ماهي الفلسفة؟

كتب بواسطة Gilles Deleuze

ترجمة علي حمدان

جيل دولوز ( يناير18، 1925- نوفمبر 4، 1995 ) كان أحد أهم الفلاسفة الفرنسيين في النصف الأخير من القرن العشرين، يفسر دولوز الفلسفة على أن مهمتها هي خلق المفاهيم. وقد قام دولوز بتوصيف نفسه على أساس أنه ميتافيزيقي خالص. في إصداره الأهم (الاختلاف والتكرار Difference and Repetition )، يحاول أن يطور ميتافيزيقيا مواكبة للرياضيات المعاصرة والعلوم. ميتافيزيقيا حيث مفهوم التعددية يحل محل الماهية، الحدث يحل محل الجوهر والافتراضية تحل محل الاحتمالية. دولوز أيضا قدم دراسات في تاريخ الفلسفة ( عن هيوم، نيتشه، كانت، بيرغسون، اسبينوزا، فوكو، ولبنيز)، وكذلك في الفن مجلدان دراسات عن السينما، وكتب عن بروست و Sacher- Masoch ، ودراسة عن الرسام فرانسيس بيكون ومجموعة مقالات عن الادب.

دولوز اعتبر أعماله الأخيرة هذه أنها كتابات فلسفية خالصة وليست نقدا فنيا، لأنه كان يسعى على إبداع مفاهيم فلسفية مواكبة لأعمال هؤلاء الأدباء، والفنانين ومخرجي الأفلام. في عام 1968 التقى فليكس كوتاري  Felix Guattari الناشط السياسي والمحلل النفسي الراديكالي. والذي شاركه في تاليف عدد من الاعمال، من ضمنها مجلدان حول الرأسمالية والشيزوفرانيا يتألفان من ضد عقدة اوديب Anti-Oedipus(1972) والف هضبة A Thousand Plateaus ومؤلفهما الأخير ماهي الفلسفة?(1991) what is Philosophy.

دولوز معروف بإنكاره مفهوم هيدجر “لنهاية الميتافيزيقيا” في مقابلة قام بعملية تقييم ذاتي قائلا “بأنه يشعر بأنه ميتافيزيقي خالص…بيرغسون يزعم بأن العلم الحديث لم يجد ميتافيزيقياه، الميتافيزيقيا التي يحتاجها، أنها هذه الميتافيزيقيا التي تثير اهتمامي.” علينا أيضا أن نشير إلى اهتماماته الأخرى غير الفلسفية، كالتفاضل والتكامل، الديناميكا الحرارية، الجيولوجيا، علم البيولوجيا الجزيئية، وعلم الايثولوجيا، والأنثروبولوجيا ، التحليل النفسي، الاقتصاد، وعلوم اللسانيات. زميله جين- فرانسيس ليتوارد Lyotard وصفه بأنه “مكتبة بابل” . تأثير دولوز يتجاوز مجال الفلسفة، لقد أشير إلى أعماله ومفاهيمه وتم استخدامها في العمارة، وفي الدراسات الحضرية، وفي الجغرافيا، وفي دراسات السينما، وفي الموسيقى، والأنثروبولوجيا، وفي دراسات الجندر، وفي الدراسات الثقافية وفي حقول أخرى.

أسلوب دولوز في الكتابة صعبا، أي انه يجعل من القارئ في غاية الحذر، عليهم أن يعيدوا التفكير في فرضياتهم الفلسفية. إن المتن الدولوزي غامض وصعب، ومخاتل، ولا يكشف عن نفسه للقارئ حتى المتخصص بسهولة. فقد نحت دولوز ليس فقط مصطلحه الخاص، ولكنه نحت ونصب لغة قائمة بذاتها.  هذه محاولة  للتعرف بشكل مختصر على مفهوم دولوز للفلسفة وبالذات في كتابه ماهي الفلسفة؟ What is Philosophy الذي ألفه مع كوتاري.

في كتاباته المبكرة في تاريخ الفلسفة، والتي توجت ” بمنطق الادراك”، دولوز عبر عن نموذج نقدي للفلسفة. في كتابه عن نيتشه، كتب:

عندما يسأل أحدهم ما هي فائدة الفلسفة؟ فإن الإجابة يجب أن تكون قاسية، حيث أن السؤال تهكمي وساخر. الفلسفة لا تخدم الدولة، أو الكنيسة ، التي لديها اهتمامات أخرى. إنها لا تخدم قوة قائمة، إن استخدام الفلسفة لنحزن (sadden). فالفلسفة التي لا تحزن أحد، ولا تزعج أحد فهي ليست بفلسفة. إنها مفيدة كي تصيب بالضرر البلادة، ولكي تحول البلادة الى أمر مخزي. إن فائدتها الوحيدة، فضح كل إشكال التفكير اللامنطقي. الفلسفة في جانبها الأكثر إيجابية هي نقدية في جوهرها، إنها مشروع لإزالة الغموض.

