الجابري في أندونيسيا: نقد العقل العربي يهاجر إلى بلاد ما تحت الرياح

كتب بواسطة كاروول كيرستين

كاروول كيرستين   Carool Kersten

ترجمة: علي حمدان

تمهيد

للوهلة الأولى، يبدو من المستبعد جدا أن يتم إضفاء الطابع التاريخي لنقد الإسلام من قبل فيلسوف ذي اتجاهات يسارية من المغرب ويحمل كثيرا من التعاطف من قبل المسلمين التقليديين في أندونيسيا، بحيث يعيدون تعريف دورهم كممثلين لأهل السنة والجماعة. كما يبدو غريبا بنفس القدر طموح الأنتلجنسيا الإسلامية الإصلاحية الحديثة من تبني فلسفة جديدة للتعليم معتمدة على أفكاره. إن أفكار محمد عابد الجابري تبدو أقل ملائمة حينما نعتبر أنها تركز على العقل العربي وفي جزء كبير من مشروعه الفلسفي ينحاز للتراث الفكري لشمال إفريقيا. هذا الجزء من العالم الناطق بالعربية ليس مجرد موقع أولي لظهور نظرية للمعرفة يعتبرها الجابري متفوقة علي الأخرين من ناحية الصرامة الفكرية. إن الغاءه الصريح للمفكرين من المشرق واتهامه لهم بالغنوصية مما حدى بالبعض  اتهامه بالشوفونية المغاربية. وتعزيز  الجابري لكل من ابن حزم، وابن رشد، والشاطبي وابن خلدون لقى قبولا واذانا صاغية من قبل الانتلجنسيا الإسلامية في اندونيسيا من كافة الاتجاهات والخلفيات. ما هو مصدر الاهتمام إذا بأفكار الجابري في اندونيسيا؟ ولماذا هذا الاهتمام يشمل التقليدين والإصلاحيين فيها ؟

أنا قدمت شرحا مفصلا في مكان أخر حول السبب الذي جعل من أندونيسيا تربة صالحة لمفكرين مثل محمد عابد الجابري.  وهنا أريد أن أركز على الأفكار الأساسية لفلسفته والتي أثارت اهتمام الانتلجنسيا الإسلامية في اندونيسيا. كما أنه من المهم أن نلاحظ أن تأثير الجابري يأتي ضمن الاهتمام الأوسع للإندونيسيين بفئة من المثقفين العرب المعروفين بالتراثيين. بالإضافة إلى الجابري، محمد أركون، حسن حنفي، ونصر حامد أبو زيد. منذ تسعينات القرن الماضي بما اسميه بالحي العربي Arab Quarter مارسوا تأثيرا خطابيا مهما على الانتلجنسيا الإسلامية في اندونيسيا، ولم يتوقف اهتمام هؤلاء المفكرين بالفكر الإسلامي بل تعداه إلى الاهتمام  بفلسفة ما بعد الحداثة، وإلى نظرية ما بعد الكونيالية، وإلى الأفكار السياسية المتعلقة بالعلمانية، والديمقراطية وحقوق الانسان، وكذلك بلاهوت الدين.

في هذا الفصل، سأتناول كيف أن الإرث الفكري للجابري ساهم في تحول رؤية أهل السنة والجماعة من فكر مذهبي إلى منهج في تحليل الخطاب ونقد للايدلوجيا من قبل المسلمين التقليديين في اندونيسيا، وكيف ساهم في تطوير فلسفة التعليم من قبل  المفكرين الإصلاحيين. المفكرين المنخرطين في هذه الممارسة من التقليديين والحداثيين الإسلاميين ينتمون إلى مؤسسات جماهيرية، كالمحمدية الإصلاحية، وعلماء النهضة التقليدية( Nahdlatul Ulama )، اللذان كان لهما دورا فعالا في خلق بيئة  إسلامية فريدة في أندونيسيا منذ أن تم تأسيسهما في 1912  وفي 1926، على التوالي، هاتان المؤسستان لم تشمل عضويتهما عشرات الملايين من الأنصار فحسب، بل استطاعتا أن تحفزا خطابات إسلامية مختلفة وذلك بتبني أفكارا خارجية، وملائمة هذه الأفكار بصورة إبداعية مع الوضع الثقافي والتاريخي لأندونيسيا. سأبدأ نقاشي أولا بالتطور الفكري الذي حصل مع جمعية علماء النهضة وهي الجماعة التقليدية الأولى التي لاقت أفكار الجابري فيها رواجا.

