أحمد الزناتي
الإشارة الوحيدة في العربية إلى جون كوبر بويس وردتْ في كتاب هنري ميللر (الكتب في حياتي)، وكتب فيه شعراً ونثراً. قال لو لم يتكلم عنه أصدقاؤه لما سمع به أحد، لأنه شخصياً كان يتعمد ألا يسمع عنه أحد.
بويس من آلهة الأدب العوالي، لكنه إله محتجب بتعبير العهد القديم، كتَب في الفلسفة وألّف مقالات وقصائد وروايات ومذكرات ومحاضرا وبورتريهات أدبية، له كتاب مراجعات اسمه Visions & Revisions، حلّل فيه رموز الأدب الغربي من دانتي إلى كونراد، أجلَسهم أمامه وفصّصهم، لم يرَهم بعين ناقد أو أستاذ جامعي (وظيفته) بل كبدلاء في حياة لم يعشها، كان يضع نفسه مكانهم ويمزج حياته بحياته.في مقالة على الجارديان قال صحفي إنك تستطيع التجول لمدة سنوات في الكون الأدبي الذي ابتكره ج. كوبر بويس ولا تصل إلى نهاية، وإنك كلما واصلت التفتيش في إنتاجه تكتشف أن له كتابًا جديدًا أو رواية أضخم لا تعلم عنها شيئاً.
جون كوبر بوويز فيلسوف بريطاني ومحاضر وروائي وناقد أدبي وشاعر. وُلد بويس في شيرلي، ديربيشاير ، حيث كان والده نائبًا للكنيسة ميخائيل وكل أبرشية الملائكة . على الرغم من أن بويس نشر مجموعة من القصائد في عام 1896 وروايته الأولى في عام 1915 ، إلا أنه لم يكتسب نجاحًا ككاتب حتى نشر رواية الذئب سولنت في عام 1929. وقد تأثر بالعديد من الكتاب ، لكنه كان ينظر إليه بشكل خاص كخليفة للروائي الكبير توماس هاردي. كما كان بويس محاضرًا وكاتب مقالات أدبية من طراز رفيع، أولاً في إنجلترا ثم من عام 1905 حتى عام 1930 في الولايات المتحدة الأمريكية التي كُتبتْ فيها العديد من روايات بويز الكبرى، وكذلك السيرة الذاتية التي نُشرت لأول مرة في الولايات المتحدة.في عمله السيري الشائق “الكتب في حياتي” (دار المدى، ت: أسامة منزلجي) يكيل الكاتب الأميركي هنري ميللر المديح إلى جون كوبر بويس ويعدّه “المعلّم” بألف لام التعريف ، بويس هـو الساحر الأدبي الذي مارس تأثيرًا قويًا في تشكيل ثقافة ميللر الأدبي. لنقرأ الفقرة التالية عن “بويس” من كتاب ميللر:
“هذا الرجل، الذي كنت أحضر محاضراته باستمرار والتهمتُ كتبه بنهم لم أقابله إلا مرة واحدة. كنتُ أكنّ له احترامًا مغلفًا بالرعب. فكل كلمة نطقها بدا أنها تصيب الهدف. والكُتَّاب كلهم الذين حينئذٍ مولعًا بهم كان هو يكتب ويحاضر عنهم، لقد كان إلي أشبه بمهبط وحي. إن جون كوبر بوريس ينتمي إلى سلالة من الرجال التي لم تنقرض قط، ينتمي إلى القِلة المُختارة، التي على الرغم من الطوفان الذي هـزّ العالم، كانت تجد نفسها على متن سفينة نوح. لقد أشرتُ إلى بويس بوصفه كتابًا حيًا، فما معنى هذا الكتاب إلا أنه كان كُتلة من اللهب، كتلة من الروح. ومقابلة رجل يمكن أن نُطلق عليه كتاب حي معناه أن نصل إلى منبع الخلق ذاته”.
