جريهام جرين في ثلاثيته

صخرة برايتون, والسلطة والمجد, ولب المسألة

جريهام جرين من أشهر كتاب القصة في الأدب الغربي المعاصر, وكان يتمتع بشعبية كبيرة في كل من بريطانيا وأمريكا، حيث بيع من كتبه ملايين النسخ، على الرغم من شك كثير من النقاد في قيمته الأدبية، وقد كسب من كتبه الوفير، حتى إنه عًدّ من الأثرياء فكل كتاب من كتبه طبع عدة طبعات، كما أخرجت له في السينما عشر قصص أو أكثر، من بينها ثلاثيته المشهورة، التي سندير الكلام حولها.

وجريهام جرين الكاتب القصصي, شاعر, ومؤلف مسرحي, بالإضافة إلى مقالاته الكثيرة, وكتبه عن رحلاته .

في الثاني من أكتوبر ( تشرين الأول), من سنة,(1904) وفي بلدة بيركهامستد ولد جريهام جرين ودرس في مدرسة البلدة التي كان والده ناظرها، وكان الصبي جريهام ثائراً على كل قوانين المدرسة الموضوعة، وأسعد أيامه كانت تلك التي كان يهرب فيها من المدرسة، ويأخذ في التجول في الحقول على هواه .

وبعد إنهائه لدراسته الثانوية، التحق بجامعة اكسفورد ليدرس التاريخ الحديث، وبدأت مواهبه هنا تتفتح, حتى انتخب محرراً لمجلة طلبة الجامعة, كما نشر ديوان شعر، وبعد تخرجه تنقل بين أعمال عدة, انتهت به أخيراً إلى العمل في الصحافة محرراً في جريدة ” تونتجهام” وفي هذه الفترة من حياته ترك المذهب البروتستنتي وأصبح كاثوليكياً, ثم محرراً في جريدة” التايمس” .

وعلى إثر نجاح قصة” الرجل الذي في الداخل” سنة”1929 ترك الصحافة وتفرغ للكتابة, وجريهام جرين من عشاق الرحلة في البقاع المجهولة, ففي سنة 1935 زار ليبيريا, فتوغل في غاباتها, ونام مع المواطنين في أكواخهم, وشهد رقصاتهم البدائية, وقد وصف لنا رحلته هذه في كتابه الممتع” رحلة دون خرائط”, ثم ذهب إلى المكسيك أثناء الاضطهاد الديني الذي حل بالكاثوليك فيها, فجاب أرجائها بالقطار, والطائرة والسفينة, وعلى ظهور البغال .

وقصة هذه الرحلة موجودة في كتابه” الدروب التي لا تعرف القانون”, وكان من وحي هذه الرحلة قصته الرائعة” السلطة والمجد” التي شهرته عالمياُ, ونال عنها جائزة هوذورندن سنة 1940, وهذه القصة هي ثانية ثلاثيته .

وخلال الحرب العالمية الثانية عمل محرراً في مجلة سبكتيتور, فموظفاً في وزرة الإعلام, ثم عاد إلى” سبكتيتور” ثانية .

وفي سنة 1941 ذهب إلى سيراليون في غربي أفريقيا ممثلاً لوزارة الخارجية, ومكث فيها سنتين, ومن تجربته هنا استوحى موضوع” لب المسألة” وهي ثالثة الثلاثية, وقد دار حول هذه القصة جدل طويل, بين المادحين والقادحين واختارها ” نادي الكتب” في بريطانيا لتكون كتاب الشهر, كما اختارها ” نادي كتاب الشهر” لتكون كتاب الشهر أيضاً .

وبعد الحرب العالمية الثانية توالت كتبه التي من أشهرها” الرجل الثالث” وعاد إلى رحلاته, فسافر إلى الملايو, وفتنام, والصين, وإندونيسيا, ومن وحي رحلته إلى الشرق الأقصى كتب قصته” الأمريكي الهادئ” وتدور أحداثها في سيجون, وزار كوبا ثم كينيا, والكونغو, ومن هذه الرحلات كان يستمد موضوعات قصصه .