الجابري والإسلام ما بعد التقليدي في أندونيسيا

في بداية الألفية تُرجمت مجموعة من مقالات محمد عابد الجابري لأول مرة إلى الأندونيسية، واضعة كتابات أبرز فيلسوف مغربي في متناول قراء جدد في الطرف الشرقي من العالم الإسلامي. وكان هناك تمهيد لذلك منذ منتصف التسعينات من القرن الماضي، عندما قام الزعيم الجديد في وقتها لجماعة علماء الامة ( NU)، سعيد عقيل سرداج (المولود عام 1953)، باستخدام أفكار الجابري في إعادة التفكير بمصطلح أهل السنة والجماعة والتي تختصر في الأندونيسية باسواجا( aswaja) الذين تعتبرهم علماء الامة أنهم الممثل الشرعي لها. كان الرئيس التنفيذي  لمجلس إدارة الجمعية حينها رسرداج والذي يعتبر من العلماء الجدد، وبرز في عام 1980 بمساعدة الرئيس العام للجماعة أحمد صديقي(1921-1996 ) والرئيس التنفيذي عبدالرحمن وحيد ( 1940-2009)، ورغم أنه تلقى تعليمه في المدارس الدينية المعروفة بالأندونيسية بيسنتران (Peasntran) وحاصل على الدكتوراه من جامعة أم القرى في مكة، كان منفتحا على الأفكار التقدمية وغالبا الأفكار الجدلية تلك التي يمثلها مفكرون كالجابري، وذلك من أجل الوصول إلى ديمومة أكبر للاسواجا. في الواقع أن الاسواجا هي نسخة معدلة للمفاهيم العامة التي طرأت على الفكر العربي والإسلامي عن الدين. النسخة الأندونيسية تعتمد على ثلاثة مدارس أو تقاليد فكرية تشمل أهم حقول المعرفة الدينية شاملة أهم حقول الدراسات الدينية والتي تربط التقليديين اليوم بجذور فكرهم التاريخي من خلال التأثير المباشر. إن الانتماء القضائي لجمعية علماء الامة يعود إلى الشافعي أو إلى علماء الماتريدية ، بينما بالنسبة للقضايا الفقهية يتبعون الأشعرية أو علماء الماتريدية بالنسبة للاحتياجات الروحية للناس فجمعية علماء الامة تتبع الصوفية المعتدلة للجنيد البغدادي والغزالي. للمثقفين المسلمين التقليديين في أندونيسيا المعاصرة، إن هذا الثلاثي يستمر في تشكيل معبر نحو نموذج هيكلي معتدل في توجهاته. وانسجاما مع قرار الجمعية في بداية 1980 للعودة إلى الوثيقة التأسيسية المعروفة بخطة 1926 (Khttah )، اقترح كبار قادة الجمعية إعادة قراءة أكثر انفتاحا  للاسواجا. النقاش والحوار الداخلي تمحور حول كيف يمكن أن تفهم  الاسواجا على أنها تمثل “أمة وسطى” ضمن المجتمع الإسلامي العالمي. كانت الاسواجا مرتبطة بشكل وثيق بالفقه والأحكام الإسلامية المتصفة بالوسطية والاعتدال، محددة التوازن والتسامح كفضيلتين أساسيتين، وأصحاب هذه النزعة والقراءة فهموا الاسواجا على أساس أنها تمنح طريقا وسطا للعصر الحديث بين التطرف الذي يسمونه بالأصولية الدينية والليبرالية، مؤكدة على الجانب التأويلي (الهرمونطيقي). إن هذا التفسير للاسواجا تتطلب نوعا من ممارسة الاجتهاد الذي ينحو على نوع من التوازن بين النقل والعقل، قابضة على القول المأثور الذي يشجع على الإبقاء على السمات الإيجابية في التراث ومنفتحة على الخيارات البديلة في الفكر الحديث.

