خلافاً لبعض المصادر وتأكيداً لبعضها الآخر، فإن نشوء(حركة إخوان الصفاء وخلان الوفاء الفلسفية) قد تم في النصف الثاني من المئة الثانية للهجرة، أو بشيء من التقريب في مستهل هذا النصف، حيث كانت البصرة قد شهدت الإشراقة الأولى من رسائلهم، ثم تطورت واستمرت جماعة ومذهباً وفلسفة وتأثيراً في الفكر الاسلامي والعالمي، وما تزال رسائلها الاثنتان والخمسون مرجعاً فكرياً ثرّاً للعلوم العقلية والفلسفية والنفسية وقد اشتمل مذهبهم على شتى العلوم العقلية والسياسية. ومنها (فن الغناء والموسيقى) وتعتبر رسائلهم مجموعة آراء ومبدعات، متأثرة بالحضارات الإنسانية الأخرى، ومؤثرة، من خلال تقديم أفكارهم وآرائهم إلى الانسان بطريقة جدلية ـ منطقية فأيقظوا كل فكرة لحقيقة العلوم الكونية والإنسانية وبخاصة الإسلامية واليونانية…(1)
. تأثير الغناء والموسيقى في النفوس.
يرى إخوان الصفاء أن كل صناعة تعمل باليدين، ماعدا الصناعة الموسيقية، فإن الهيولي(2) الموضوعة فيها، كلها جواهر روحانية، وبذلك تغدو الموسيقى عندهم نفحات روحية، أي أنها توقظ الروح قبل كل شيء، وتسمو بالإنسان في مراقي الإحساس الروحي، لأن ألحان الموسيقى أصوات ونغمات، لها في النفوس تأثيرات كصناعات الصناع في الهيوليات الموضوعة في صناعتهم،، والموسيقى بهذا التأثير، توجه النفوس نحو الأعمال المختلفة، الشاقة والسهلة، السليمة والحربية، الرفيعة والوضعية، ويأتون بأمثلة شعرية موزونة مغناة كقول القائل( الشاعر قريظ بن أنيف):
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبان
كذلك يوردون قصصاً واقعية، على صعيد الأفراد والقبائل استطاعت الموسيقى أن تعمق الأحقاد بين هؤلاء، أو تطفئ شرها. ومن ذلك: ما يُحكى أن جماعة كانت، من أهل هذه الصناعة مجتمعة في دعوة رجل رئيس كبير، فراتب مراتبهم في مجلسه، بحسب حذقهم في صناعتهم، إذ دخل عليهم إنسان رث الحال، عليه ثياب رثّة، فرفعه صاحب المجلس عليهم كلهم، وتبين إنكار ذلك في وجوههم فأراد أن يبين فضله، ويسكن عنهم غضبهم، أن يسمعهم شيئاً من صناعته، فأخرج الرجل خشبات كانت معه فركبها، ومدَّ عليها أوتاره وحركها تحريكاً فأضحك كل من كان في المجلس من المتعة والفرح والسرور الذي حلّ داخل نفوسهم، ثم قلّبها وحركها تحريكاً آخر أبكاهم كلهم من رقة النغمة وحزن القلوب، ثم قلبها وحركها تحريكاً نومهم كلهم، وقام وخرج فلم يعرف له خبر(3). ولا ينسى أخوان الصفاء أن يربطوا الموسيقى بالعبادة خاصة في مقامات التصوف ورحلات المتصوفين النفسية والروحية، فانتشرت الموسيقى في كل مكان ولدى كل صنف من الناس، وفي كل المناسبات وطلباً لكل غرض أو متعة روحية ونفسية، ومنها مزامير داوود النبي عليه السلام وتجويد القرآن الكريم.. وغير ذلك.
