريو بالبرازيل سنة 1992م، دأبت الولايات المتّحدة على حماية أسلوب الحياة الأمريكيّ، نتذكّر جورج بوش الذي أعلن بعد ذلك قائلًا: “لن نتفاوض بشأن حياة الأمريكيّين”، ومع ذلك توافق اليوم مائة وخمسة وتسعون حكومة، على “تغيير في أسلوب حياتنا” كشعار مهم.
لكن ماذا يجب أن نفهم من “أنماط الحياة”؟ وكيف يمكننا تغيير أنماط حياتنا؟ وانطلاقًا من هنا، يمكن للفيلسوف اليوناني “أبيقور”(2) (342-270ق.م) أن يكون مرشدنا وُملهمنا، وأن يساعدنا، ليس فقط، في إيجاد الشّعارات المناسبة لحاضرنا، ولكن قبل كلّ شيء، في العثور على المبادئ الأساسيّة المستقبليّة في كيفيّة عيش حياتنا اليوميّة.
الأبيقورية، هي حكمة قديمة لا تنتهي أبدًا ولا تضمحلّ، وإذا قمنا بإثرائها بمعرفتنا الجديدة، حول النّظافة والصّحّة والاتّصالات، على وجه الخصوص، فإنّها ستصبح فلسفة حديثة تحمل أسلوبًا بسيطًا للحياة، أكثر من كونها اختيارًا طوعيًّا، بل ستكون اختيارًا منطقيًّا وطبيعيًّا وتحرّريًّا. ما يستدعي ولادة “فلسفة أبيقوريّة” جديدة حقيقيّة، وهي مذهب جديد للمتعة، لا يعتمد على ملذّات الاستهلاك الجامح للنّزعة الاستهلاكيّة، ولا على تكاثر الاحتياجات التي أنشأتها الدّعاية الإعلانيّة، ولكن على حساب بسيط للاحتياجات؛ وفي هذا القرن المليء بالاختلالات والنّقص والنّدرة المزعوميْن، هناك حاجة إلى روح جديدة وسلوك جديد أيضًا.
أسطورة النّدرة
في البداية، يجب طرح السّؤالين التّاليين: هل الإنسان حقًّا حيوان يعاني من احتياجات غير محدودة؟ هل نعيش في ظلّ الالتزام بالإنتاج أكثر من أيّ وقت مضى ومواردنا غير كافيّة؟
لقد أثبت العديد من علماء الأنثروبولوجيا، بمن فيهم “كلود ليفي شتراوس”، و”مارشال ساهلينز”، و”ليزلي وايت”، أنّ المجتمعات ذات “اقتصاد الكفاف”(3)، تستطيع الحصول على الحدّ الأدنى الضّروريّ، ولا تواجه أسطورة الاحتياجات غير المحدودة. إذ لا يُبدي الأعضاء البالغون في هذه المجتمعات اهتمامًا كبيرًا بالتّراكم أو التّخزين، حتّى لو كانوا يعرفون كيفيّة القيام بذلك، بل هم راضون بما يناسبهم من توازن صحّي واجتماعيّ تمام الرّضى.
إنّ أسلوب حياة هذه المجتمعات، يُثبت بوضوح مغالطة “مبدأ النّدرة”(4)، فكون مواردنا محدودة لا يعني أبدًا أنّها شحّيحة، إذ هناك ندرة في الواقع فقط، إلى الحدّ الذي تتجاوز فيه احتياجاتنا الوسائل التي لدينا لإشباعها. فهذه المواقف الإنسانيّة، والأكثر أصالة لدى الإنسان، والتي تتكوّن من “الرّغبة في القليل” و” الحدّ من الاحتياجات” أو، ببساطة، في تلبية الاحتياجات الطّبيعيّة والضّروريّة فقط، موجودة في أخلاق حكماء المجتمعات الأكثر تحضّرًا؛ و”أبيقور” هو واحد من الحكماء الكبار.
