سماء المقبالي
النمل أو الذرة مثلما نسميها في عمان، تقول أمي بأنها ستنخر البنيان. صدقًا، لأننا لم نصدق بأننا كسبنا قضية المنزل وأعادت وزارة التنمية بناءه، والآن علينا أن نكسب قضيتنا بقضائنا على مستعمرات النمل القاطبة في شقوق جدران منزلنا. كل يوم نستيقظ ونجدهن قد حفرن واستخرجن تربةً من الجدار على هيئة تلال رملية صغيرة تتناسب مع أحجامهن.
في الآونة الأخيرة، أشعر بأن النمل يتحكم فينا. كلما أنهينا تناول طبقٍ ما، لا يمكننا أن نجلس لدقائق محاولين استعادة توازننا بعد الأكل، لا، علينا على الفور أن نأخذ صحوننا للمطبخ وإلا فإن النمل سيقيم مأدبة. وعندما نعود بعد تبضعنا من السوق نسرع في إدخال أكياس الفاكهة والخضار قبل أن تبدأ حفلة ضيافتهن. ومؤخرًا، لا يمكننا استخدام فوط التنشيف في دورة المياه دون نفضها وإلا فإنها ستكتشف متسللةً الفوط مناطقنا الخاصة، حيث وصلت حدًا من التطرف بأنها ترغمنا على رش مقعد المرحاض بالماء وتنشيفه فلا يمكننا قضاء حاجتنا بسرعة فور دخولنا كما كنا نفعل، ولا تتيح لنا رفاهية أن نسقط أجسادنا المتعبة على الفراش دون نفضه وإلا فستنهش جلودنا بقرصاتها الصغيرة كما فعلت بجدتي المشلولة التي ما إن قلبناها للجانب الآخر من الفراش، وجدنا جلدها يتساقط والنمل قد غزاها. ولأقوم بمعالجة النص أدبيًا، هرعت لمحرك البحث باحثةً عن رواية أو كتاب شيقٍ يتحدث عن عالم النمل لأربطه به، وبالفعل وجدت سلسة روائية ممتعة من أدب الخيال الفلسفي المكونة من ثلاثة أجزاء لبرنار فيربير، قمت بتحميل الجزء الأول منها “النمل”، المكونة من ٤٣٤ صفحة، ولكني لم أستطع قراءتها لأني بت أعاني من رهاب الكتب الكبيرة حيث تعيشني في قلق دائم إلى أن أنهيها؛ فقرأت بضعة صفحات ولم أستطع أن أدفع نفسي لقراءة المزيد بالرغم من استمتاعي بها، وطمأنت نفسي بادعائي بأن الوقت لم يحن لقراءتها.
اليوم عندما كنت أحدق في مكتبتي، وإذا بعيني تسقط على كتاب محمد عفيفي “ترانيم في ظل تمارا”، وبمحض صدفةٍ غير مخططٍ لها وجدت فصلًا يتحدث فيه عن النمل. يقول عن النمل: “طبعًا دست عليه أكثر من مرة دون أن أنتبه، طابور النمل الشغال طول الوقت عند سلم الشرفة، وكان انتباهي على إحساس بالفركشة العامة تحت قدمي، فأنظر لأرى عشرات من النمل تهرول هنا وهناك في حال من الفوضى الطارئة، غير النمل الذي يتلوى على الأرض وقد تحطم تحت ثقل قدمي الغليظة، لكن الطابور في عمومه يظل سائرًا كأن شيئًا لم يكن، يمر النمل الملتوي فلا ينظر إليه أصلًا، أو ينظر إليه ولا يراه، أو يراه فلا يبدي أي نوع من الاكتراث بالأمر. فالمسألة عنده حادثة يومية لا طلعت ولا نزلت، وواحدة من المخاطر المألوفة في مهنة النمل.” حيث سابقًا كانت تمنعنا جدتي من ضرب النمل أو أي محاولة للقضاء عليهن، وإنما كانت تضع حبيبات السكر هنا، وهناك غذاءً لهم، كانت وكأنها أمٌ لذاك النمل تمامًا توبخني أشد التوبيخ، وتقول لي بأن الله لن يرحمني إن لم أرحم هذه الكائنات الصغيرة التي تجلب البركة والرزق في المنزل. أما الآن، بعد موت جدتي أصبحت أمي تستبيح قتل النمل، وأتساءل تساؤلًا مشابهًا له حين قال: “هل هي لا تكترث بما ينتظرها يوم القيامة من عذاب أليم، أم تراها تعرف -دون أن تقول لي- أن قتل النمل بالجملة حلال في حين أن قتله بالقطاعي هو وحده الحرام، أم أن المسألة أخطر من ذلك، وأن الله جل جلاله يكيل للناس بكيلين، يبيح للأمهات الكبيرات القويات من الجرائم ما يحرمه على أطفالهن الصغار الغلابة المستضعفين؟”، وغيرها من الأسئلة التي باتت تجول في بالي فيما يخص وجود النمل في بيتنا.