. الحكماء الرواد الأوائل للموسيقى:
يرى أخوان الصفاء أن الحكماء هم مخترعو فن الموسيقى إبداعاً، لأسباب يأتي في طليعتها التقرب من الله تعالى في حالات الكرب والمصائب، فاخترعوا لحناً سموه” المحزن” ـ(4) ـ طلباً للتأثير والرحمة وتخفيف الآلام ثم استخرجوا لوناً آخر من الغناء واللحن سموه” المشجع” استخدموه في المعارك والحماسة… وهكذا أوجدوا لكل غاية أو موقف أو مناسبة لحناً ينسجم معه,، ويعمق أثره وقد عمموا أثر الغناء حتى على الحيوانات ( كالجداء) لقوافل الإبل تخفيفاً لحملها، وتنظيماً لها، فتستلذها الحيوانات التي لها حاسة السمع، وبعدئذ يعرفّون الموسيقى وفروعها تعريفاً علمياً قائماً على الحس والتجربة والذائقة الجمالية، وكلها مرتبطة ببعضها ارتباطاً:
آ ـ الموسيقى هي الغناء.
ب ـ والموسيقار هو المغني.
ج ـ والموسيقات هو آلة الغناء.
د ـ والغناء هو ألحان مؤلفة.
هـ ـ واللحن هو نغمات متواترة.
و ـ والنغمات هي أصوات متزنة.
ز ـ والصوت هو قرع يحدث في الهواء من تصادم الأجسام بعضها ببعض.(5)
فالغناء عندهم، إذاً، أصول وقواعد، ترتكز على علل متحدة مرتبطة ببعضها ارتباطاً سببياً، وكل منها يؤدي إلى غيره أو إلى ما بعده.
. كيف يتم إدراك القوة السامعة للأصوات:
يرى أخوان الصفاء أن للأصوات نوعين: حيوانية وغير حيوانية، فغير الحيوانية بدورها نوعان: طبيعية وآلية كصوت الحجر والحديد.. وسائر الأجسام التي لا روح فيها أو الآلية كصوت الطبل والبوق.. والحيوانية نوعان: منطقية وغير منطقية(6)، فغير المنطقية هي أصوات سائر الحيوانات غير الناطقة والمنطقية أصوات الناس، وهي نوعان أيضاً، دالة وغير دالة، فغير الدالة كالضحك والبكاء والصياح وكل صوت لا هجاء له(7) والدالة فهي الكلام والأقاويل، ويرى أخوان الصفاء أن الهواء بتعرجاته وحركاته علة أساسية في تموجات الحركة الصوتية فلكل صوت: نغمة وصفية، وهيئة روحانية، وأن الهواء من شرف جوهره ولطافة عنصره يحمل كل صوت بهيئاته ويحفظها لئلا يختلط بعضها ببعض.. هكذا إلى أن يبلغها إلى أقصى مدى غاياتها عند القوة السامعة، لتؤديها إلى القوة التخيلية التي مسكنها مقدمة الدماغ، فالهواء إذا هو العلة الأولى والأساسية في نقل الأصوات إلى الدماغ، وبه تدرك القوة السامعة الأصوات وتميز بين أنواعها وحركاتها وهيئاتها(8)… ويعمقون علة تصادم الأشياء بعضها ببعض، فيبنون أحكامهم على قاعدة علمية وتعليل منطقي، فيرون أن علة عظم الصوت إنما هي بحسب عظم الأجسام المصوتة وشدة صدمها وكثرة تموج الهواء في الجهات عنها، وهذا الاستنتاج العلمي يقرّه علم الفيزياء الحديث كما تقره الرياضيات الحديثة في السرعة والتسارع، فإخوان الصفاء أدركوا هذه الحقيقة منذ قرون طويلة، ولم تكن أحكامهم تجريدية، وإنما بنوها على التجربة والملاحظة، ومن الحياة استقوا حججهم وبراهينهم, مثلاً فصوت الرعد أعظم الأصوات و أقواها، ثم يعللون، وهناك أصوات الرياح فأصوات المياه.. وكلها ذات صلة سببية بالهواء، وبعد هذه التعليلات لنشوء الأصوات وانواعها ودرجاتها يصلون إلى الآلات الموسيقية، وهي الهدف والغاية من البحث والرسالة. يرجع أخوان الصفاء إلى تقسيماتهم السابقة لنوع الحركة والصوت والنغم، فيقولون: ان الحركة هي النقلة من مكان إلى مكان في زمان ثان، وضدها السكون ، وهو الوقوف في المكان الأول في الزمان الثاني.