علاجات “أبيقور” الأربعة
لنراجع المبادئ الأساسيّة لهذا الفيلسوف، الذي تتضمّنها مدرسته الأخلاقيّة، سنجد أنّ كلّ شيء فيها يعتمد على هذه العلاجات الأربعة الشّهيرة “تيترافارماكوس”(5)، والتي تُبيّن لنا الطّريق الذي يجب اتّباعه؛ بالضّبط كالطّريق التي اقترحتها الهيئة الحكوميّة الدّوليّة المعنيّة بتغيّر المناخ، دون الحاجة إلى استخدام المفاهيم نفسها صراحة، ولكن مع الإشارة إليها ضمنيًّا.
أوّلاً، لا يجب الخوف من أساطير الآلهة، سواء كانوا من” أوليمبوس” أو” هوليوود” أو” وول ستريت”، فهم لا يهتمّون بنا، فأنشطتهم يخافها فقط أولئك الذين يؤمنون بها؛ إنّ القوّة المبالغ فيها التي يتمتّع بها أسياد العالَم، تعتمد فقط على ثقتنا الموضوعة فيهم. ومع ذلك، فإنّ المواطنين المستقبليّين الذين لديهم طريقة حياة معقولة، سيعتمدون على المعرفة وليس على تصديقها، لن يكون لدى المعلّمين الرّوحيّين الماليّين، بعد الآن، قبضة على التّحرّريّين المستقلّين الذين سنكون منهم.
ثانيّاً، لا يجب الخوف من الموت، طالما أنّنا نعيش الحاضر بوعي كامل، إنّها الفلسفة الأبيقوريّة التي تقول: “عندما نكون لا توجد الموت، وعندما تكون الموت لا نوجد نحن”، فقط الذين يهتمّون بالمستقبل، والطّموحين، والمتعطّشين للثّروة، والقوّة، والمجد، والخلود هم الذين يخشون عدم الدّوام والخسارة.
ثالثًا، يمكننا إزالة الألم، وينطبق هذا في أيامنا هذه أكثر، ممّا كان عليه الحال زمن “أبيقور”، الذي عانى شخصيًّا من مغص كلويّ وأكّد، مع ذلك، “إنّنا نعاني من فكرة الشّرّ، أكثر ممّا نعاني من الشّرّ نفسه”. إنّ الطّبّ الحديث والرّعاية الملطّفة، وغيرها من أشكال العناية البديلة الآن، يُدرِك هذا المبدأ الأبيقوري أكثر من أيّ وقت مضى.
رابعاً، يمكن تحقيق السّعادة، إذ إنّ التّنظيم الذّكيّ للاحتياجات البشريّة، ورغبات البشر من الأسباب التي تؤدّي إلى نشوء “مِن هنا على الأرض، حياة مباركة”، هذا المعيار، هو الذي يسمّيه الأبيقوريون الأصليّون “حساب الاحتياجات”.
حساب الاحتياجات
من أجل حياة بسيطة ومستقلّة لا يسلبها التّقدّم، يجب إعادة التّفكير فيها اليوم بشكل جذريّ؛ لقد اعتقد “أبيقور” إنّه في عصره –قبل 24 قرنًا- كانت حالة الحضارة متقدّمة بما يكفي، بحيث كان لدينا كلّ ما هو ضروريّ لنَكون سعداء؛ وإنّه يمكن للمرء، كلّ مِن موقعه، إيقاف مسيرة التّقدّم الآن. فما كان صحيحًا في أيّام “أبيقور”، أصبح أكثر صحّة اليوم، لذلك صار من السّهل أن نعيش رصانة سعيدة، من خلال احترام الممارسة الأبيقوريّة للأنواع الثّلاثة التّالية من الاحتياجات.
الاحتياجات الطّبيعيّة والضّروريّة، أي أولئك الذين تكون مرضياتهم بطبيعتها محدودة، مثل الشّرب والأكل وحماية أنفسهم من البرد والاحتماء بمأوى، وما إلى ذلك؛ فيمكن تلبيّتها ببساطة، ودون الحاجة إلى فائض، بحيث يكون هناك توازن وتجانس؛ ولكن سيكرّر مواطنو الغد: “هذا لا يكفي ليلة طويلة جدًّا”، مع العِلم أنّ البشر، ليسوا حيوانات، لها احتياجات غير محدودة.