حد إني شرعت في البحث عنها، وعما إذا كان لوجودها دلالة وعلاقة بالرزق، فوجدت ذلك محض هراء، ووجدت آخرين يعتقدون عكس ما تظنه جدتي، بأنهم مصدرٌ للشر، والسحر. أعتقد بأننا نحب أن نوهم أنفسنا بالطريقة هذه، فقط لنرمي أعباء تحليل مجريات الواقع التي حلت علينا، ولا أكثر. أجدنا نحن البشر بارعون جدًا في خلق أساطير وخرافات ومقولات نتداولها كحقيقة تامة، حتى وإن كنا في دواخلنا متشككين حيالها، وأظن بأننا سنظل كذلك ما دمنا نرغب بأن تكون للأشياء والكائنات حولنا سلطة على عقولنا مثل قصص الجن والعفاريت التي ابتدعها أناس غير معروفين وما زلنا نتناقلها في المدارس، وبالأخص مدارس الحلقة الثانية، ونصدقها ببراءة طفولتنا، لكي نكبر وننقسم لشقان، شق يسخر من كل القصص، وشق آخر يكمل مسيرة نقلها بجدية تامة. إلا إنني لا أستطيع أن أنكر بأني مغرمة بهذا الإيمان، والأوهام، والخيال الذي نملكه بحق.
أعود للنمل مرةً أخرى لأنهي السرد، وأفكر في استراتيجياتهم للعيش، ومجابهة واقع العيش الصعب مع البشر، ومن منا الدخيل على الآخر، وبالطبع نعلم بأننا نحن البشر دخلاء، ولكننا ندعي عكس ذلك بطبيعة الحال، ونعيد التساؤل ذاته بين الحين والآخر. أجدني مذهولة أمام العزم والإصرار الذي يملكه النمل، تدهس مجموعة، وتأتي أخرى لتكمل المسير، وأكثر المشاهد إثارةً بالنسبة إلي، هو عندما أرى نملة واحدة تعبر بجانب طابور نمل طويل، كما لو أنها تهمس لكل جندي من الفوج عن تغير في خطة السطو أو التسلل، أو قرب خطرٍ ما، وتمشي بصمت، داخلةً الطابور معهم، ولكن العفيفي يبهرني برقة خياله، قائلًا عن هذا المشهد: ” في الطريق تتقابل النملتان فتتبادلان ما يشبه القبلة الخاطفة ثم تواصلان مشوارهما الأبدي في الصمت.”
شيءٌ أخير، إن كنتم تبحثون عن شخصٍ يتحدث عن العالم حوله، بكل ما يحمله العالم من تفاصيل آسرة، كضوء الشمس المتسلل من الشجر، ورائحة الياسمين النفاثة، ووجوه الشخوص كقصة ترويهم، والحيوانات التي لا تكمل الحديقة دون وجودهم، كالكلاب، والقطط والضفادع، والحشرات، والعصافير، والشجر ككتل خضراء، التي لا يمكننا أن نتغنى بالحديقة دون رؤية غصونها وهي تتدلى كالحلي، وأوراقها التي تشيخ قائمةً على أغصانها وجذوعها التي تبوح لنا بعمرها؛ فإنه العفيفي، الذي يتماهى شخصه، فيصبح كنافذةٍ أو لوحة متحركة سحرية بأسلوب شاعري، وفلسفي. إنه كتابٌ مناسب لنزهة عذبة في الحديقة ما حتمًا. قراءة ممتعة يا رفاق مقدمًا. تمت.