وجريهام جرين عمل لدار النشر المعروفة BODLEY Head وله ولد وبنت, وأخوه هيو كارلتون جرين المدير العام للإذاعة البريطانية .

ولا شك أن جريهام جرين ظاهرة فريدة بين أعلام الأدب المعاصر في الغرب, وإذا كان هؤلاء الأدباء متفقين على أن لسان عصرنا يعيش في أزمة نفسية, فإنهم مختلفون في طريق الخلاص, وجريهام جرين هو الوحيد بينهم الذي يرى أن أزمة الإنسان المعاصر في المغرب سببها فقد الإيمان الديني, ولا سبيل إلى خلاصه مما هو فيه إلا بالعودة إلى الدين .

هذا هو المحور الذي تدور حوله قصصه ومسرحياته .

ولم يصل جريهام جرين إلى هذا الإيمان إلا بعد أن مر في صباه وشبابه بتجارب أسلمته إلى هذا الاعتقاد, وهو في موقفه هذا مناقض تمام المناقضة لمواقف كل من : ألبيركامو, وجان بول سارتر, وسيمون دي بوفوار, سومرست موم, وأرنست همنغواي, الذين يرون أن الإيمان معطل لتقدم البشرية, وأنه لا يصلح محوراً للكتابات الإبداعية التي تعتمد على الدوافع النفسية, والغرائز الطبيعية, في تناولها للإنسان .

ورغم هذا فإن جرين قد نجح في رأينا نجاحاً طيباً في عرض وجهة نظره في قالب قصصي يستهوي القراء, دون أن يفسدها بالخطب والمواعظ .

وقد أبدع جرين في قصصه عالماً خاصاً به, لا يشاركه فيه أحد, وهو عالم أطلق عليه نقاد الغرب عالم” جرين”, وأصبح هذا الاسم مصطلحاً متداولاً, وقد تجاوز حدوده فأصبح يطلق على كل عالم شبيه به .

وعالم” جرين ” يقوم على دعائم ثلاثة : السام, والفزع, والإيمان, وهي دعائم استمدها الكاتب من حياته :” ففي سنة 1922 كنت في السابعة عشرة, وكنت أحس بسأم خانق قاتل”, وهو يصف لنا ما كان يعاني من سأم طيلة سنوات حياته في مسقط رأسه, وقد بلغ من سأمه أن هرب في صغره من البيت, فكان هربه ثورة على جبروت والده الصارم, وأخذه والده إلى عيادة نفسية” ولكن التحليل النفسي لم يزد على أن أرسخ السأم في نفسي” .

وفي سنة 1922 أقدم جرين على الهرب مرة أخرى, ولكن بطريقة مبتكرة, فقد تناول مسدس والده ذا الطلقات الست, ثم وضع رصاصة واحدة في مأسورة من مواسير طاحونته, وأدار الطاحونة عدة مرات, ثم صوب فوهة المسدس إلى رأسه, وضغط على الزناد… إنها لعبة حياة أو موت … للموت فيها نصيب, للحياة خمسة أنصبة, وتنتصر إرادة الحياة, وكرر هذه اللعبة أربع مرات حتى سئمها .

وقد وصف في قصيدتين هذه اللعبة الخطرة التي قام بها, كما وصف ما كان يحس به, فقال إن الفزع الذي كان يسيطر عليه عمّق في نفسه الإحساس بالحياة, وفي هذا الفزع كان شقاؤه من السأم, ويعين على التغلب على السأم الإقبال الشره على ملذات الحياة, لأن جثامة الإثم في رأيه تبعث في النفس فزعاً شبيهاً بالفزع الذي أحس به وهو يصوب المسدس إلى رأسه, إن الفزع في كلتا الحالتين يعمق عنده الإحساس بالحياة, والإحساس العميق بالحياة يؤدي إلى الإيمان, ولكن المهم أن يعي الإنسان الإثم الكامن في الانتحار, والإثم الناجم عن الإقبال على الملذات المحرمة, ويفزع لما يصدر عنه, إذ بدون هذا الإحساس لا يكون خلاص .