في 1955، قادةُ جمعية علماء الأمة فوضت سرداج ليكتب كراسا عن مفهوم الاسواجا، بحيث يقدم صياغة منهجية لمعنى المصطلح، وبعدها بسنتين قام بنشر كتاب يحمل عنوان (أهل السنة والجماعة عبر التاريخ)، والذي اعتبر منذ ذلك الوقت وثيقة أساسية لجمعية علماء الامة في فهم  جديد للاسواجا. مستوحيا من نظرية المعرفة لدى الجابري التي طورها في “نقد العقل العربي، واصفة منهج الاسواجا على أنه “تقليد ممنهج”. وحتى ذلك الوقت كانت فلسفة الجابري غير معروفة في اندونيسيا وكان سرداج هو اول من استخدمها في منهجه البديل لتفسير الاسواجا، وذلك كمنهج معرفي وليس كمذهب. هذا التفسير يختلف بشكل جذري عن الاتهامات التي يسوقها الاصلاحيون المسلمون ضد التقليديين من أنهم يتبعون المذهب بصورة عمياء. لقد اكد سرداج أن إعادة تفسيره للاسواجا في الحقيقة تضيق الخلافات بين الإصلاحيين وأفكار العلماء التقليديين وتحصره في خلاف حول المصطلحات، عوضا عن خلاف جوهري لا يمكن تجاوزه. هذا الراي لم يلق إجماعا من الجميع في الجمعية، ولكن في مقدمة الكتاب دعا رئيس مجلس الإدارة عبدالرحمن وحيد إلى تقبل التعددية في التفسير مستحضرا قول النبي “اختلاف أمتي رحمة”.

إن استخدام سرداج لنظريات الجابري كمنجية صارمة في تفسير الاسواجا يعنى تشجيع جيل جديد من المفكرين الشباب ( الكادر الشاب في جمعية العلماء لدراسة هذا المفكر المغربي. في عام 1997 تم إصدار كراس سرداج، وتم إصدار العدد الافتتاحي من “تشاور أفكار”  الفصلية الجديدة للكوادر الشابة في الجمعية والتي كانت تهدف الى مراجعة الاسواجا. وبعد ثلاث سنوات أحد المساهمين الرئيسين في الفصلية وهو مفكر شاب يدعى احمد باسو( المولود عام 1971 ) , أنجز أول ترجمة أندونيسية لمجموعة مقالات للجابري ونشرت بعنوان ” الإسلام ما بعد التقليدي “( Islamic Post-Traditionalism )، وهو مصطلح أصبح مرادفا لنوع جديد من الفكر الإسلامي التقدمي والذي تم تطويره من قبل المفكرين الشباب من الخلفيات التقليدية. وبعد سنة من ظهور ترجمة الجابري في عام  2000، أصدر محررو تشاور أفكار عددا خاصا يتناول هذه الظاهرة، والذي يعتبر الآن كمنفستو إسلامي ما بعد تقليدي (Post traditoinal).  حيث أن أحمد باسو اعتبر رائدا لهذا الفكر الإسلامي الجديد. في عدد من كتاباته، اعترف باسو أنه اطلع على فكر الجابري عندما قراء كتاب سرداج. وهذا بدوره حفز الاهتمام ليس في أعمال الجابري فحسب بل في  فلسفة ما بعد الحداثة، و في نظرية ما بعد الكونيالية والتي تأثر بها الفيلسوف المغربي. لذلك أصبح مطلعا على النظرية النقدية لهيبرماس، ولمدرسة فرانكفورت، والتشكل الخطابي أو الاستطرادي لفوكو، ومركزية اللوغاريتم لدريدا، وللمفهوم المؤثر لرأس المال الرمزي، و للاجتماعية الخيالية التي تم تطويرهما من قبل بوردو.