يبدو إنها المرة الوحيدة في كتابات دولوز التي يستخدم فيها كلمة الحزن بشكل إيجابي.، كأمر مرغوب. وهو دليل على الصلابة التي ينظر فيها إلى الفلسفة. هذا الشعور المبكر عبارة عن تمرين للمذهب الطبيعي بالمعنى الذي كان يستخدمه لوكريتيوس لهذا المفهوم، الذي هو هجوم ضد كل أنواع التعمية والغموض. معلقا على لوكريتيوس، دولوز يكتب التعليق المشابه الاتي:

الأمر التأملي والأمر العملي في الفلسفة كمسالة طبيعية Naturalism، كعلم، وكلذة، تتزامن في هذه النقطة، إنها دائما مسالة منددة بالوهم، باللانهائية الزائفة، الأبدية الدينية وكل الخرافات اللاهوتية- الايروتيكية، والوحدانية التي يتم التعبير عنها. وحول السؤال ما فائدة الفلسفة؟ الإجابة يجب أن تكون: ماهي المادة الأخرى التي لها مصلحة في التمسك بصورة الانسان الحر، وفي تنديدها بكل القوى التي بحاجة للخرافة وللأرواح المتعبة في سبيل إرساء قوتها.  

فلسفة دولوز الطبيعية هي حاسمة، اسبنوزية ونيتشوية، حددت هدف الفلسفة هو النضال ضد كلما ما يستخف بالحياة. العاطفة الحزينة لاسبينوزا،  قوى الرغبة والانفعال لدي نيتشه، ميثولوجيا لوكوريتس . الطبيعية هنا يجب أن لا تفهم على أنها مضادة للكوزموبولتونية أو للبنيوية. دورلوز يخبرنا بأن الطبيعية توجه هجومها ضد هيبة السلب: إنها تحرم السلب من كل قوته، إنها ترفض أن روح السلب تتحدث باسم الفلسفة.

الأساطير، هذه النصوص هي الخطر الأبدي لعمل الفكر. دولوز يلخص هذا التهديد الجوهري في التفكير علي أنه تهديد بالغباء.

منذ  كتابه الاختلاف والتكرار ولاحقا، ظل دولوز محافظا على هذا الجانب الجذري في الفلسفة، يطور وجهة نظر بنائية Constructivist والتي تعبر عن نفسها في تعاون دولوز مع كوتاري في ماهي الفلسفة؟ هذا الكتاب يتضمن حجج حول ثلاثة مفاهيم مركزية: إبداع المفاهيم، الافتراضات الفلسفية، والعلاقات بين الفلسفة، والعلم والفن.

وكما يتبين لنا، إن عقيدة من البنائية التجريبية تتخلل أعمال دولوز منذ البداية، ومن خلال مستويات معينة. وفي “ماهي الفلسفة؟” تصبح الثيمة الأساسية والأكثر وضوحا: “الفلسفة هي فن تكوين وإبداع وصنع المفاهيم.”

إن المهمة الوحيدة للفيلسوف هي المفاهيم. والمفاهيم فقط من اختصاص الفلسفة. إن الفلسفة هي الحقل المعرفي القائم على إبداع المفاهيم.  وحسب دولوز فقد حدد نيتشه مهمة الفلسفة حينما كتب ” لا ينبغي أن يكتفي الفلاسفة بقبول المفاهيم التي تمنح لهم مقتصرين على صقلها وإعادة بريقها، وإنما عليهم الشروع  بصنعها وإبداعها وطرحها وإقناع الناس باللجوء اليها. فحتى الآن نحن جميعا، كل منا يولى الثقة لمفاهيمه فحسب كما لو تعلق الأمر بمهر خارق جاء من عالم خارق بدوره “. وهذا واضح تماما عندما نأخذ في الاعتبار كتابات دولوز عن الفن، والأدب والتي يعتبرهم دولوز كتابات فلسفية وليس نقدا critique فنيا أو أدبيا.

حظوظ المفهوم، نظرا لعدم اهتمام الفلاسفة، قد سقط لدرجة أن حتى التسويق التجاري والمعلوماتية وفن التصميم والدعاية وكل المعارف الخاصة بالتواصل قد استحوذوا عليه،  ” لقد حل ترويج المبيعات محل النقد”. إلا أن دولوز وكوتاري يصران على أن الفلسفة فقط لايزال لها معنى فيما يتعلق بالمفهوم.

