بين روحانيتين

كتب بواسطة أحمد عمر زعبار

أحمد عمر زعبار

شاعر وإعلامي تونسي مقيم في لندن

واحدة من أكثر الجمل تردادا على ألسنة “الإسلامويين” وفي كتاباتهم أن العالم يحتاج إلى روحانية  الإسلام وتعاليمه لإنقاذ البشرية من الدمار الذي تسير فيه وإليه بقيادة الحضارة المادية الغربية، ويرى عامة “الإسلامويين” أنه لا مفرّ من العودة إلى الإسلام واعتماد روحانيته إذا أرادت البشرية إنقاذ نفسها ويردد شباب وشيب ما يُسمى ب “الصحوة الإسلامية” هذه المقولة كمُسلّمة لا تحتاج إلى نقاش وهي لديهم من البديهيات “والبديهي واضح بذاته ولا يحتاج إلى برهان أو دليل” وما دام الأمر كذلك فلا داعي للتفكير في مدى صحته أو مناقشته أو حتى طرح السؤال حوله, وكفى الله المؤمنين شر الفكر وعناء التفكير.

لن أناقش في هذه العجالة قضايا من نوع  ماذا يمكن أن يقدّم أو لا يقدّم الإسلام وماذا يمكن أن تقدّم حضارتنا أو لا تقدم للبشرية التي تقتحمنا مدنيتها، سأتحدث من منطلق شخصي وعن تجربة ذاتية  وباختصار عن ادعاء المسلمين أن مجتمعاتنا أكثر  روحانية من مجتمعات الغرب.  

أعيش في بريطانيا (لندن) منذ ثلاثين سنة.. دخلت معابد اليهود والمسيحيين والبوذيين والوثنيين والروحانيين والزرادشتيين والغنوصيين والمتصوفة وغيرهم وحاورتهم من منطلق أني مسلم وأن ديني هو الحق وأنهم على ضلالة وليس لهم من منقذ إلا الإسلام، حاورتهم من موقع ومنطلق أني صاحب الحق ومالك الحقيقة وأن لا حقيقة إلا ما أعتقد وأن كل ما خالف معتقداتي هو الخطأ لأن الحقيقة واحدة لا تتجزأ ولا تقبل الاختلاف. ثم ومع مرور الزمن وتراكم التجارب حاورتهم من منطلق إنساني بحت، من منطلق أنني إنسان يسعى لتوسيع آفاق معرفته وفهم أشمل للحياة وفهم أعمق للإنسان الذي هو بالنسبة لي أحد تعابير الحياة وواحد من تمظهراتها المتعددة واللانهائية، ناقشتهم وتحدثت معهم ودخلت معابدهم بغرض التشبع أكثر بمعاني الاختلاف وإدراك معنى الآخر بهدف قبوله دون مقدمات سلبية عنه, شاركت بعضهم بعض نشاطاتهم الدينية بغاية عيش ومعايشة التجربة ..  تحاورت كذلك مع ملحدين ولادينيين ومع أناس عاديين وعايشت حياة الناس وعشت بينهم, جاهدت كي أتخلص من نظرتي للآخر كآخر وكعدو أو كمنافس لي على امتلاك الحقيقة، جاهدت أن أشعر بالآخر وأن أنظر إليه بحيادية وبدون عاطفة أو أحكام مسبقة سواء كانت أحكاما عقائدية أو مجتمعية مستمدة من ثقافة أن الآخر هو الجحيم(سارتر) أو أن الآخر هو عدو الله فهو بالتالي عدو الحياة وعدوي.

ما اتضح لي مع الوقت واكتشفته على امتداد سنوات التجربة أن الغرب لا يعيش أزمة روحية كما تدعي كل الأدبيات الإسلامية .. مقولة “الغرب مادي والشرق روحاني”, هي أسخف كذبة صدقناها, هي كذبة الغرض الأساسي منها تدفئة نفوس المسلمين لبث الراحة فيها وتأكيد قناعتهم بأنهم على حق والآخرون على باطل وإقناعهم أن الله سيعوضهم عن فقرهم المادي في الآخرة بما لا عين رأت ولا أُذن سمعت لأنهم شعبه المختار وخير أمة, العملية كلها ماكينة تعويض نفسي, أكاد أجزم من خلال تجربتي الممتدة على مسافة ثلاثين سنة في العيش في الغرب وفي أكثر من مدينة آخرها لندن أن الغرب (بريطانيا حيث أعيش وحيث عشت التجربة) أكثر روحانية وأصدق روحانية من مجتمعاتنا، في الغرب روحانية تتسع وتتجدد وتواكب الحياة لأنها مستمدة منها. روحانية تواكب منهج الحياة ولا تتناقض معه، روحانية تنطلق من عناق الإنسان للحياة وعناقه لذاته و تُوحد بين حب الحياة وحب الذات، روحانية مستمدة من الحياة وليس من الموت أو الخوف من الموت، روحانية الانفتاح على الوجود وقبول كل الموجودات كشريك وجودي أساسي  وليس كعدو، وحتى المختلف أو النقيض هو ضروري لنا..,وطبعا هناك من يعيش هذه الروحانية بوعي وإدراك وهناك (وهم الأغلبية) من يعيشها كثقافة وسلوك بدرجات مختلفة طبعا.

روحانية بلا ادعاء على عكس ما هو موجود في مجتمعات كمجتمعاتنا التي تدعي التفوق الروحاني.