ظهور كتاب الإسلام ما بعد التقليدي يعتبر منعطف مهم في تاريخ أندونيسيا السياسي، فقد تم إصداره في خضم تحول أندونيسيا من نظام سلطوي إلى نظام ديمقراطي، وهذا كان يمثل نقلة فكرية، من الاهتمام المباشر للسياسة إلى اهتمام طويل الأجل بالاسئلة المعرفية بالنسبة للأجيال الحديثة من المفكرين الإسلاميين. ظاهرة لم تكن معروفة منذ السنوات القليلة الماضية على الساحة الأندونيسية، فالاهتمام بالجابري بدأ في التطور في السنوات التي أعقبت سقوط نظام الجنرال سوهارتو. في عام 1998، أستاذ العلوم السياسية لطفي اسيوكان ( Assyaukaine ) من مواليد  1967، أكاديمي من خلفيات تقليدية وحديثة ضمن الجابري في مراجعاته للخطابات العربية المعاصرة، وشفيق هاسيم ( Hasyim ) المولود في عام 1970، والمنتمي إلى جمعية علماء الأمة ونشر مراجعة عن ثلاثية الجابري حول نقد العقل العربي. وكان ذلك متزامنا مع  اعتبار باسو ( Baso ) أن الجابري أحد الطليعيين وهو لا يشمل فقط المفكرين التراثيين  الذين تم ذكرهم مسبقا بل يشمل حلقة واسعة من المفكرين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومن ضمنهم عزيز العظمة، ومحمد عمارة، هشام جعيط، وعبدالله العروي،  وفاطمة مرنيسي.  وعلى عكس الأندونيسين، فإن المثقفين الفرانكوفونين  المسلمين من شمال افريقيا كانوا مطلعين على الفكر البنيوي الفرنسي، وما بعد البنيوية وعلى المفكرين الاخرين ما بعد الحداثيين : وقد ساهم الاطلاع على فكر الجابري، فتح مجال جديد للمسلمين في أندونيسيا.

في مقدمة أحمد باسو لترجمته لمقالات الجابري، يشير كيف أن اطلاع الجابري على الدراسات المقارنة لYves Lacoste حول ابن خلدون وماركس، ساهمت في توصل الجابري إلى أن هناك طريقة إسلامية للأخذ بالحتمية التاريخية والمادية التاريخية في التحليل. وحسب أحمد باسو أن الجابري في تناوله لابن خلدون العالم الإسلامي من شمال إفريقيا، الذي كتب عن نهوض الحضارات و زوالها، اعتبر الجابري أن ابن خلدون قام بتحليل بنيوي كان بديلا للإسقاط التاريخي للمدرسة الاشعرية. باسو أيضا أشار الى أن الجابري لم يعترض على تبني الغزالي للصوفية. بعد أن اكتشف البراعة الفكرية السابقة للعالم الإسلامي، الجابري اعترض على المدرسة الاستشراقية في دراسة الإسلام والتي سقطت في نفس المنحى الاختزالي كحال بعض مفكري القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من المفكرين  النهضويين والإصلاحيين الإسلاميين الذين وصفوا الفكر الإسلامي بانه فكر جامد ومتهاوٍ. إن هذا القصور من ناحية الدقة في النقد المنهجي لا يزال مؤثرا في الفكر الإسلامي حتى اليوم، سواء كان هذا الفكر تقليدي، أو سلفي أو يساري في توجهاته. باسو يذهب ليشرح كيف أن الجابري يؤكد بأن التراث الإسلامي يجب أن يفهم على أنه مفهوم واسع وشامل، حيث أن الدين لا ينظر له على أنه حقيقة، ووقائع، وكلمات، ومفاهيم، ولغة وفكر، فحسب بل، خرافة، وأساطير، وطرق للسلوك، وأسلوب في التفكير.