المفهوم يتم تمييزه بشكل واضح بالتعدد ( multiplicity ) ليس في ذاته شيء واحد، ولكن تجميع الكليات  التي يجب أن تحفظ مع الأجزاء الأخرى حتى يظل المفهوم بمفرده ( بهذا المعنى يشبه إلى حد ما مفهوم اسبينوزا عن الجسم). هذه الكليات عبارة عن تفردات singularities  ” عالم ممكن كما يوجد في وجه يعبر عنه، كما يتحقق في لغة تمنحه واقعا”، ورغم ذلك تصبح غير مميزة عندما تكون جزءا من المفهوم. لذلك كل مفهوم له علاقة بالمفاهيم الأخرى عن طريق المسائل المشابهة التي يتناولها، وعن طريق تشابه العناصر المكونة، ودولوز و كوتاري يصفان هذه العلاقات باستخدام مصطلح الاهتزاز.

في الأخير، لا توجد علاقة بين المفهوم والحقيقة، والذي هو محدد خارجي، أو افتراض مسبق. والذي يضع التفكير في خدمة مرآة التفكير الدوغمائي .” المفهوم نموذج أو قوة”.  وبالتالي، المفاهيم هي تعمل، وهي فعالة، عوضا أن تكون  دلالة، أو تعبيرا عن محتوى للأفكار.

ويحدد دولوز وكوتاري ما لا يمكن أن تكونه الفلسفة:” ليست تأملا ولا تفكيرا ولا تواصلا حتى وإن كان لها أن تعتقد تارة أنها هذا وتارة أنها ذاك، نظرا لكل ميدان من القدرة على توليد أوهامه الذاتية والتستر وراء ضباب يرسله خصيصا، لذلك ليس تأملا، لأن التأملات هي الأشياء ذاتها من حيث ينظر في إطار إبداعات مفاهيمها الخاصة. ليست تفكيرا، لأن لا أحد في حاجة إلى الفلسفة للتفكير في أي شيء كان”.  

السؤال عن الافتراضات، لقد تم تناوله عن طريق مفهوم مرآة  (صورة) التفكير، كما تم بحثه بعمق من قبل دولوز وكوتاري في” ما هي الفلسفة؟”. وبالفعل إجابتهم تستحضر مفهومان: الشخصية المفهومية (Conceptual personae ) ومستوى المحايثة ( plane of immanence).

الشخصية المفهومية، هي شخصيات فكرية تعطى للمفاهيم قوتها الخاصة ومبرر وجودها، لذلك يجب أن تميز عن النوع الاجتماعي النفسي، كما يجب تمييزها عن الفلاسفة أنفسهم. ولكن مثل المفاهيم التي تم ابتداعها، يحاجج كل من دولوز وكوتاري أن الشخصية المفهومية بينما غالبا ما تكون ضمنية في الفلسفة ولكنها حاسمة في فهم أهمية المفاهيم. ولو أخذنا كوجيتو ديكارت مثلا فإن الشخصية المفهومية هو الأبله ( the idiot) الشخص العادي غير المتعلم، غير مدرب في الفلسفة، الذين احتمال أن تخونهم حواسهم عند كل منعطف، ولكن رغم ذلك لديهم معرفة مكتملة بأنفسهم، من خلال أنا افكر لذلك أنا موجود. كما تم ذكر إحدى شخصيات نيتشه المشهورة التي في الوقت ذاته متعاطفة ومضادة للشفقة: زارادوستا، الرجل الأخير الدينسوس، المصلوب سقراط، وغيرها.

الشخصية المفهومية بالنسبة لدولوز وكوتاري هي ذاتية، غير متفلسفة، وهذا شرط مسبق لممارسة ابتداع المفاهيم، هذه الشخصيات من ناحية أخرى تنتمي إلى مستوى  المحايثة ( Plane of Immanence) إن مستوى المحايثة ليس مفهوما فكريا أو مفكرا به، ولكن صورة الفكر، الصورة التي يعطيها الفكر لنفسه، إن هذا المفهوم له صدى واضح وهام بالإضافة إلى عناصر أخرى مهمة في فكر دولوز، وخاصة مع علم الوجود الأحادي للقوى، وخاصة مع تشديده العملي على  قيم نيتشه واسبينوزا غير المتعالية (Non transcendental).