جون كوبر بويس كون قائم برأسه، عالم محفوف متشعب المسالك بالمخاطر، قد يتجّول القارئ لسنوات طويلة في هذا الكون الموازي مسحوراً مأخوذ اللب ولا يصل إلى نهايته. يُشبّه بويس بتولكين، الكاتب البريطاني الشهير الذي اخـترع كونًا آخر موازيًا، صحيح أنّ مملكة بويس لم تكن مأهولة بالسُكان مثل مملكة تولكين، لكنها كانت ثرية وخصبة. كان بويس رجلاً غزير، وبحسب مؤرخي سيرته الذاتية كانت الكلمات من قلم يديه تدفقاً هادراً وسلساً، واشتهر بأنه لم يقرأ بأنه لم يعد قراءة ما كتب قط.
نشر بويس أكثر من كتاب مقالات تناولت بالنقد والتحليل أساطين الأدب الغربي، من بينها كتاب Visions& Revesions (رؤى ومراجعات)، وكتاب The Complex Vision (الرؤية المعقدة)، وكتاب The Pleasures of Literature (متعة الأدب) الذي نُشر للمرة الأولى في سنة 1938 ويضم مجموعة من المقالات المختارة، وكلّم فيه عن متعة الأدب وقوته في حد ذاتها، عن قوة الكُتب وتباين تأثيراتها على القارئ. اخترتُ الفقرات التالية من كتاب بويس متعة الأدب:
“لم يكن في استطاعة السَحَرة تسخير الملائكة أو الشياطين من دون معرف أسمائها. وهنا يكمن منشأ الأدب. فالكلمة هي التعويذة السحرية التي تستخدمها الذات للسيطرة على نفسها أولًا، ثم السيطرة على الآخرين، وفي نهاية المطاف السيطرة على الطبيعة. وبعد السيطرة على الحياة ونشر الإبداع فيها تكون المهمة التالية المنوطة بالكلمات هي توجيه النـقد الحياة. وبمعنى أكثر دقة لو أخذنا كتابًا مثل “حكايات جريم” لرأيناه لونًا من ألوان نقد الحياة يلعب على الأسرار السحرية لثيمة الحظ، وعلى صعيد مقابل ترى كتابًا مثل “منطق هيجل” يلعب على ثيمة الأسرار السحرية للعقل. إن الأدب كله هو أدب القوة، الأدب كله هو أدب المعرفة، الأدب كله هو أدب الهروب، وإن ملاحظة واحدة لـ”إسبينوزا” مثلًا هي قـوة ومعرفة وهروب في آنٍ واحد.
إن الذات الإنسانية في معرض مواجهتها لحقائق الحياة المتبدّلة وفي مواجهة القوانين الغامضة والمشاعر المتقلبة لتجربة وجوده في الدنيا، ينزع إلى تجميع البيانات واختراع الأساطير والتبرّك بالنبوءات والإذعان إلى الإلهام وفضح الأوهام وحكي القصص وتبنّي الإصلاحات والتحريض على الثورات والدفاع عن الرجعية، والاعتراف بضعفه الإنساني ورسم ملامح هذا الضعف، والزهـو بأفكاره والأسى على جهله والإفصاح عن مشاعـر حبّه وكراهيته، عن إعجابه، عن آماله وإحباطاته، ينزع إلى أن يقترح ويؤكد وينفي ويميّز. يبدو تعبير الأدب الجميل Belles Letters بالنسبة إلىّ تعبيرًا لا يقل سخافةً عن تعبير “الفن لأجل الفن وحده”. فبعض الأنساق الفلسفية تقدم فـنًا يفوق الفنّ الموجود في “ليالي ألف ليلة وليلة”.
