وللموت أيضاً حضور آخر..

كتب بواسطة إكرام البدوي

إكرام البدوي

يبدو أن استيعاب ثقافة مغايرة قد يكون صعباً إلى حد كبير، لأنه سيتوجب على المرء أن يرى ملامح محيط آخر لا يعلم عنه شيئاً، وهذه الملامح قد تصنع فرقاً إلى حد ما في رؤيته. فالمهر كلمة غامضة، ليس لها تعريف موحد، وتحمل معاني مختلفة في مختلف السياقات الاجتماعية والثقافية. ونقلاً عن (ماري كاتزنشتاين) يتساءل عالم الاقتصاد أمارتيا سين (*)(Amartya Sen) قائلاً: (ألا يمكن أن تعوض التغذية والملبس والصحة بشكل أفضل للسكان الهنود عن فقدان الحرية السياسية؟(1).

 بينما تجادل فيرجينيا هيلد (*)(Virginia Held) أنه وعلى الرغم من أن العدالة قيمة أخلاقية مهمة، إلا أن الكثير من الحياة الجيدة بشكل معتدل استمرت بدونه، على سبيل المثال، “يمكن أن نحظى بالرعاية بدون عدالة، ولكن بدون رعاية، لن يكون هناك أشخاص يحترمهم. إن ما يحدث في بعض العائلات يكشف عن حالات قد لا يتم فيها توفير الرعاية نتيجة للاعدالة. فمثلاً، إن الفتيات الهنديات على ما يبدو أقل من الناحية التغذية والطبية وما إلى ذلك، مقارنة بالأولاد.”(2) أنه وقد يوفر تحسين وأبعاد العدالة والحقوق، أبعاد الرعاية. فمثلاً، قد يؤدي الاهتمام باحتياجات ومعاناة الفقراء في المجتمعات الغربية الغنية إلى سياسات اجتماعية تضفي الطابع المؤسسي على حقوق الرعاية الطبية مثلاً، وما إلى ذلك. أقترح أن هذا هو أحد الأبعاد المحتملة للعلاقات بين اعتبارات الرعاية والعدالة، وليس حسابًا مؤلمًا لعلاقتهما.  

        بينما وفي سياقات معينة، إن النضال من أجل مزيد من العدالة قد يعزز أشكال الرعاية الأكثر ثراءً. ومن جانب آخر، إن تنمية منظور الرعاية في حالات أخرى قد تعزز أشكالًا من العدالة. فعلى الأقل، “قد يُنظر إلى منظورات العدالة والرعاية بشكل أقل؛ كمنافس للأولوية النظرية والملاءمة الأخلاقية والسياسية وأكثر؛ كمتعاونين وحلفاء في جهودنا العملية والسياسية لجعل عالمنا أكثر ملاءمة لازدهار الإنسان.”(3) وإن الاختلاف بينهما (الرعاية) و (العدالة) مرتبط بالطرق المختلفة التي ظهر خلالها قضايا العنف ضد المرأة وتتبعها حركة المساواة بين الجنسين في الهند والولايات المتحدة، “ففي مناطق كثيرة في الولايات المتحدة ظهرت الجهود النسوية ضد الشرطة بسبب تجاهلها مشاكل العنف الأسرى عمداً، حيث قاومت الحركات النسوية القوانين التي هَمّشت العنف الأسرى أو تصنيفها كشِجار خاص.”(4) كما جادل النسويون بشأن القواعد الثقافية، التي تنظم معاملات الزواج، فعلى الأغلب يتسامح النظام القضائي بشكل انتقائي مع العنف المنزلي والوفاة بسبب المهور. وفي الولايات المتحدة ترتكز رؤية النسويات على مجال أوسع من (العنف الأسري) إلى التعسف اللفظي، العاطفي والنفسي باعتباره مكوّن أساسي للعنف الأسرى، ولو أردنا فهم الاختلاف بين العنف الأسري في سياق الولايات المتحدة والهند، علينا أن نفهم أولاً؛ لماذا ركزت الحركة النسوية الغربية على العنف الأسري في الشكل المفرط لجريمة (المهر) ولم تركز على القضايا العامة للعنف الأسرى مثلما حدث في الولايات المتحدة؟