لقد وجد الجابري في أعمال البنيويين مثل فيرناند سوسور ( Saussure) كلود ليفي ستراوس، وجين بياجه، كما في أعمال فلاسفة ما بعد البنيوية مثل جاكو لاكان، لويس التوسير، رولاند بارث، جاكوس دريدا، ومايكل فوكو منهجية أخرى إضافية لتفسيره البديل في دراسة التراث. الجابري اتبع منهجهم واراءهم في إصداره الأهم نقد العقل العربي الذي تم نشره في 1980s، الذي يتناول فيه تاريخ الفكر العربي، جامعا فيه التحليل التاريخي والبنيوية النقدية مع نقد أيديولوجي للخطاب السياسي المهيمن. باسو يزعم أن المنهج الاستدلالي الذي اتبعه الجابري في العودة إلى دراسة التراث لم يكن منهج انتقائي، ولكنه منهج كلي يهدف إلى تحليل الفكر العربي الإسلامي في تاريخيته، وعقائديته، وعلم اللغة، والقضاء، وكذلك في  الجوانب الفلسفية والروحية. في مراجعته لعصر التدوين والذي بدآ في القرن الثامن بعد الميلاد والذي كان بداية لتأسيس تقليد فكري إسلامي متميز، أكد الجابري على أهمية كل ما هو مدون وشفوي أو (غير المدون ) وذلك لكي يصل المرء إلى فهم في كيفية حصول المعرفة على مرجعية أبستمولوجية وأيدلوجية.

وهذا يقود باسو (Baso)، إلى الأنظمة المعرفية (epistemes) الثلاثة للجابري، أنظمة انتاج المعرفة التي تمثل الأساس الهيكلي الذي اعتمد عليه الجابري في قراءته للعقل العربي، البيان، والعرفان، والبرهان. إن حجة الجابري، أنه منذ عصر التدوين  قامت المدرسة الاشعرية بالترويج للفكر البياني والتي أصبحت المدرسة السائدة في الفكر العربي الإسلامي، كان لهذه الفكرة اهتمام خاص من قبل المفكرين الإسلاميين التقليديين في أندونيسيا أمثال باسو. فالنصوص تصبح مرجعية من خلال البروتكولات والممارسات الخطابية التي تعتمد في الغالب على التقليد والاستدلال عن طريق التناظر. وعلى نفس القدر من الأهمية لسياق الاسوجا في أندونيسيا حيث خص بالذكر الجابري المدرسة الشافعية كنموذج لهذا النوع من العقل في تفسير كل من القران الكريم وفي تطور منهجية القضاء. بناء على باسو فإن الجابري يؤكد أن العقل البياني هو أقل توافقا مع العقل العرفاني من العقل البرهاني. والسبب في ذلك التقارب موجود في النص الأصلي للقرآن، فالقرآن يعترف بل يحث على استعمال العقل البشري. في تفسير باسو للجابري، أن أصل العرفان هو علوم الاولين في فارس، الغنوصية والأفلاطونية المحدثة التي تشكك في القدرة المستقلة للعقل البشري للجابري، وهذا سبب كافي لوصف  العرفان بأنه لاعقلاني. رغم أن باسو لديه تحفظ على هذا الرفض الصريح لإرث الشرق الروحي، إلا أنه يبقى على اعتقاد بأن  منهجية الجابري ونقده الأيدلوجي يمكن الاستفادة منهما من قبل المفكرين الأندونيسيين في مراجعة تراثهم. يشرح باسو بأن  معارضة الجابري للعقل البياني قد تكون منطلقة من مبررات أيدلوجية حيث يأخذ من القرآن كنقطة انطلاق، ولكن كنظام معرفي يجب رفضها، نظرا لأن طريقة الجابري التي تتسم بالفوضوية في السببية لا تتوافق مع التفكير العقلاني الذي اتصف به فكر الجابري.

للمضي قدما بالفكر النقدي العربي الإسلامي، علق الجابري آماله على العقل البرهاني، الذي ساواه بالعقلانية. رافضا المفكرين المنحدرين من أصول تركية -فارسية، كالفارابي وابن سينا لميولهم العرفانية، والغزالي لاستغلاله للمنطق الارسطي، حيث يعتمد علم المعرفة عند الجابري على فهم منهجي للتراث الهيليني. حيث يزعم بإن الاستخدام الصحيح للفكر اليوناني كان في اسبانيا الإسلامية والمغرب في القرون الوسطى. الجابري يعزز من عقلانية علماء الاندلس في القرون الوسطى، مثل ابن الحزم، والشاطبي و بالتحديد عقلانية ابن رشد، كعلاج شافي من الاتجاهات البيانية، ولتأسيس على تأويل النصوص المقدسة (القرآن) على المعرفة الأبستمولوجية، عوضا عن التقليد العرفاني غير العقلاني. الجابري يدعى بأن التقليد الإسلامي بلغ أعلى مراحل رقيه لما تشبع بالروح الرشدية، لأن هذا الفكر دعا إلى الاستخدام السليم للأرسطية (نسبة الى أرسطو) وذلك بتبني مناهج كل من الاستقراء والاستدلال وباتباع مناهج الصلاحية العالمية والتاريخية. غير أن احمد باسو ليس معجبا بالجابري في هذه الجزئية للجابري. حيث يشير إلى ميول (شوفينية) أو وطنية تحرك انحياز الجابري إلى فلسفة المغرب، لذلك يظهر باسو نفسه بأنه مفكر مدرك وناقد بذكاء.