وللحركة نوعان: سريعة وبطيئة، والحركة السريعة هي التي يقطع المتحرك بها مسافة بعيدة في زمان قصير، أما البطيئة هي التي يقطع المتحرك بها مسافة أقل منها في ذلك الزمان بعينه. كما يوازنون بين الحركتين فيرون أنهما لا تعدان اثنتين إلا أن يكون بينهما زمان وسكون, والسكون هو وقوف المتحرك في مكانه الأول زماناً ما.
إن هذا التقسيم لحركة الموسيقى من خلال الأنغام والآراء، يعتبر نهجاً فنياً وعلمياً سليماً، سبق أخوان الصفاء غيرهم، في تعريفه وتوزيعه على ما نسميه السلالم الموسيقية، ولعل براعتهم الدقيقة ناتجة عن المعاينة والممارسة المباشرة للموسيقى كما نوهنا في هذا البحث.
غير أن أخوان الصفاء يقفون عند الأصوات، باعتبارها أنغاماً وألحاناً معاً، وقفات متأنية، يشرحون بها أصولها وكيفيتها، وأنماط توزيعها، فيرون أن الأصوات تنقسم من جهة الكيفية ثمانية أنواع، كل نوعين منها متقابلان ومن جنس المضاف، أي ما يسند إلى اللحن، وهذه الأنواع هي: العظيم، الصغير، السريع، البطيء، الحاد، الغليظ، الجهير، الخفيف(9) وهذه الأنواع لا تنفصل أثناء الغناء، عن بعضها بعضاً، لأن الألحان وإن تنوعت وتوزعت في عملية الأداء، متصلة، متواصلة، مثلاً: العظيم والصغير من الأصوات فبإضافة بعضها إلى بعض كأصوات الطبول، والسريع والبطيء تتخللها أزمان سكون قصيرة ما بين نقراتها، ومثالها أصوات كوذينات ـ مطارق ـ الحدادين والقصارين… هكذا كل نوعين مختلفين شدة وقوة، أو سكوناً وارتخاء، لهما مثالهما، وهما متلازمان على هذا التباين في النقرة واللحن شدة وارتفاعاً.
ويبحثون عن امتزاج الأصوات وتنافرها، فيدركون بحسِّهم الحاد الفروق الصوتية والغنائية بين الأمم، ثم يرسخون التقسيمات السالفة ويسهبون في تبسيطها وتوضيحها وتوزيعها عبر أصول وشروط:
الغناء مركب من الألحان.
واللحن مركب من النغمات.
والنغمات مركبة من النقرات والإيقاعات(10)
وهذه الأنغام ترتبط نغماً في أوزان الشعر، فالشعر منه ما يغنى وإذا فلابد أن يشمل فن الغناء فن الشعر المغنى أو القابل للتلحين فأصل هذه التقسيمات عندهم: حركة وسكون، كما أن الأشعار مركبة من المصاريع، والمصاريع مركبة من المفاعيل، والمفاعيل مركبة من الأسباب والأوتاد، والفواصل، وأصلها كلها ـ كالغناء والموسيقى ـ حروف متحركات وسواكن ولكن: ما قوانين الغناء والألحان عندهم، بعد هذه الموازنات؟.. إنها ثلاثة أصول أو قوانين:
السبب: وهو نقرة متحركة يتلوها سكون مثل، تن، تن.
