نعيمة البخاري
الحديث عن موضوع الحب ليس ترفا فكريا، بل هو حديث عن وجود الإنسان، يقول علي حرب “والنظر في تجربة الحب والعشق هو تأمل الإنسان في وجوده، بمعنى من المعاني. لأن الحب حالة قصوى من حالات الشرط البشري، وشكل من أشكال ممارسة الإنسان لذاته وبقاءه”. ومن هنا ندرك يقينا أهمية الحب في حياتنا ووجودنا.
– خطاب الحب:
يرى علي حرب الحب هو حالة قصوى من حالات الشرط الإنساني، كالخوف والقلق والموت. فالإنسان كائن يحب ويهوى. بل هو لا ينفك عن حبه للحياة التي تسري في كيانه، ولا ينجو من هوى يسكنه، يهمين على مشاغله، أو يتوارى خلف هواجسه ووساوسه. والحب قوة قاهرة وسلطان يطغى على ما عداه. ولهذا، فإن المرء إذا ما أحب، استبد به شوقه واستولى عليه. فنحن “كائنات نرغب بقدر ما ننفر، ونحب بقدر ما نكره. ونحن إذ نحب من نحب أو ما نحب، لأجل ذواتنا، إذ الحب، هو في مآله، حب الذات، أو ما يسمى “حب الحب”.
ويؤكد ذات المفكر إلى أن للحب أثره العظيم والخلاق في حياة الإنسان ووجوده. إذ به يلطف الطبع ويرق الإحساس وتصفو النفوس. ولا شيء أكثر منه يجلو المواهب ويفتق الإمكانات ويبرز المزايا والفضائل. فهو امتلاء الوجود. إنه وَجْد وموجِد وحضور ملهم ونور مشرق. به يتحرر المحب من تفاهة الأشياء ورتابة الزمن. وينهض من السبات والانحطاط. وبه يعود الإنسان إلى أوله فتدب فيه رعشة الحياة الأولى، وتعتريه رعشة الحياة الأولى، وتعتريه دهشة الخلق، ويستولي عليه ذلك الانجذاب الأصلي الذي به تأتلف الأشياء وتتوحد الكائنات وتتمرأ الذوات.
دلالة الخطاب:
إن ما يلفت النظر –سب المفكر علي حرب، هو أن ظاهرة الحب استأثرت عند العرب باهتمام الفلاسفة والعلماء، فضلا عن الشعراء والأدباء، فنظر فيها أئمة الفكر والعلم وحاولوا عقلها وفهمها. وقلّ أن حظيت أحوال الحب في آداب الأمم، على صعيد الدرس والبحث، بمثل ما حظيت به في اللغة العربية. فهناك على الأقل بضع عشرة رسالة ألفت في الحب، تبحث في أصله وأسبابه، أو تنظر في حده وماهيته، أو تفصّل الكلام على أجناسه وأنواعه، أو تصف حالته وتترصد علاماته وغير ذلك.
وانتظام خطاب مستقل في الحب له دلالته في نظر الباحث فإن توفر العلماء ومن بينهم فقهاء على دراسة الحب والتأليف فيه، هو بلا ريب مظهر تنويري في تلك الحقبة الزاهية من حياة المجتمعات العربية. ولنا في تجربة ابن حزم خير شاهد. فإن صاحب “طوق الحمامة” ولم يكن فقيها فحسب، بل إمام من أئمة الفقه. نظر في الحب وعالجه بمنتهى الصراحة ومن دون مواربة، وكان لا يتورع عن البوح بمكنوناته والتحدث عن تجاربه في هذا الشأن.
بل يعترف بأنه عانى الحب وذاق حلوه ومره. ولا يجد أي حرج في تسجيل اعترافاته واستعادة تجاربه العشقية في معرض بحثه ظاهرة الحب والعشق. ولا شك أن في هذا دليلا على حرية العقل في البحث والتنقيب.
ومن يتتبع تطور الخطابات، يلاحظ أن الأمور سارت، بين الأمس واليوم، نحو فرض مزيد من القيود على الكلام في الحب والجنس. فما لا يُبحث فيه الآن بُحث من قبل. وما يُمنع الخوض فيه اليوم، قد طوقت أبوابه، وما لا يُلتفظ به الآن، كان يذكر باسمه فيما مضى من دون تورية. على الأقل في خطابات الكتاب والعلماء.
