“سيرانو”.. رشفة حياة في زمن الوباء والحرب

كتب بواسطة إسحاق فيلدبيرج

“حنين جارف لزمن الفروسية والحب والتضحيات والانخراط في ايقاع العشق وموسيقى الحياة.. قرون باتت تفصلنا عن قصص الحب الأسطورية التي خلدها الأدب العالمي في ذاكرة الميلوداما التعبيرية، لكنه الفن السابع الذي يعيد لنا رشفة العشق من جديد”..

أجرى الحوار: إسحاق فيلدبيرج

ترجمة: شيرين ماهر  

“جو رايت” أحد أشهر صانعي الأفلام البريطانية، والمعروف بأعماله الكلاسيكية الرومانسية المأخوذة عن روايات أدبية شهيرة؛ كان منها فيلميه “Pride& Prejudice” و “Anna Karenina”.. والواقع عندما تقرر مشاهدة أفلام “رايت”، فأنت تطالع رسائل حب عتيقة مكتوبة بخطوط مٌزهِرة تَسيل منها دموع رومانسية حالمة،  فقد ترشحت أعماله للعديد من جوائز الأوسكار. كما حقق شراكات ناجحة جداً مع عدد من الممثلين،  بما في ذلك كيرا نايتلي وماثيو ماكفادين وساويرس رونان وغاري أولدمان. أحدث أفلامه،Cyrano ، هو فيلم غنائي رومانسي أعاد للجمهور أجواء الكلاسيكية المفقودة في زمن الوباء والحرب الذي يشتد فيه العوز لمثل هذه المعان الغائبة.. الفيلم مأخوذ عن مسرحية «سيرانو دى برجراك» للشاعر الفرنسي الشهير “إدموند روستان”، أحد رواد الأدب الفرنسي، وصاحب بصمات مؤثرة في أدب الحقبة الرومانسية في الأدب الفرنسي.

يدور الفيلم حول ثالوث الحب الميلودرامي ويتناول واحدة من قصص الحب والفروسية القابعة في أحضان القرن السابع عشر، إذ يعيد “رايت” تقديم هذه القصة الكلاسيكية الرائعة بمشاركة نجم مسلسل “صراع العروش” بيتر دينكلاج، وهايلى بينيت، كيلفن هاريسون جونيور، بين ميندلسون وآخرون. المعالجة السينمائية للرواية قدمتها الكاتبة إيريكا شميدت، حيث يشرح “رايت”- فى حواره – محاولات التكييف بين النص المسرحي الأصلي والمحاكاة السينمائية للأحداث أثناء تصوير الفيلم، كتجربة اعتبرها أحد أشكال الانعزال الإيجابي عن الواقع  داخل فقعة حالمة تعيدهم إلى زمن الحب والفروسية والكلاسيكيات من جديد.

مروراً بمشوارك السينمائي وأعمالك السابقة؛ وأشهرها “كبرياء وتحامل”، “تكفير”، “آنا كارنينا”، يبدو أنك قد نلت حظاً وافراً من إخراج الأعمال الدرامية الرومانسية والعاطفية خلال تلك الفترة. وعن فيلمك الأخير “Cyrano” فهو ليس فقط عملاً رومانسياً وإنما مسرحية غنائية تضج باللوحات الموسيقية، وهو العمل الأول من نوعه بالنسبة لك. عندما شرعت في تنفيذه، كيف وضعت تصوراً يناسب طبيعة النص المسرحي الموسيقي وفى نفس الوقت يتماهى مع إخراجه سينمائياً ؟ وما هو التحدي الجديد الذي شكله هذا العمل لك تحديداً ؟

يجذبني شغف دائم أن أدور ذهاباً وإياباً حول قصص الحب في أي زمان ومكان، وتحديداً الأن. شعرت أن هذا هو الوقت المناسب للقيام بذلك وأنني بحاجة ماسة إلى صنع فيلم عن التواصل البشري والصعوبات التي نواجهها في العثور على مثل هذه العلاقات الحميمة. كان ذلك مهمًا للغاية بالنسبة لي. في البداية، كنت أرغب في عمل فيلم يخلو من أي سخرية أو اسقاطات مجتمعية، فقط رأيت الأمور من منظور طفولي بحت كمن يبحث عن الحب بصورة مجردة كـ “قيمة الخلاص” من كل منغصات الحياة. كان التحدي بالنسبة لي كون العمل مقتبس في الأصل عن نص مسرحي موسيقي. كما قلت، لم أقم من قبل بإخراج مسرحية موسيقية. ولكن على الرغم من ذلك شعرت، وكأن “سيرانو” بمثابة تطور طبيعي للأعمال العاطفية التى قدمتها من قبل والتي تضمنت بعض الاستعرضات مثل “آنا كارنينا”. ثم جاء التحدي الحقيقي وهو التصوير خلال جائحة عالمية تقيد كل تحركاتنا. كانت تجربة غير عادية ومؤثرة بالنسبة لي ولفريق العمل بأكمله.