جريهام جرين في موقفه هذا يرد رداً مباشراً على وجودية سارتر .

والإحساس بالإثم ومعرفة الشر هما اللذان يقودان إلى إدراك الخير, وليس العكس صحيحاً : ” فإن الإنسان آمن بالجنة, لأنه آمن قبل ذلك بالنار, ومست قلبه شعلة الحب, بعد أن اكتوى بنار الحب والكراهية” وليس كل إنسان بقادر على أن يعبر المرحلة الأولى إلى الثانية, فبعض الناس مكتوب عليهم الشقاء, لحكمة يعز علينا إدراكها, ولكن الله بها عليم, وخير ممثل لهذا المعنى شخصية الصبي في الثلاثية الأولى,” صخرة برايتون”, في هذا الحوار بينه وبين فتاته :

  • لا شك أن الجحيم أمر مقطوع بوجوده
  • والجنة أيضاً
  • الجنة؟ لا أدري .. لا أدري .

ويكمل هذه الصورة لعالم جرين تأكيده على أن الشفقة عاطفة خطرة يؤدى بصاحبها, وهي ليست سوى قناع يخفي وراءه العاطفة الحقيقية, عاطفة الاحتقار, وعنده أن الخيانة هي أم الكبائر, خيانة المرء لمعارفه وزملائه, ولهذا أكثر في قصصه من استعمال الرمز الموجود في قصة يهودا الاسخريوطي, وخيانته للسيد المسيح .

ونجد جريهام جرين يجعل لتوافه الأمور في الوجود قيمة, ويرى فيها سر العظمة الإلهية, وهو يختار لقصصه وسطاً معيناً, فتدور أحداثها في منطقة من العالم مازالت بدائية الإنسان سائدة فيها, كأفريقيا أو المكسيك, فإذا تجاوزها إلى إنجلترا اختار حياً فقيراً, ذلك لأن الإنسان البدائي” أعمق انتشاء باللذة, وأكثر استجابة لمواقف الرعب والفزع…. فهو يعبر عنهما تعبيراً تلقائياً, ولا يحاول أن يخفيهما, ولهذا كان أعمق احساساً بالحياة من الإنسان المحتضر الذي علمته الحضارة أن يخفي حقيقة انفعالاته”

وهذا الموقف هو الذي دفع جريهام جرين إلى أن يسافر إلى ليبيريا, وكينيا, والمكسيك, وعدد من بلدان الشرق الأقصى, ويتجول في الأحياء الفقيرة في لندن, ويراقب الصبية المشردين في برايتون .

لقد أفزعه ما رأى, وهذا ما أراد, وكان في كل مرة يعود من رحلته يحس أنه ازداد فهماً لسر الحياة, وإيماناً بالله .

وهو يذكر أن إحساسه بالحياة بلغ ذروته عندما وقع مريضاً بالحمى في ليبيريا, يتأرجح بين الحياة والموت” وفي تلك اللحظة اكتشفت نفسي, وبدت لي جوانب من أسرار الحياة لم أكن لأدركها في حال الصحة والعافية, ولا في المجتمعات المتحضرة” .