مستوى المحايثة في الفكر معاكسة لمبدأ المتعالي في الفلسفة التقليدية. عندما يتم طرح المتعالي ( كوجيتو ديكارت، أفكار افلاطون، تصنيفات كانت) ، يتم تقييد الفكر، وتوضع الفلسفة في خدمة الفكر السائد.  كل هذه الحالات المتعالية مصدرها نفس المشكلة: الإصرار بان المحايثة تكون محايثة لأمر ما.

الاهتمام الأخر في” ما هي الفلسفة؟ “. هو فهم العلاقة بين الفلسفة والفن والعلم. يكتب دولوز وكوتاري على أن كل من هذه الحقول تشترك أنها تشمل نشاطا فكريا. وفي كل حالة هناك عملية خلق وإبداع، ما هو مختلف هو مجال الإبداع والطريقة التي يتم بها تعميم هذا الإبداع.

الفن يهتم بخلق المؤثرات الإدراكية والانفعالية، والتي معا هي الاحاسيس. (الإدراك ليس هو الانطباع).حيث أن الفن حسب دولوز يوجد كيانات روحية،  في ذلك هو لا يشير إلى المتأثر بالانطباع، و التأثير ليس هو إحساس شخصا ما، كما هو الحال مع المفاهيم، الإحساس والانطباع هما كينونتان مستقلتان تتواجدان خارج تجرية المفكر، وليس لها علاقة بالحالة الراهنة. ” العمل الفني هو إحساس فقط لا غير إن وجوده  بحد ذاته ليس إلا”. إن ارتباط الشخصية المفهومية في الفن هو الشكل الذي تم تناوله  بعمق من قبل دولوز في موضوع الرسام بيكون ، ولمستوى المحايثة، فالفن يتم إبداعه على مستوى التكوين، الذي هو بطريقة ما مماثل للمحايثة، ويتم تعميمه بالقوى الخالصة بالمؤثرات الإدراكية والانطباعية. “فالفن ليس إعادة انتاج للشبه، أو تكرار للذاكرة، بل تفلتا من الذكرى، واستجابة ولجوء إلى مواد العمل الفني بالذات من ألوان الرسم، وأصوات في الموسيقى، وكلمات وسياقات في النص، مما يجعل كل مبدع يمتلك مشهده الخاص”.

في حالة العلم بالأمر مشابه تماما، العلم هو النشاط الذهني الذي يبدع وظائف ( اختصاصات). هذه الوظائف عكس المفاهيم هي افتراضية، وتشكل الأجزاء والتي من خلالها يمكن للعلم التوصل إلى نوع من اللغة المؤقتة، والتي ليس لها علاقة مسبقة بالحقيقة، حالها حال الفلسفة. الوظائف لها معنى بخلق وجهات نظر مرجعية،،، خلق بنية من خلالها يمكن أن تقاس الأشياء.  بل هو الحد الذي يجعل من  الشيء محدودا، كما هي الوظائف المهمة كما الصفر المطلق للكلفن (Kelvin)، سرعة الضوء، الخ، وذلك فيما يتعلق بمستوى مرجعي مفترض. المستوى المرجعي، مرة أخرى محايث للوظيفة العلمية، وهذا  يكسب تناسق من خلال قوة وفعالية الوظيفة العلمية التي يقوم بها. كما يفترض مسبقا في العلم، في ما هي الفلسفة ؟ المراقبون الجزئيون، النظير العلمي للشخصية المفاهيمية وللشخصيات الفنية.

بالنسبة للمراقب الجزئي في العلم ، كما هو في الفلسفة، كثيرا ما يكون ضمنيا، ويوجد لخلق اتجاه للوظيفة العلمية، يمكن افتراض جاليلو كمثال، الذي وظيفته بالنسبة للكوزمولوجيا تنتمي إلى مستوى المرجع والذي يمنح الوظيفة تناسق أكبر من المستوى السابق، والذي كان في السابق غالبا اعتمد على هيكلية اللاهوت المتعالي، الذي جعل من التفكير العلمي السليم صعبا، و الذي فرض صورة أخلاقية للتفكير. المراقب الجزئي في هذه الحالة هو الشخص الذي يخلق مهام معينة وبالذات تلك التي تتخذ أشكال وتكتسب قوة بالنسبة لظاهرة معينة، كتلك العلاقة بين الشمس والقمر، كذلك الذي يقول بمركزية الشمس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر :

Gilles Deleuze and Felix Guattari, WHAT IS PHILOSOPHY? Trans by Graham Burchill and Hugh Tomlinson, VERSO, London, New York, 1994.

Deleuze, Gilles, Internet Encyclopedia of Philosophy.

Deleuze, Gilles, Stanford Encyclopedia of Philosophy.

أدب فلسفة

عن الكاتب

Gilles Deleuze