وهنا يلاحظ المفكر علي حرب أن فسحة المعنى لدى القماء كانت أكثر اتساعا مما هي عليه لدى المحدثين. وهذا ما عنيناه بالتنوير في ذلك العصر. إذ ما التنوير إن لم يكن تسمية ما لا يسمى من الأشياء وقول ما لا يقال من الرغبات. وما التنوير إن لم يكن معرفة ما يراد إخفاؤه وطمسه. فالتنوير يتجلى حقا في تحرر العقل مما يعيقه من أشكال دوغمائية أو أنماط سلطوية.
وإذا كان خطاب التنوير – يضيف المفكر علي حرب- ذا دلالة تنويرية، فإنه من حيث مضمونه وفحواه، خطاب في “الأنوار”، ونعني هنا بصورة خاصة الخطاب الصوفي في الحب. فإن هذا الخطاب هو حقا خطاب الأنوار في الثقافة العربية الإسلامية. ويكفي للتحقق من ذلك مطالعة الرسالة التي ألفها في المحبة عبد الرحمن بن محمد الأنصاري القيرواني وعنوانها “مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب”. ففي هذا الكتاب الذي يُنبئ عنوانه عن مضمونه، تُعقل المحبة من خلال جملة المفاهيم التي يدور عليها الخطاب الصوفي خاصة، والفلسفي عامة، كالله والحق، والقدسي والعلوي، والروحاني والعقلي، والأزلي والدائم، والجمال والكمال، واللذة والسعادة. ولذا، فإن من يقرأ خطاب المحبة، مكتوبا باللغة الصوفية، يقرأ في الحقيقة خطابا ما ورائيا يطل من خلاله على مسألة الكائن، ويقف على تأول للوجود وتفسير لمعنى النور والإشراق.
– الذوق والمنطق:
لتوضيح هذه الجزئية يذكر المفكر علي حرب أن المعرفة عن الصوفية لا تتم بالبحث والنظر، بل بالرياضة والمجاهدة، ولا تقوم على ترتيب الأدلة وإنتاج النتائج، بل هي ذوق وكشف. وهم يعتبرون أن المعرفة الذوقية أكثر وضوحا وانكشافا وأشد يقينا من المعرفة النظرية. لأن هذه الأخيرة تُنتج بالتصور والدليل. وبالتصور تدرك صورة الشيء، لا الشي نفسه. وبالدليل لا يدرك الشيء مباشرة، بل بواسطة القياس، أي بتوسط الحد الأوسط. بينما المعرفة الذوقية هي إدراك مباشر للشيء وتحقق الذات منه.
فالمعرفة الذوقية انكشاف الشيء لذاته، واتحاد الموجود بحقيقته. وعليه تبدو المعرفة النظرية بالوجود أنى درجة من المعرفة الذوقية. وهذه المعرفة لم تنتج أصلا في الخطاب الصوفي، إلا بوصفها تنظيرا لأحوال العارفين ومكاشفتهم. إنها النظرية التي تحاول أن تثبت عجز النظر عن المعرفة بالأحوال. فكيف بمعرفة المحبة التي هي أصل الأحوال وغايتها. إنه “أعظم من أن تٌشرح حقيقته بالنطق” كما عبره عن ذلك الأنصاري وفي مشارقه.
فالنطق بوصفه نحوا ومنطقا في آن، قاصر عن استيعاب تجربة الحب، لأنه لا تفي بتلك التجربة العبارات الدالة، ولا تدرك بالأدوات النظرية. بل كل واحد يعبر عنها حسب ذوقه منها، وينطق بها بمقدار حاله، وما يدرك بالبرهان ليس سوى أسباب المحبة وشروطها أو لوازمها وآثارها. وأما المحبة بالذات فلا تبلغ بلفظ ولا يكتنفها تصور. ولهذا يحترز العارفون عن ترجمة مواجيدهم وأذواقهم بالعبارات والأقوال، مخافة الخطأ. فالمحبة سكر لا يمكن أن يُخبر عنه.
وختم المفكر علي حرب قائلا: إذا كان الفكر ينحو إلى البرهنة والاتساق فإن النطق، بما هو نمط وجود الإنسان، إنما يعني، انفتاح الإنسان على وجوده أو انكشاف هذا الوجود له. إنه تأول يعاش ويذاق.