ثمّ، الاحتياجات الطّبيعيّة وغير الضّروريّة من الطّبيعة، هذا صحيح، بحيث توجد احتياجات من الثّقافة أيضًا، لكن لا شيء يلزمنا بإشباعها تمامًا؛ يمكن أن تكون موسيقى، أو عِلم الجَمال، أو الفنون، أو الرّقص، أو الشِّعر، أو الاتّصالات وغيرها ذات رضى كبير، لكن لا شيء يجبرنا على القيام بذلك. ولا ينبغي أن يكون الزّهد قيدًا، كما يعلّمنا “أبيقور” في قوله: “إذا كان هناك سمك ونبيذ، فلا يوجد سبب يدعو إلى الرّغبة في الماء والخبز فقط”؛ فيمكن للمواطن البيئيّ الحكيم، أن يكون متذوّقًا ومعتدلًا وفنّانًا.
بينما، في القرن الواحد والعشرين للميلاد، وبدون مخالفة توصيات الهيئة الحكوميّة الدّوليّة المعنيّة بتغيّر المناخ، يمكن للأبيقوريّين، الجُدد أن يضيفوا إلى هذه الحسابات “الاحتياجات غير الطّبيعيّة، ولكنّها ضروريّة”، لأنّها تُحدّدها تطوّر الحضارة الإنسانيّة. لقد استخدم “أبيقور” في عصره، استخدامًا مكثّفًا للكتابة وإرسال الرّسائل، وهي تقنيات تطوّرت بشكل كبير، حتّى إنّه لم يعد بإمكاننا الاستغناء عن الاتّصالات، السّلكيّة واللّاسلكيّة ووسائل النّقل السّريعة، وبعض الأجهزة الإلكترونيّة، ومع ذلك سيتمّ إضفاء الشّرعيّة على تلبية هذه الاحتياجات الجديدة، ولكن مع احترام البيئة البشريّة والطّبيعيّة.
تتميّز الاحتياجات غير الطّبيعيّة وغير الضّروريّة، مثل الرّفاهيّة والثّروة والمجد والشّهرة والسّلطة وغيرها، بإشباع غير محدود، وبالتّالي ينتج عنها ندرة وعدم الرّضى والقلق؛ فهي احتياجات أوجدها “الرّأي العامّ”، من خلال الضّغوط الاقتصاديّة والاجتماعيّة، ومن خلال الدّعاية الإعلانيّة المنتشرة في كلّ مكان، والموجَّهة بشكل متزايد دائمًا، بهدف جعل كلّ واحد منا مُستهلِكًا للأفكار التّافهة.
ولكن، بسبب هذه الاحتياجات، التي لا يتحقّق إشباعها على الإطلاق، تتعقّد الحياة، ويزداد عدم المساواة، ويتكوّن البؤس، وتُهاجم الطّبيعة؛ إنّ عدم الإشباع هذا، هو الذي يسبّب الانطباع الخاطئ عن النّدرة. إنّها “ندرة” ليست خاصيّة متأصّلة في مواردنا الطّبيعيّة، أو في وسائلنا التّقنيّة، ولكنّها ناشئة عن العلاقة غير المتوازنة بين إمكانيّاتنا المحدودة، وغاياتنا الباهظة.
لنتخيّل أنّنا سنتوقّف بالفعل عن الرّغبات اللّامتناهية، كما تقترح الهيئة الحكوميّة الدّوليّة المعنيّة بتغيّر المناخ اليوم، دون أن تقول ذلك صراحة، فالنّتيجة الحتميّة، هي انهيار العالَم الرّأسمالي بأكمله؛ فإذا لم تعد هناك “احتياجات لا نهائيّة”، فلن تكون هناك ندرة، وإذا تمّ إشباع الرّغبات الطّبيعيّة والضّرورية بالكامل، فإنّ الأسعار ستكون صفريّة والأسواق عديمة الفائدة.