أعلم أنك عزلت نفسك وطاقم العمل وفريق التصوير داخل مدينة “نوتو” بجزيرة صقلية طيلة فترة التصوير، لقد اقترب فيلم “Cyrano” من النهج السينمائي والمسرحي فى تقنيات التصوير بطريقة مذهلة. عند مشاهدته، لاحظت قيام الراقصين بالظهور في خلفيات المشاهد كما في الأوبريتات الموسيقية. ماذا يمكنك أن تخبرني عن كواليس الأداء خلف الكاميرا والتى بدت لى وكأنك تدير فرقة مسرحية أكثر منها  فيلم سينمائي؟

بمجرد أن تمكنا من تخصيص الموارد المالية المخصصة لإنتاج الفيلم، وهو الأمر الذي كان صعبًا في مثل هذه الظروف، قررنا تصوير الفيلم في جزيرة صقلية، كردة فعل لبعض المشاكل العملية جراء صعوبات التصوير أثناء الجائحة. كانت جزيرة صقلية بها حالات منخفضة جدًا من إصابات كوفيد، على عكس المدن الرئيسية في إيطاليا. شعرنا أنه بمقدورنا خلق فقاعة معزولة عن العالم نستطيع أن نؤسس داخلها عالمنا المتخيل والمعيش أيضا لنتنفس من خلاله الصعداء في مثل هذه الظروف. لقد اجتمعنا مع 350 ممثلاً وراقصًا .. كنت أرغب في إنشاء مجموعة من المتعاونين من عموم أوروبا. ومن ثم، كان علينا التعامل مع ما تعنيه قيود الجائحة. أُجريت اختبارات لنا جميعًا كل يومين، وشعرنا كل يوم وكأنه انتصار، كلما جاءت اختباراتنا سلبية، ما يعني أننا سنتمكن من مواصلة التصوير، وسنكون قادرين على استكمال العمل. لقد خلق ذلك جواً رائعاً وحماسياً للغاية لا يمكن مقارنته بظروف التصوير العادية.. مواصلة التصوير في ظل هذه الضغوط شكلت تحدياً مستمراً نجتازه معاً  كل يوم .

لقد جعلت الممثلين يغنون على الهواء مباشرة. ما الذي أضافه ذلك إلى “Cyrano” بشكل عام من حيث التحديات اليومية؟

كان يعني ذلك خلق مستوى من الألفة والانسجام بالتوازي مع تقديم العروض الحية. لم أرغب في أن يتوقف الناس فجأة عن الكلام، ثم تبدأ الموسيقي، ثم يبدأون في الغناء بطريقة مزعجة، ونضطر بعدها لمزامنة حركة الشفاه مع زمن التشغيل. أردت أن أشعر بأن الأغنية قريبة جدًا وحميمة جدًا، وألا أشعر أن الأغنية كانت مجرد أنفاس تخرج وتدخل دون روح حقيقية. أحببت العيوب العرضية: عندما يتكسر الصوت أو يرتعش، ربما يتنفسون في المكان الخطأ. شعرت أن تلك السقطات الصغيرة ستنقل، بطريقة ما، المشاعر واضطرابها إلى الجمهور. كل هذا التقارب خلق تجربة عاطفية أكثر قوة وحميمية وصدق.

يرجع الفضل في الكثير من واقعية هذه الشخصيات إلى الأداء أيضًا… الفنان “بيتر دينكلاج” أو “سيرانو”.. أخبرنا عن طبيعة المحادثات التي دارت بينكما حول رؤيته الأدئية للشخصية؟

يضفي (بيتر) أصالة غير عادية إلى الشخصية التي يؤديها لدرجة تجعلها لا تشبه أي تكرار سابق في أي عمل أخر.. هو يصنع ذلك مثل أي رجل قيادي عظيم. ولكن كان هناك قوة خفية بشكل لا يُصدق حول مشاهدته وهو يحقق حلمًا طويلاً في حياته المهنية، وهو أن يلعب دور البطولة الرومانسية. كان هذا شرفًا حقيقيًا أن أشاركه حلمه وأشرِف عليه. لديه بالفعل روح طاغية عندما تحلق لا يمكنك أمامها سوى السكون والانخراط في الدهشة. لديه هذا الذكاء المتقد والحنو أيضاً. لكنني أيضاً  كنت أحمل مسؤولية حراسة هذا الحلم.  الأداء، في اعتقادي، بمثابة عمل خيالي غير عادي لا يمكن وضع أطر له أو تحجيمه. ومن الصعب وصفه بالكلمات. لهذا السبب يؤدي الممثلون، ويخرج المخرجون (ضاحكاً).

