فطرية الأخلاق

كتب بواسطة فاطمة الشباني

إعداد: فاطمة الشباني

في ظل ما نشاهد من اليوم من أحداث وسلوك تنافي القيم، يحضر موضوع الأخلاق بشكل لافت للنظر، نظرا لكون الأخلاق أساس التعايش والتسامح وأساس الاحترام؛ احترام الإنسان والمؤسسات وغيرها. ولأهمية ذلك خصوصا في هذه الظرفية العصيبة من تاريخ البشرية ارتأيت التوقف عند هذا الموضوع الحيوي وهو فطرية الأخلاق انطلاقا من مقاربة عالم النفس الأمريكي ايدموند ج. بورت. 

افتتح ايدموند هذه الموضوع الشيق بالتساؤل التالي: ما هو المبدأ الأساسي في السلوك الأخلاقي للإنسان؟ تجيب ما بعد الحداثة بأنه لا يوجد مبدأ أساسي. فسلوكنا توجهه ببساطة قيم ومعايير ثقافتنا المحددة. فوجود أسس أخلاقية عالمية تخلو من تأثيرات الثقافة، بمثابة أمر مستحيل. وكل ثقافة تخلق معاييرها وقوانينها الأخلاقية. وقد تتصادم الثقافات في قيمها واختلافاتها الثقافية.

لكن النموذج الناشئ بمنظوره الروحاني للكون حسب ايدموند يقدم “إجابة مختلفة، إذ يقترح وجود أسس للسلوك الأخلاقي تتجاوز الاختلافات الثقافية المختلفة، وتقبع في طبيعة الكون نفسه. فالسلوك الأخلاقي ينبع بشكل طبيعي من أعماق علاقتنا بالكون. وبإيجاز، فالأخلاق يقبع أساسها السلوكي في النظام الطبيعي المتوارث عمله بالكون. وفي هذا تمييز عن الأخلاق النسبية، والتي تأخذ في اعتبارها الأخلاق كبناء لثقافة الإنسان. وكذلك الأخلاق المترابطة منطقيا والتي تركز على قيمة السلوك الإنساني اعتمادا على تبعاته الطيبة”1. وكأنه هنا يريد التأكيد على أساس الأخلاق يوجد في النظام المنطقي الذي أسسه الله في الكون.

وهنا يلاحظ ايدموند أنه في الأوقات المعاصرة، لم تلق فكرة الأخلاق الفطرية استحسانا كافيا، فبالنسبة للكثير، لا تقبع الأخلاق في المبادئ العالمية المتوارثة في الكون، ولكنها تقبع في المنفعة الاجتماعية. فقد أقام الإنسان تقاليده الأخلاقية لأجل المحافظة على تماسك نظامه الاجتماعي. فما يجب أن نفعله يعتمد على تقاليد الأخلاقية لأجل المحافظة على تماسك نظامه الاجتماعي. فما يجب أن نفعله يعتمد على تقاليدنا الاجتماعية، من أجل تنظيم سلوكنا الاجتماعي وتوفيقه من نظام قوانينا الاجتماعية. فلا وجود لمبادئ أخلاقية كونية بعيدا عن معطيات الثقافة الخاصة ومعاييرها. وكل أنظمتنا التشريعية والجنائية تعتمد على هذه الرؤية.

وهكذا إن الرؤية الناشئة للعالم أعادت إحياء الأساس العالمي الروحاني للأخلاق، لتعود ثانية لمفهوم الأخلاق الفطرية. وأساس السلوك الأخلاقي لا يقبع في تقاليد الإنسان. يقول ايدموند “الرؤية البازغة للعالم ترى أن الأساسي الكوني لهذا الأخلاق يقبع في الحب غير المشروط أو في الشفقة والرحمة، وأسسها بالسلوك الإنساني عبر الثقافات. وأبعد من هذا، فالحب التام الخالص غير المشروط، هو ليس مجرد عاطفة إنسانية بل هو فهم متوارث لطبيعة عمل الكون. وهذ ممكن حيث إن الكون ليس ماديا فحسب، بل منظم بطريقة ذكية واعية في جوهره، واع بشكل منظم يتضمن الحب والرحمة كمظهر فطري أصيل به”.2