توصلت أوما ناريان (*)Uma Narayan إلى تقرير مبدئي، عن طريق FBI مكتب التحقيق الفيدرالي، حيث بلغ العدد الإجمالي لجرائم القتل المنزلي في الولايات المتحدة لعام 1994 حوالي 1400 امرأة ضحايا سنوياً، بينما تقريباً 5000 امرأة هندية سنوياً ضحايا جرائم المهر، فتبدو النتيجة متشابهة تقريباً، حيث إن تعداد سكان الهند تقريباً أربعة أضعاف تعداد الولايات المتحدة.(5) فغالبًا ما تؤدي معالجة قضية القتل بسبب المهور في الحوار إلى تعزيز التصورات السلبية عن اضطهاد نساء العالم الثالث، وكما تشير ناريان، أنه وعلى الجانب الأخر، يتم التكتم على قضايا العنف المنزلي في الولايات المتحدة، لأنهن يُنسبّن إلي الثقافة الغربية.

“إن وضع الساتي(Sati)(*) وهو التضحية بالأرامل على المحارق الجنائزية لأزواجهن في موضع بنائي كمكون محوري من مكونات (الثقافة الهندية) في العهد الاستعماري شاع وذاع في الخطاب السياسي للأصوليين للهندوس المعاصرين.”(6) “فقد كان التضحية بالأرملة رمزاً مقدساً فهذه المرأة اختارت التغلب على الموت بأن تصبح إلهة أو (ساتي-ماتا)، وعلى الصعيد الآخر، أدّان البريطانيون والفرنسيون السوتي (حرق الأرامل) بوصفه عمل غير إنساني. وأثارت روايات الرحاّلة انتباه أبناء جلدتهم في أوروبا إلى أهوال ذلك العمل.”(7) بينما زعم الهندوس المناصرون لمسألة حرق الأرامل أن من انتقدوا الحادث ليسوا سوى علمانيين تأثروا بالفكر الغربي. ويُرجع إحراق الجثة بعد الموت، إلى “أنّ ٨٤% من الهنود يدينون بالديانة الهندوسية التي تعتقد بأنّ حرق الجسد يتيح للروح الصعود إلى السماوات، في ذلك تحريرٌ للروح من عبوديتها للجسد الفاني، ومنها أيضًا إنّ مات الزوج فلا يجوز للزوجة أن ترتبط بغيره وتتعرض للإهانة والتهميش.”(8) فهناك صورة أيضاً مهمة جداً في الثقافة الهندية لممارسات العنف ضد المرأة. فقدمت ناريان ثلاثة تفسيرات رئيسية لمنظومة المهر التقليدية: أولاً، المهر كـ(هدية)، وهو يوفر الاحتياجات المادية للزواج. ثانيا، المهر كـ(تعويض)، يُدفع لأسرة العريس لتحمّل العبء الاقتصادي للزوجة. ثالثاً، المهر كـ (إرث قبل الموت) بمعنى حصول البنات على نصيبها من ثروة الأسرة. وأما في بداية القرن العشرين، لم يكنّ المهر عدواً بل كان حليفاً، على حد تعبير ناريان، يعمل كشبكة أمان اقتصادي في وضع حيث كانت البنت تتزوج غالباً خارج بلدّتها بالإضافة إلى، أن البنت لا ترث أرضاً عادةً.”(9) ولكن، كيف يكون أماناً اقتصادياً للبنت؟ وهو لا يكون ملكاً لها بل يكون ملكاً لعائلة الزوج.