كيف كان شعورك حيال العمل مع الفرقة القومية؟ أغانيهم تعبر عن الأسف والشوق بمستوى عميق؛ كان من المريح رؤية موسيقاهم تنساب عبر أحداث الفيلم داخل هذا السياق…

لطالما كنت مؤمنًا بشدة بالإعداد الجديد قبيل أي عمل. ومع ذلك، يجب أن تكون أكثر استعدادًا عند تصوير مسرحية موسيقية. يجب أن يجرى إعداد الأغاني بعناية وتصويرها بطريقة لا تعتمد على المشاهد الدرامية طيلة الوقت. يمكنك الاستجابة أكثر إلى منحنى درامي تصاعدي خلال اليوم الواحد. لقد جهزنا”Cyrano”  في غضون لمحة واحدة من حياته. عملت، عن كثب، مع آرون وبريس ديسنر وأيضًا مع مات بيرنينجر وكارين بيسر، اللذين كتبوا أغاني الفيلم. كانت بعض الأغاني مشابهة لما كانت عليه في ورشة العمل الأصلية التي رأيتها، والبعض الآخر كان مبهماً بعض الشيء. قمنا بتحليل كل أغنية على حدا. لقد تساءلنا عن مكانها في الفيلم وتأكدنا من أنها تحتوي على أكبر قدر ممكن من المعنى والأهمية. على المستوى الشخصي، أهوى العمل مع موسيقيين لم يفعلوا ذلك من قبل، كما كان الحال مع “Chemical Brothers” في أغنية “Hanna”. إنه أمر رائع أن ترى عملك بـ “أعين الأخرين”، كما لو كنت تفعل ذلك للمرة الأولى. في بعض الأحيان، يمنحك ذلك الفرصة كى تسلط الضوء على التكنيكات القديمة التي ينبغي التخلي عنها، كما يخلق فرصًا جديدة لاكتشاف العمل ذاته من جديد. كل خطوة على الطريق مثلت تحديًا مثيرًا للاهتمام.

لقد تحدثت سابقًا عن رغبتك في أن يخلو فيلم “Cyrano” من السخرية، الأمر الذي دفعني إلى التساؤل عن مشروع لك مؤخرًا ، وهو فيلمك “المرأة في النافذة/ The Woman in the Window”، حيث  يتعامل هذا الفيلم مع المجازات النفسية والإثارة ولغاتها المرئية بطريقة ساخرة للغاية، فالطالما أدهشتني مقاربتك في استخدام الحيلة في سرد ​​القصص… كيف يمكن المقارنة بين فيلم “المرأة في النافذة” الذي يستخدم السخرية بشكل مثير  و مسرحية “Cyrano” الأكثر جدية و ارتقاء؟

ما يشغلني، في المقام الأول، هو سرد القصص عن البشر وكيف نتواصل – أو بالأحرى، كيف نفشل في التواصل فى كثير من الأحيان. هذا هو الخط الرئيسي الذي يحكمني في أعمالي. لكنني أيضاً مهتم بصناعة الأفلام، وتطوير هذه الصناعة، والتجديد في الشكل نفسه الذي يتضمن المعالجة. كنت أرغب في إشراك الجمهور في ذلك، أعني مشاركة أخيلتهم. على الرغم من أنني أحب الواقعية وخاصة الواقعيين الجدد الإيطاليين، إلا أنني أتساءل أحيانًا أننا نملأ الشاشة بالكثير من الواقعية لدرجة تجعل الجمهور يمر بتجربة سلبية للغاية. أحاول جعل الجمهور ينغمس في تجربة تشاركية أكثر نشاطًا وحيوية مع الأفلام التي أصنعها عبر شحذ خيالهم وتحريك مشاعرهم. هذا هو الهدف، على الرغم من أن كل شيء أصبح يبدو متوقعاً وقابلاً للتحقق في هذه الأيام.. لم يعد الخيال مساحتنا الخصبة كما السابق. 

هذا منطقي، ولكن بالنظر إلى ميلك نحو المسرح، تتجاهل العديد من التعديلات السينمائية للإنتاج المسرحي فرضية إشراك الجمهور كـ “عنصر أساسي” في العمل.. كيف ترى ذلك؟

أحاول دائمًا وضع الجمهور في اعتباري أثناء صنع أى فيلم. نحن منخرطون في مبدأ مسرحي رائع، وهو ما يُعرَف بمفهوم اللاعتناق. عن نفسي أهتم  بالتشكيك في طبيعة تلك العلاقة. لكن ليس دائماً يكون هذا صحيحاَ ! لكى أكون صادقًا معك، أشعر دوماً  كأنني في رحلة نظرية، وأنني سأعود إلى المنزل لشيء ربما يكون أقل نظرية وأكثر عاطفية. جزء من ذلك يتمثل في رغبتي في صناعة فيلم يخلو من السخرية، لأن السخرية والمفارقة تستخدمان، في كثير من الأحيان، كوسيلة للحماية وتغطية الأحداث. أردت أن أتخلى عن هذه الحماية، ليصبح الجمهور قادرًا على التعامل المباشر مع جوهر القصة، باستخدام تخيلاتهم وعواطفهم، أو على الأقل كنت أتمنى ذلك. كم هو مخيف، [ضاحكاً] لكنني أتمنى بالفعل أن يخوض الجمهور هذه التجربة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رابط الموضوع :

https://www.rogerebert.com/interviews/a-song-was-only-a-breath-away-joe-wright-on-cyrano?fbclid=IwAR0IGFSUt4z3AruNmRfcpUDrDy8i11dvdAly0RjywyFEpGfjFmNsJ4ys19c

سينما وأفلام

عن الكاتب

إسحاق فيلدبيرج