وعاد جريهام جرين من رحلته إلى ليبيريا ليكتب ثلاثيته تباعاً خلال عامي( 1938-1948), وتشترك هذه الثلاثية في أن أحداثها تدور في أوساط بسيطة, فتقع أحداث القضية الأولى في حي فقير مجهول في برايتون بجنوبي انجلترا, وتدور أحداث القصة الثانية في أدغال وسجون المكسيك, أما الثالثة فتنقلنا إلى شاطئ أفريقيا الغربي, وهذه الأوساط الاجتماعية- كما يقول بطل القصة الثالثة” لم تجد الطبيعة الإنسانية فيها وقتاً كافياً لكي تقتنع… فانتقلت فيها كل ضروب الظلم, والقسوة, والوحشية, والدناءة, تذرعها دون قناع… وهذه الصفحات موجودة في المجتمعات المتحضرة, ولكن الإنسان فيها حذق سترها وأخفاها” .

وفي هذه الثلاثية يعرض لنا المؤلف ثلاثة نماذج من الأبطال, يجسدون في تصرفاتهم وجهة نظر المؤلف نحو الخالق, والإنسان, والكون : فبطل القصة الأولى صبي في السابعة عشرة, وقاتل يعيش في رعب, ولكنه لا يتجاوز هذه المرحلة, ولذلك فهو نموذج للإنسان الذي كتب عليه الشقاء في الدنيا والآخرة .

وبطل القصة الثانية قسيس, بدأ حياته فاسداً, ثم عرف الله وعمق إيمانه عندما خالط المجرمين والآثمين في السجن, وخرج منه وقد تبدلت حياته, وتكون خاتمته أقرب إلى أن تجعل منه قديساً, فهذا القسيس قد عرف الله عن طريق الإثم والشر, فكانت معرفته سبباً في خلاصه في الدار الآخرة

وبطل القصة الثالثة مساعد مدير البوليس في غربي إفريقيا, وهو كاثوليكي متدين, ولكن ظروفاً معينة تدفعه إلى ارتكاب الآثام, فيقدم على الانتحار, وشخصية مساعد مدير البوليس هنا هي شخصية القسيس معكوسة, فهو يسير من الخير إلى الشر, ونحن نقف حائرين أمام هذه الشخصية : ترى أين مكانها في الآخرة؟ في الجنة؟ في الجحيم؟ لا تدري, فهي مزيج من الخير والشر .

وفي كل هذه الثلاثية يؤكد المؤلف على أن حكمنا نحن إنما هو حكم على ظاهر الأمور, أما الجوهر فسر مغيّب, لا يعرفه سوى سر الأسرار, العالم بالأسرار .

ونعود إلى هذه الثلاثية بشيء من التفصيل بعد أن عرضنا لهيكلها العام  :

فقصة ” صخرة برايتون” هي أكثر قصص جرين سوداوية, وبطلها الصبي ابن السابعة عشرة هو أكثر أبطال قصصه بعداً عن الخير, فكأن الشياطين قد عششت في كل جزء منه, فهو يبدأ بقتل موظف في إحدى الصحف ثم ينتقل من جريمة إلى أخرى, ويتزوج فتاة في مثل سنه لا لأنه يحبها, بل لأنها تعرف عن جرائمه الكثير, فهو بهذا الزواج يريد إسكاتها, وهو يعلم أنه تحبه, ومستعدة للتضحية من أجله, ورغم كل التضحيات التي قدمتها في سبيله, فإنه لا يترك لها سوى رسالة مسجلة على اسطوانة يقول لها فيها : ” فلتنصب عليك اللعنات, أيتها الكلبة…” .

إن الجريمة والإثم يغلفان القصة من أولها إلى آخرها, فهي تبدأ بالحديث عن الموظف الصحفي في أول عبارة فيها على هذه الشاكلة : ” قبل أن تمضي ثلاث ساعات على وجوده في برايتون, أدرك أنهم يريدون قتله” وتنتهي القصة برجال الشرطة وقد أطبقوا على الصبي .

والشر القابع في أعماق الصبي ليس مرده إلى ظروف اجتماعية معينة, أو إلى سبب ظاهر, إنها روح الشر تسير حياة الإنسان, دون أن تستطيع تفسيرها, لأنها سر إلهي .