يعيش الأبيقوري، العاقل والمتحرّر، الحاضر بثقة وحكمة وفرح؛ إذ يعتني بصحّته أوّلًا، حتّى لا يضطرّ إلى الاعتناء بأمراضه لاحقًا؛ فكلّنا نريد أن نعيش بدون شيخوخة، ولكن في ظلّ الظّروف الحالية، لأوضاع الطّوارئ الاجتماعيّة التي لدينا، المُلحّة لتحقيق النّجاح، فإنّنا نتقدّم في الشّيخوخة، دون أن ننجح في العيش؛ إنّ البساطة الطّوعيّة، والرّصانة السّعيدة، والحركات الأساسيّة، والبسيطة –ما أسمّيه “المذهب الأبيقوري” الجديد- تدعونا لنلتهم الحياة، ونتذوّق ما هو ضروريّ وطبيعيّ، مع التّمتّع بأقصى قدر ممكن من الاستقلاليّة والصّداقة.
بهذه الرّوح، وهذا السّلوك، الجديد والأبديّ على حدّ سواء، سنحرّر أنفسنا من أوهام وهراء الدّعاية النيوليبراليّة(6)، التي لا تحترم البشر والطّبيعة.
يقال إنّ “أبيقور الجديد”، الكاتب السّرّي لتقرير الهيئة الحكوميّة الدّولية المعنيّة بتغيّر المناخ، قد خلص إلى الحكمة التّالية: “دعونا نشكر الطّبيعة المباركة، التي جعلت من السّهل تحقيق الأشياء الضّروريّة، والأمور التي يصعب الوصول إليها ليست ضروريّة”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات والهوامش
(1) أستاذ الفلسفة، محاضر في الكلّية العامّة والمهنيّة “أندري لوريندو” بكندا. والمقال بمجلّة الواجب الفلسفيّ، بتاريخ: 18/06/2022م.
(2) أبيقور(342-270ق.م) هو مؤسِّس الفلسفة الأخلاقيّة التي تتألّف من المتعة البسيطة، والصّداقة، والتّقاعد، من أجل تحقيق السّعادة، من خلال المنطق والمبادئ العقلانيّة، انطلاقًا من مبدأ اللّذة والألم.
(3) اقتصاد الكفاف هو: الاقتصاد الذي تحاول به مجموعة ما، إنتاج منتجات في فترة معيّنة، بحيث لا تزيد ما يجب أن يستهلكوه في تلك الفترة لكي يبقوا على قيد الحياة؛ في مثل هذا النّظام، فإنّ مفهوم الثّروة لا يتواجد.
(4) مبدأ النّدرة هو: عندما تصبح الأشياء أكثر جاذبيّة في حالة لا يكون الكثير منها، وقد تكون هذه النّدرة حقيقية أو متخيّلة، حيث يفترض النّاس أنّه نظرًا لأنّ الآخرين يبدون وكأنّهم يريدون شيئًا ما ونقص المعروض منه، فلا بدّ أن يكون ذا قيمة أكثر من غيره.
(5) تيترافارماكوس: هي كلمة في الأصل لِعلاج يتكوّن من أربعة عناصر هي: الشّحم، والشّمع، والقطران، والصّمغ، لذلك يستخدم أبيقور وتلاميذه المصطلح مجازيًّا لتحديد أربعة علاجات تشفي معاناة الرّوح.
(6) الدّعاية النيوليبراليّة: أو الحرّية الجديدة، هي الأيديولوجيا المسيطرة على الرّأسماليّة الدّوليّة الآن، بمعنى سهولة انتقال السّلع والأموال، من الغرب المسيطر إلى كافّة المعمورة؛ من أجل تحقيق الأرباح السّريعة؛ كيفما كانت الوسائل ضدّ الإنسان أو ضدّ الطّبيعة.