ومع سوء الأحول الاقتصادية، تغير المهر بعض الشيء وأصبح يدفع على عدة أقساط، وعندما لا يستطيع والد الزوجة دفع باقي أقساط المهر فإن فائدة المرأة تقل مما يُعجّل بقتالها، من أجل مكسب مادي صريح، حيث إنه مستحق بعد وفاة الزوجة أيضاً وبذلك المهر أصبح تجارياً.(10) وعلى الرغم من الحداثة ودور المرأة المتزايد في اقتصاد السوق، فإن ممارسة المهر في الهند أصبحت أكثر انتشارًا، وقيمة المهر آخذة في الازدياد. فهناك العديد من النتائج السلبية الموثقة جيدًا لنظام المهر(11) يبدو أن بعض أبعاد الحداثة تؤدي إلى تراجع الدعم لنظام المهر. ومن المرجح أن يصبح كل منها أكثر شيوعًا في المستقبل. لذا فإن المرأة التي تساهم بعملها في الأمن الاقتصادي لأسرتها قد تقدر الموارد التي تجلبها المهور. وبقدر ما تنتقل المرأة من العمل غير مدفوع الأجر في المؤسسات العائلية إلى وظائف مدفوعة الأجر في اقتصاد السوق، فقد يتضاءل دعم المهر في المستقبل. “هناك القليل من الأدلة على أن قوة المرأة آخذة في الازدياد في الهند؛ أخيرًا، فلا يمكن تقييم درجة التغيير أو الاستقرار في المواقف تجاه المهر إلا من خلال بيانات موثّقة.”(12) وعلى الرغم من أنه تم سن القوانين وتشكيل المنظمات الاجتماعية لاحتواء هذه الممارسة. لكن يبدو أنه لم ينجح أي جهد في كبح هذه الممارسة سريعة النمو. “التي وعلى الرّغم من حظرها رسمياً عام 1961، إلا أنه أقدّم بعض الفتيات على الانتحار بعد تعرضهن لضغوط نفسية كبيرة إثر مطالبتهن بسداد المهور، بينما تعرّضت أخريات للقتل عل يد أزواجهن حيث سجل الجرائم الهندي نحو 8000 حالة وفاة تحدث سنوياً في مختلف أنحاء البلاد بسبب عجز الفتيات عن الوفاء بالمهور.”(13) فهل كانت مشاكل المهور خاصة بالهندوس فقط؟  بالأحرى هل كان للمجتمع المسلم نصيب من هذا السياق؟ وبما أن الزواج الإسلامي لا يعترف بـ (مؤسسة) المهر، فمن المفترض أن المسلمين لا يمارسونه! هل انتصر الأعراف المجتمعية على الممارسات الدينية؟ أم أبتّ الثقافة المحلية الانصياع للدين كما فعلت مع الثقافة الغربية من قبل؟

اثبتت الدراسات “أن النساء المسلمات أيضًا ضحايا ممارسات المهور، ويواجهن الكثير من المضايقات إن لم يكن حرق العروس. كما هو معروف جيدًا، إن تقاليدهم ومؤسساتهم الاجتماعية هي في الواقع أكثر (هندية) من (إسلامية). ممارسة المهر ليست ظاهرة جديدة بينهم، حيث كانت موجودة منذ قرون.”(14) القضية هنا، لم تكن المشكلة ثقافة أوروبية أو ممارسات دينية، القضية الأساسية هي الرعب من كل جديد، يريد أن يحطم القالب الذي طالما اختبأنا به، فإذا كُسِر سنظل عرايا أمام ذواتنا، فلذلك نأبى بكل عنف أي جديد من الممكن أن يغيّر تصميم قوالبنا الفكرية.

الغريب في الأمر، أنّ قضية المهور لا تنتهي بعد الزواج ولا حتى بعد موت الزوجة، إذ يقترن الزوج بزوجة أخرى ليواصل مسلسل الابتزاز. “والجانب السيئ الآخر هو أنّ إقليم مثل كارلا الذي يقع جنوب البلاد، شهد في السنوات الأخيرة زيجات غريبة بين أوساط المسلمين تزوجت فيها الفتاة من رجل إمّا متدني التعليم وإما أمىَّ تماماً، والسبب هو أنّ أهلها قد أنفقوا كل ما لديهم على تعليم ابنتهم ولم يعد لديهم ما يكفي لسداد مهرها.”(15) ولقد قدمت ناريان مثالاً على الثقافة السائدة فطرّحت أنواع المهور بالإضافة إلى، الطرق التي تم بها تأطير القضايا المحيطة بجرائم المهور في سياق الهند، وبين العنف المنزلي في الولايات المتحدة. تقدم ناريان رسالة ضمنية بأن نساء العالم الثالث موجودات في سياقات يكون فيها الموت بالثقافة ممكنًا. وتوضح صعوبة التواصل بين الثقافات. وأن الموت ممكن في سياق الثقافات الغربية وغير الغربية فإذا كانت النساء يمتْن فالهند بسبب المهور، فيمتْن في الولايات المتحدة بسبب العنف المنزلي، حسب الإحصائية التي وضحتها ناريان. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* (1933-       ) هو اقتصادي هندي، حاصل على وسام رفقاء الشرف، درّس وعمل في المملكة المتحدة والولايات المتحدة. وقدم إسهامات في اقتصاد الرفاه، والعدالة الاقتصادية والاجتماعية، ونظرية اتخاذ القرار، واقتصاديات التنمية، والصحة العامة، ومؤشرات قياس رفاه مواطني الدول النامية. هو أستاذ الاقتصاد والفلسفة في جامعة هارفارد. حصل على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية في عام 1998، أنظر إلى: https://www.marefa.org/.