وقصة السلطة والمجد أي السلطة الدنيوية ومجد الرب هي قصة قسيس كاثوليكي تطارده شرطة دولة مكسيكية لا دينية, لأنه في نظرها خارج على القانون لممارسته واجباته الدينية, بعد أن منعت الدولة ذلك, وهذا القسيس في حقيقته لا يحمل من وظيفته الدينية غير اسمها, فهو إنسان غارق في الآثام, سكير, عربيد له ابنة غير شرعية .

وبناء هذه القصة يذكرنا ببناء قصة” خبز وخمر” للكاتب الإيطالي ايناتسيو سيلوني, فكلاهما وصف للقاء البطل بصنوف متعددة من البشر, لتنتهي هذه اللقاءات بإدراك البطل لسر الوجود أي الإيمان بالله .

وتقوم هذه القصة على ثلاثة لقاءات أساسية بين القسيس ومسؤول الشرطة : فبعد الثلث الأول من الكتاب يوقف مسؤول الشرطة القسيس المتخفي ويستجوبه, ولكنه لا يتعرف عليه, فيتركه

وبعد الثلث الثاني يعتقله رجل الشرطة, ويزج به في السجن, دون أن يتعرف عليه, والتهمة الموجهة إليه هي تهريب الويسكي, وفي خاتمة الكتاب يتم اللقاء الثالث والأخير.

وفي هذه المرة يتعرف عليه مسؤول الشرطة, فيحاكم ثم يشنق, ولكن بعد أن كان القسيس قد مر بتجارب أحدثت انقلاباً في نفسيته, بحيث كانت خاتمة حياته أشبه بنهاية القديسين .

وقد بدأ هذا الانقلاب النفسي عند القسيس يوم دخل السجن بتهمة تهريب الويسكي, وخالط المجرمين والآثمين, ومن خلال الفزع والاثم أدرك سر الوجود, الذي تدركه البصائر والأبصار .

” هنا في السجن لم يكن يرى نفسه سوى مجرم بين حشد من المجرمين, هنا أحس بالأخوة الإنسانية احساساً هز أعماقه, وهو إحساس لم يشعر به أبداً في الماضي, يوم كان المتدينون يأتون إليه ليقبلوا يده وطرف ثوبه” .

وخرج من السجن وأخذ يحلم وهو سائر في الطريق بيوم يزول فيه الظلم, وتنتشر فيه العدالة بين الناس .

وهو في اللقاء الثالث مع مسؤول الشرطة يعرض نفسه للقبض عليه مختاراً, فقد ذهب للصلاة على فلاحة فقيرة تحتضر, مع علمه أن يهودا, أحد معارفه, قد وشى به إلى السلطات, واستعمال جريهام جرين للرمز هنا يعيد إلى أذهاننا قصة يهودا الاسخريوطي, ويطبق رجال الشرطة على بيت المرأة المحتضرة, ولكن القسيس يرفض أن يهرب, كان بإمكانه ذلك, إنه مسيح جديد  يقدم نفسه فداء للآخرين, وتكفيراً عن آثام البشر .

وفي هذا الموقف يكمن الفرق بين جريهام جرين وأيناتسيو سيلوني : فالكاتب الإيطالي يؤمن بالتآخي الإنساني, وبأن البشرية بحاجة إلى أناس يقدمون أنفسهم فداء للآخرين, كما فعل المسيح, ولكن التآخي والفداء مبعثهما الإيمان بالإنسان وبالأخوة الإنسانية, بينما مبعثهما عند الكاتب الانجليزي الإيمان بالله وبالكثكلة على وجه خاص .