ومن هذا المنطلق يؤكد ايدموند على أن الحب الخالص غير المشروط هو قيمة الكون التي تظهر متجاوزة الثقافة. وتؤكد كل الديانات على أهمية الحب الخالص كأساس للسلوك الأخلاقي. ويحوي التراث الإنساني نماذج على هذا الحب في الوصايا القديمة لتعاليم البوذية التي أوصت بالشفقة والكرم واللطف والرحمة والحب. كما نجد هذا الحب أيضا في صورة مصغرة في اليونان بمفهوم agape والذي يعني الدهشة. ومبدأ هذا الحب حسب ايدموند هو “معاونة الآخرين لإدارة سلوكهم تجاه معونة الجنس البشري. وفي سلوكنا تجاه الغير، فإن السؤال الفاعل من وجهة النظر الروحانية هو ما أكثر شيء محبب لدينا لنفعله؟ في بعض الحالات يتطلب هذا ما نسميه بالحب المتعلم والذي يظهر في حده الأقصى عند حماية الآخرين من الأذى، أو نحمي شخصا من أن يؤذي نفسه. وكي نكون متأكدين فإن أفضل شيء نحب أن نفعله قد يتطلب أحيانا أن تأخذ موقفا صلبا أفضل من أن تسمح لنفسك بأن يظلمك الغير”.3

ومن هذا المنطلق يرى اديموند أن أغلب ديانات العالم تعتقد في هذا الحب الخالص غير المشروط، وبأنه منسوب بالأساس لخالق هذا الكون “الله”. وهنا يعلق بقوله “إن هذا الحب الخالص هو على الأقل الشكل أو النموذج الأعظم للكون مع الصدق والجمال والسلام والسعادة. ويذكر الصوفيون أمثال “Meistr Echart” أن الكون كله كان سيقع أو يتحطم لولا محبة الله لمخلوقاته. إن معظم الديانات تقترح أن كلا منا يحوي قبسا من نور هذا الحب الإلهي في أعماق وجودنا”.4 وهذا ما يفرض علينا أن نكون مجسدين لهذا الحب الخالص ما دمنا نشترك في هذا الكون الذي أوجده الله وأوجدنا فيه.

ومن ثمة فالأساس النهائي للسلوك الأخلاقي حسب ايدموند هو أن نسلك بصدق وتصالح مع أعماقنا الداخلية. وإذا جاهدنا لنتسق مع تيار الكون، من خلال التدريبات الروحانية كالدعاء، والتأمل، والطقوس والشعائر والعبادات، فهذا كله سيجعلنا نعتنق الحب الخالص والسلوك الفطري لمحبة الآخرين ومحبة أنفسنا. ويتبع هذا أساس الأخلاق التي لا تقع في المعايير الفكري التي صنعها الإنسان. وليست من الثقافة النسبية. فالثقافات المختلفة لها معايير وقيم مختلفة لسلوك الإنسان. إلا أنها تشترك في قيمة أساسية هي الحب الجمعي والشفقة والرحمة تجاه الآخرين. وهذا يعكس حقيقة أن كل الديانات عبر العالم برغم اختلافها تشترك في أنها تؤمن بقاعدة ذهبية وهي “عامل الناس كما تحب أن يعاملوك” وأساس هذه الأخلاق ببساطة هو التعبير عن حب خالص بلا شروط، بأن تكون أنت نفسك بصدق.

وأن تحب نفسك بصدق هو أن ” تتصرف بصدق مع ذاتك وهذا يجعلك في انسجام مع الكون، وبشكل عام أنت تشعر بارتياح. أن تشعر في النهاية شعورا أفضل تجاه أي شيء، بعيدا عن أهدافنا الذاتية ومخاوفنا وغضبنا وتحاملنا أو تحيزنا ونظرتنا الضيقة النابعة من القيود الثقافية والشروط العائلية، إننا جميعا نود أن نحيا ونعبر عن أعماق أنفسنا، وأن نحيا باتساق مع الطبيعة. وعليه فالشكل الأمثل للسلوك –بطريقة أخلاقية نابعة من أي موقف- هو ببساطة أن تسلك بحب، وعلى المنظور الأعمق يعني أن تسلك على النحو الذي تميل إليه”.5

أخيرا وليس آخرا، لا بد من التأكيد على أن الأخلاق حاجة ومطلب الإنسانية جمعاء، فبالأخلاق يتم التقدم إلى الأفضل لما فيه خير لإنسان بل الكون كله، خاصة وأن عالمنا أصبح شاشة صغيرة بين أيدينا، فهل فعلا سنكون في مستوى أخلاقي يغير الوجه الحالي المضطرب؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 – التغير العالمي: من أجل بشرية أكثر إنسانية، إيدموند ج. بورن، ترجمة: سماح خالد زهران، ط1، 2015، ص: 225

 2 – نفسه، ص: 226

3 – التغير العالمي: من أجل بشرية أكثر إنسانية، ص: 227

4 – نفسه

 5 – التغير العالمي: من أجل بشرية أكثر إنسانية، ص: 228

فلسفة

عن الكاتب

فاطمة الشباني