1-Mary Fainsod Katzenstein, Organizing Against Violence: Strategies of the Indian Women’s Movement, Pacific Affairs, Vol. 62, No. 1, 1989, p.71

(*) (1929-        ) فيلسوفة أمريكية أخلاقية واجتماعية / سياسية ونسوية أثارت أعمالها حول أخلاقيات الرعاية بحثًا مهمًا في الأبعاد الأخلاقية لتوفير الرعاية للآخرين وانتقادات للأدوار التقليدية للمرأة في المجتمع. وهي ترى أن الرعاية أساسية للممارسات البشرية، بل لبقائنا على قيد الحياة. أنظر إلى:

Cassie Ann Striblen, Virginia Held, Encyclopedia of Global Justice, Editors: Deen K. Chatterjee, 2011 Edition, https://link.springer.com/referenceworkentry/.

(2) Virginia Held, The meshing of care and justice, Hypanthia, Vol. 10, No. 2, 1995, p. 129,130

(3) Uma Narayan, colonialism and its others: considerations on rights and care discourses, Hypatia, Vol. 10, No. 2 (Spring, 1995), p.139,140.

(4) U. Vindhya, Dowry Deaths in Andhra Pradesh, India, UNIV of Oklahoma on 29 march, 2015, p.1104:1106

(*) (1958-       ) على درجة البكالوريوس في الفلسفة من جامعة بومباي وشهادة الماجستير من جامعة بونا بالهند. حصلت على درجة الدكتوراه، في جامعة روتجرز عام 1990. وهي مؤلفة كتاب “خلع الثقافات: الهويات والتقاليد ونسوية العالم الثالث”. شاركت في إعادة بناء النظرية السياسية، وإزالة مركزية المركز: تحديات ما بعد الاستعمار والنسوية للفلسفة مع ساندرا هاردينغ، تقدم بانتظام دورات حول القضايا الأخلاقية المعاصرة والفلسفة الاجتماعية والسياسية والنظرية النسوية في قسم الفلسفة. كثيرًا ما تقوم بتدريس دورات لبرنامج دراسات المرأة، مثل مقدمة عن دراسات المرأة والنسوية العالمية. أنظر إلى: أوما ناريان وساندرا هاردنغ، نقض مركزية المركز، ج1، ترجمة/ يمنى طريف الخولي، عدد (365)، 2012، ص 313.

(5) Uma Narayan, 1997, 90:99

(*) الساتي هي ممارسة هندوسية تاريخية، حيث تضحي الأرملة بنفسها بالجلوس فوق محرقة جنازة زوجها المتوفى. وبين عامي 1815 و1818، تضاعف عدد حوادث ساتي في البنغال من 378 إلى 839. عارض هذه الممارسة والإنجيليون المسيحيون البريطانيون، والمصلحيون الهندوس، ودفع الحكومة الهندية إلى إصدار قانون منع ساتي 1987، الذي يجرم مساعدة أو تمجيد ساتي، أنظر إلى:

John Stratton Hawley, Sati, the blessing and the curse: the burning of wives in India, Columbia University. Southern Asian Institute, Oxford University Press,2011.

(6) Uma Narayan, Essence of Culture and a Sense of History: A Feminist Critique of Cultural Essentialism, Hypanthia vol. 13, no. 2 (Spring 1998),

(7) كيم نوت: الهندوسية مقدمة قصيرة، 82، 83 .

(8) زرادشتية، مقال نُشر بتاريخ 31-12-2019، أنظر إلى: www.wikiwand.com

(9)Uma Narayan, Dislocating Cultures, Identities, p.150:110.

(10)Ibid, same placement

(11)Padma Srinivasan & Gary R. Lee, The Dowry System in Northern India: Women’s Attitudes and Social Change, Bowling Green State University, Journal of Marriage and Family, 2004, p. 1108,1109.

(12)Padma Srinivasan & Gary R. Lee, The Dowry System in Northern India, p.1115, 1116.

(13) Abdul WAheed, Dowry among Indian Muslims: Ideals and Practices, Indian Journal of Gender Studies, (2009), p. 48:50.

(14) Ibid, same placement

(15) براكريتي غوبتا، الهند تشن حملة صامتة على مهور النساء للرجال، نُشر بتاريخ، 24 يوليو 2018، العدد (14483)، أنظر إلى: https://aawsat.com/home/article

ثقافة وفكر قراءات

عن الكاتب

إكرام البدوي