 روحانيتنا شكلية لا تصل أعماقنا ولا تؤثر في سلوكنا, وواقعنا أصدق شاهد على ذلك, إيماننا خطابي وظاهري, إيماننا عادة وتقليد لا روح فيه …. فيه صراخ وتهديد وتخويف وهذه ليست لغة الروح هذه لغة الرغبة في السيطرة ولغة العقد النفسية والأمراض النفسانية…فالروحانية لا يمكن أن تنتج مجتمعا يُدّر ذاته بالاقتتال الداخلي بين مكوناته لمدة ١٤٠٠ سنة .. ماهي علاقة التهديد بالقتل والذبح بالروحانيات؟ وماهي علاقة الخوف من العقاب بالروحانيات؟ وهل الاعتقاد بالقضاء والقدر من الروحانيات؟ أم أنه مناقض لمعنى وجودك كإنسان حر يتطور نموه الروحي من خلال اختياراته وممارساته كإنسان.

“إن أحدكم ليُجمع خلْقه في بطن أمه أربعين يوماً ، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الله إليه الملَك فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات : يكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أو سعيد ، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخله” (الحديث) هل هذه روحانية أم جبر؟ وكيف يمكن للروح أن تنمو وتشع وتشرق وهي سجينة قرار إلهي سابق وسجينة قرار مسبق بالشقاء. أين الروحانية في روح معتقلة مكبلة وفي إنسان لا إرادة له؟

هل حديث النعجة التي سجدت للرسول وهو طفل والضب الذي شهد أن محمدا رسول الله ليثبت للأعرابي صحة النبوة وصدق الرسول يدخل في إطار الخرافة أم في إطار الروحانيات وتنقية الروح لتسمو في تناسق مع الحياة وتشعر بصفائها وتضيف إلى جمالها.

وبقطع النظر عن صحة هذه الأحاديث أو ضعفها باعتبار أنها موضوعة رغم أن الكثير منها موجود في ما يسمى بالصحاح فإن الاعتقاد في صحتها والعمل بها وتأثيرها على الوعيين الفردي والجمعي في العالمين العربي والإسلامي لا يمكن إنكاره أو تجاهله, خصوصا أنها بالمئات وربما بالآلاف.

شخصيا تعلمت مع الزمن وربما نتيجة تواجدي خارج إطار المجتمع العربي وتقاليده الثقافية والدينية أن الروحانيات ليست إيمانا مسبقا واعتقادا أعمى بقوانين من نوع قطع اليد والرجم العلني والإعدام بالسيف والتشهير بالعقاب في الساحات العامة, تعلمت أن الروحانيات هي تصفية الروح وتنقيتها بالمجاهدة وبالسلوك الإنساني والحضاري الراقي واحترام أرواح جميع المخلوقات بمن فيهم الإنسان .. احترام البشر والإحساس بهم جزءا من وجودي فما أنا إلا جزء من كلٍّ هو البشرية التي هي جزء من كل هو هذا الكون.

أكرر أخيرا أن هذه الملاحظات العاجلة هي رأي خاص ونتيجة تجربة شخصية وليست مقالا علميا

وما قد يبدو فيها من تعميم هو لتقديم صورة عامة بقدر ما يمكن من الموضوعية وأتمنى أن يدرك القارئ أنه لا يمكن إبداء رأي في قضية تهم سلوكيات مجتمع بأكمله دون تقديم رؤية عامة وليس رؤية خاصة بكل فرد فذلك هو المستحيل بعينه.

قبل الختام للأسف لم يدرك المسلمون  (شيوخهم وفقهاؤهم) بعد أن الهروب إلى القرن السادس والتحصن به والتمترس خلف مقولاته وخرافاته لم يعد ممكنا فاختلاط الحضارات واقتحام بعضها لأخص خصوصياتنا عبر وسائط التواصل الاجتماعي المتوفرة للجميع من خلال جهاز هاتف يدوي يضع العالم بين يدي الفرد ويضعنا أما تحديات حتمية ومراجعات ضرورية.

أصبحت المعرفة متوفرة للأفراد دون جهد تقريبا وكثير منها يتحدى مسلماتنا ومعتقداتنا وأغلبها يناقضها وأصبح للعصر أسئلته التي تتحدانا, أسئلة يفرضها اشتباك الحضارات ببعضها وهي أسئلة لم تعد حكرا على المفكرين والفلاسفة و”الفقهاء والشيوخ” بل أصبحت مشرعة ومطروحة حتى على الأمي من خلال وسائط مثل اليوتيوب وغيره .   

 لم يعد الانعزال الحضاري ممكنا ولم يعد الزمن يقبل بالمسلمات العقائدية نظرا للتشابك الحضاري والتحديات التي يطرحها اقتحام الآخر لمجتمعاتنا ومعتقداتنا وأفكارنا عبر منتوجه الصناعي والفكري.

لم تعد مسلماتنا تقنع شبابنا الذي أصبح من المستحيل تحديد نوعية المعرفة التي تصله وتعرض عليه أو تحديد كمية المعلومات المتوفرة لديه ومن غير الممكن السيطرة على أفكاره أو ما يستوعبه من آراء. فهل تدرك مجتمعاتنا ذلك وتكف عن ترديد مقولات تكبل الروح والحياة ولا تحييهما فقط لأنها مقولات نطق بها أموات وصفوا بالحكمة.    

أخيرا وفي سياق غير بعيد أقول: لو وضعت بين خيارين لا ثالث لهما: أن أكون عدو الحياة أو أن أكون عدو الله .. حتما لن أعادي الحياة.. ربّما لأني إن عاديتها أكون قد عاديت الله.

ثقافة وفكر

عن الكاتب

أحمد عمر زعبار