الوتد: نقرتان متحركتان يتلوهما سكون مثل: تنن، تنن…
الفاصلة: وهي نقرات متحركة يتلوها سكون مثل: تننن.(11)
هذه المصطلحات الفنية ـ الوضعية، من أسس علم الغناء وأهل هذه الصناعة ـ كما يسمونها ـ متفقون على هذه الأصول وأصالتها عند العرب منذ القديم، وهم بذلك:
مكتشفون
مطورون
شارحون
مقُعدون
ويوضحون هذه المراحل الثلاث أو الألحان الثلاثة فيقولون:” فالثلاثية ـ مثلاً ـ عشرة تركيبات: نقرة ونقرتان وثلاث نقرات، ونقرتان ونقرة وثلاث نقرات، ونقرة وثلاث نقرات ونقرتان، وثلاث نقرات ونقرة ونقرتان… وهكذا..” (12) فهذا التوزيع غاية في الدقة وصفاء الإيقاع وتنوعه، يبدأ نقرة ثم يتموج ويتطور فيغدو نقرتين فثلاثاً، ثم يرجع فيبدأ بزمن وحركتين معاُ ثم يتراخى إلى الزمن الأول والسكتة الأولى، ثم يتصاعد إلى ثلاث حركات وخلال ذلك تمتزج وسائل الغناء وتتصل, لحناً وإيقاعاً وغناء، في سلم موسيقي صاف، وتولد تجربة التلقي عبر ذائقة متفردة إلى ثلاثة:
البصر
السمع
الذوق الجمالي
وإذا كانت هذه الحواس الثلاث متباينة عند الناس، فإن المتلقي يتباين أيضاً من حيث التلقي والتأثر والحكم والتجاوب الروحي والنفسي، فما من عجب أن تجعل الموسيقى والغناء أحدهم مفتوناً، مأخوذاً، مأسوراً وتمر بآخر فلا تثير فيه مشاعر التلقي والتأثر، على رغم الانسجام المباشر بين اللحن والحالة النفسية للتلقين.
ويرون من ثم، أن أزمان أو فترات الإيقاع أو اللحن ثماني ولا تتعداها وإذا تجاوزتها فالتجاوز ليس في الأصول وإنما في الفروع والتطوير وتعميق الصفاء الإيقاعي، وهي هكذا( أه أه أه ) فالألف علامة الساكن والهاء علامة المتحرك.(13).
ثم يبحثون في كيفية صناعة الآلات الموسيقية وإصلاحها، حيث يؤكدون أن الحكماء قد صنعوا آلات وأدوات كثيرة لنغمات الموسيقى وألحان الغناء مقننة الأشكال، كثيرة الأنواع مثل الطبول والدفوف والنايات، والصنوج والمزامير والسرنايات والصفارات والسلبات والشواشل والعيدان والطنابر والجنل والرباب والمعازف والأرغن والأرمونيقي وما شاكلها من الآلات والأدوات المصوتة. ولكن أتم آلة استخرجها الحكماء ـ كما يقولون ـ وأحسن ما صنعوها الآلة المسماة بالعود.(14)
وينتهي بحث أخوان الصفاء في الموسيقى في بيان تكون تأثيرا الأنغام فيظهرون بأن تأثيرات نغمات الموسيقار في نفوس المستمعين مختلفة الأنواع، ولذة النفوس منها وسرورها متفننة متباينة، كل ذلك بحسب مراتبها في المعارف وبحسب معشوقاتها المألوفة من المحاسن.(15).
انتهى
. المراجع والهوامش:
1ـ كتاب رسائل اخوان الصفاء ج1(منشورات دار صادر بيروت ) .. وكذلك الرسالة الجامعة ص15 (تحقيق الدكتور مصطفى غالب) ـ منشورات دار الأندلس بيروت 1984والصحائف الأخرى.. و كتاب “في رحاب اخوان الصفاء ” للدكتور مصطفى غالب ـ منشورات دار حمد بيروت 1969.
2ـ الهيولي: المادة الأساس التي منها تستمد الأشياء.
3ـ اخوان الصفاء, ج1ص185.
4ـ المصدر نفسه ص 187
5ـ المصدر نفسه ص188
6ـ من النطق واللفظ.
7ـ لا حروف واضحة له من حروف الألف باء.
8ـ ص190/ ج1اخوان الصفاء.
9ـ ج1/ ص193
10ـ ج1/ 193ـ 196
11ـ العقد الفريد.
12ـ 1/ 198
13ـ 1/ 202
14ـ 1/ 203
15ـ 1/ 240