لكن شيئًا واحد مؤكدًا، وهو أنه برغم أن الكتب، كما يقول ميلتون، قد تكون أوعية لتحنيط الأرواح الجبارة ، إلا أنه تمثل كذلك قيامة الأرواح المتمردة والرجعية والخيالية والشيطانية. بين دفتي الكتاب مأوى لكل ملائكة العقل البشري وشياطنيه، ولهذا السبب فإن متاجر الكتب، ولا سيما متاجر الكتب المستعملة، هي ترسانة أسلحة فتاكة، مستودع أسلحة الثوّار، ووكر الأفيون لتثبيط ردود الأفعال. وبسبب أن الكتب هي مستودع يحوي كافة أشكال الفِداء والإدانة، وكافة ضروب العقل والجنون، ومأوى فوضى الروح الإلهية، فإنها ما تزال اليوم، كما كانت على الدوام، موضعًا للشك والارتياب من جانب السلطات الحاكمة. في متجر الكتب القديمة تسكن قرون المذبح1 حيث يُمكن للأفكار الإنسانية الخارجة عن القانون كافة العثور على ملجأ يأويها، ففي متاجر الكتب المستعملة تختفي، مثلها مثل قُطاع الطرق اليائسين، السلالة الطائشة المنحدرة من قلوبنا البريّة المظلمة التي تمزق نفسها بنفسِها.
إن الكتب هي أفكار عن الأشياء قبل أن تبدأ الأشياء ذاتها، تخلق الكتب عوالمَ وتدمّر أخرى. الكتب هي مرايا النور ومرايا العتمة التي يرى فيها الكون وجهه الحقيقي. الناس الذي يقولون:” يُمكنني العيش من دون الكتب، يمكنني الاعتماد على التجربة وحدها، وأفكاري تنبع مني أنا وحدي، هم أنفسهم ليسوا إلا كتبًا بسيطة مهترئة، تترك الريح تقلّب صفحاتها، صفحات سبق وأن قُلبت ملايين المرات في الماضي.
في مقدور المرء أن يصير ناجحًا من دون الكتب وأن يجني ثروة من دون الكتب وأن يستبدَّ برأيه على رفاقه من دون كتب، لكنه سيعجز عن رؤية الله، ولن يكون في مقدوره أن يعيش لحظة الحاضر المشحونة بالماضي والحُبلى بالمستقبل من دون معرفة بيوميات العِرق الذي ننتمي إليه.
ربما يخبرك إنسان أن تفكيره نابع من رأسه فقط وأنه لا يحتاج إلى الكتب في شيء، لكنك لن تضطر إلى أن ترافقه طويلًا حتى تكتشف أن ردود أفعاله على الأشياء وأن الأفكار الأصلية التي يزهو بأنها نابعة من رأسه، ليست إلا بقايا وقصاصات قديمة سقطت من كتب القدماء لتحطَّ على الأسواق المأهولة بالناس.
إن الحكمة المجتمعة من العهود الغابرة قد تجلّتْ آثارها في الملابس والتقاليد والطقوس في أقول وحِكَم ونبوءات منحدرة من ماضٍ بعيد، لكن ذلك كله لم يكن إلا أكوامًا من الكتب، ربما كُتبًا لم تُدوّن
الكتب هي احتجاج الإنسان العقلاني ضـد اللا عقلانية، هي احتجاج الإنسان البائس في مواجهة الصَلَف، هي احتجاج المثالي في مواجهة مادية العالَم، هي صوت الإنسان في مواجهة خَـرَس الكون، هي حياة الإنسان في مواجهة الموت الطوّاف، هي تجلّي الإلهي داخل الإنسان. وكل من يلمس بأنامله كتابًا، لا يلمس “إنسانًا”، بل يلمس الإنسان بألف لام التعريف. فالإنسان هو الحيوان الذي يبكي ويضحك ويكتب. ولو كان “بروميثيوس” الأول قـد سرق شعلة النار من الآلهة، فإن آخر “بروميثيوس” على الأرض سيعيدُ الشعلة لتسكن بين دفتي كتاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- في الأصل Horns of the altar، وهو تعبير من العهد القديم المقصود به مذبح المحرقة حيث كانت تقدم الذبائح والدماء تسيل على جدرانه، كان المذنبون الهاربون والخائفون الذين يلجؤون إلى الهيكل ليحتموا به يتمسكون بقرون المذبح، وكان يوضع عليها دم الإثم للاستغفار، (المترجم).