وتنتهي هذه القصة في نهاية بارعة, بعيدة الدلالة, فبعد أن ينتهي مسؤول الشرطة من مهمته, وينزل العقاب بالقسيس, يجلس على مكتبه مستريحاً مسترضياً, فيستغرق في النوم, وعندما يفيق يذكر أنه حلم أحلاماً كثيرة لم يبق منها في ذهنه غير أنه ضحك كثيراً, وأنه كان يسير في ممر ضيق لا نهاية له, ولا منفذ فيه, والدلالة هنا أن مسؤول الشرطة هو الذي وقع في الشرك لا القسيس, شرك جرائمه وآثامه, وجهله لسر الوجود, أما الضحك الذي لازم أحلامه فإعلان عن خلاص روح القسيس من أسرها المادي, ونجاتها في العالم الآخر, وهذا الرمز يذكرنا بمطهر دانتي حيث تعلن ضحكات الجوقة عن انعتاق روح إنسان من عذابها, وخروجها من المطهر لتدخل الفردوس .

وتقع أحداث القصة الثالثة” لب المسألة” أن مساعد مدير البوليس, واسمه سكوبي, كاثوليكي متدين مستقيم محبوب لدى الجميع, ومعروف بين أصحابه باسم” سكوبي المستقيم” ولكنه مبتلى بزوجة كريهة, وتبدأ عقد سكوبي عندما تجاوزه المسؤولون في الترقية, وعينوا آخر مديراً للبوليس بعد إحالة المدير السابق على المعاش .

وهذا المدير الجديد ليس فيه شيء من مميزات سكوبي, وتستحكم العقدة في نفسه لأن زوجته اعتبرت هذا التصرف ماساً بكرامتها, وجعلت منه موضوعاً لا تمل التحدث فيه .

وقد حاولت جهدها أن تجعله يستقيل من وظيفته احتجاجاً, ولكنه رفض ذلك .

وبسبب ما كانت تعاني من تعاسة, أرسلها في رحلة إلى جنوب أفريقيا, لتغطية نفقاتها استدان من مهرب مجوهرات معروف في المدينة, وأخذ في التستر على أعماله الإجرامية, واستمر سكوبي في الانحدار, فزنى وانتهى به الأمر إلى الانتحار .

فالقصة كما نرى, تدور حول تحلل إنسان فاضل, وترديه, بسبب عيب فيه يصل درجة المرض النفسي, وهذا العيب هو فرط الحساسية والشفقة, حتى أنه لا يتحمل رؤية إنسان يتألم .

وهذه الحالة النفسية هي التي تجعله يستدين من أجل الترفيه عن زوجته, وتدفعه إلى اقتراف جريمة الزنى مع فتاة بائسة, لا رغبة فيها, بل شفقة عليها, ويرى طفلة تعاني سكرات الموت, فيدعوا الله أن يسلبه الراحة وهدوء النفس مقابل أن يرد للطفلة حياتها, فيستجيب الله لدعائه ليمتحن صدقه .

وترد العبارة التي جعلها المؤلف عنواناً للقصة في بداية القسم الثاني منها, عندما كان سكوبي وحيداً ليلاً, يتأمل نجوم السماء, ويناجي نفسه قائلاً : ” ترى هل إذا عرف المرء لب المسألة, أكان يحس بالشفقة حتى على الأفلاك في مدارها؟”  ولب المسألة يعني عند جرين” سر الوجود” أي خالقه ومبدعه .

وما يريد أن يؤكده جريهام جرين هو أن العدالة الإلهية سر من الأسرار, لا نستطيع أن ندركها نحن البشر, ويستحيل علينا أن نقطع برأي في أمر سكوبي : أهو في الآخرة من الناجين, أم من الهالكين؟

هذا هو جريهام جرين أشهر كاتب قصصي في بريطانيا, بعد وفاة سومرست موم .

وهذا هو عالمه

وهذه هي ثلاثيته

وقد نختلف معه في جل ما يؤمن به, ولكننا لا نشك في أنه سيد من سادات كتاب القصة المعاصرة, تكمن براعته في قدرته على السرد القصصي بطريقة تشد إليه انتباه القارئ, حتى ليذهل عن نفسه .

أدب

عن الكاتب

عبد الحميد محمد الراوي