في إحدى فصول الدراسات الصادرة عن جمعية علماء الامة (NU) ، تحت عنوان الجمعية تعيد كتابة تاريخ حقيقة الاسواجا، باسو يحقق في ما أطلق عليه فوكو ” التاريخ السياسي في إنتاج الحقيقة”، من أجل إثبات كيف تحتكر أنظمة الحقيقة المهيمنة على وسائل إنتاج الثقافة. وقد مكن هذا رجال الدين من الادعاء بإن تفسيرهم هو التفسير الوحيد الصحيح للعقيدة، ومكنهم من تأسيس الأرثوذكسية الدينية. هو أيضا تبنى مفهوم Imaginaire Social   المخيال الاجتماعي من بورديو و كاستورديس ليرسم لنا كيف أن الاسواجا تأسست من مجموعة سياسية من  المسلمين أثناء الفتنة الأولى أو الحرب الأهلية التي اندلعت إثر الصراع على الخلافة بعد وفاة الرسول. وأثناء الصراع بين الأمويين وخصومهم من الشيعة والخوارج، هذه المجموعة بقيت بعيدة منغمسة في الدراسات والتدرب على الورع والتقوى. متبعا إعادة تأويل ساجد عقيل  للاسواجا، باسو يخص بالذكر حسن البصري كأحد رموز الاعتدال ضمن الفئة المنعزلة في الجماعة الإسلامية، والتي أصبحت في نهاية الأمر قوة سياسية بذاتها، وذلك بمعارضتها للخليفة على أسس معرفية وفقهية. ويذكر باسو معتمدا على ما أتى به الجابري في عصر التدوين بأن نفس هذه المجموعة وفي عهد الدولة العباسية حافظت على موقفها المحايد وسط الصراع الدائر وقتها بين المدرسة العقلانية للمعتزلة وجماعة السلف المنضوية تحت زعامة أحمد بن حنبل. وعندما خمد النقاش حول المسائل الخلافية نصبت هذه الجماعة نفسها  ( جماعة أحمد بن حنبل)  الوصية على سنة رسول الله، لقد نجح (أهل السنة والجماعة) في التحول من هامش الفكر الإسلامي إلى مركز الفعل السياسي. وهذا لم يكن بالأمر الهين ويعود الفضل في ذلك للأشعري، الذي عمم تفسير ابن حنبل للقران والسنة وبإضافة استخدام إجماع الفقهاء من قبل الشافعي، والقياس في حله للمسائل القانونية. وحسب باسو، هذا أدى إلى دمج ما اسماه الغزالي بنظام الدنيا مع نظام الدين، أو بالأنظمة الدينية الدنيوية.

تماشيا مع موقفهم ضد هيمنة تفسير أحادي للإسلام، باسو ورميدي( Rumadi ) جادلا باستمرار أن “الإسلام ما بعد التقليدي ” يسعى إلى لامركزية الاسواجا بحيث يمكن تفسيرها من جديد من خلال إعادة كتابة أو قراءة الطريقة التي أصبحت أيدلوجية لجماعة علماء الامة (NU). انسجاما مع المعنى الجديد الذي منحه سعيد عقيل سرجارد للاسواجا كمنهج للفكر، ويسعى رميدي إلى استعادة حركيتها للتصدي للعناصر الإشكالية المذكورة سابقا في المبدأ، “ما هو أفضل من الجديد”. وفي رأيه أن هذا يقدم أفضل استجابة للتحديات الخارجية المعاصرة كالاعتراف بالتعددية الدينية، والديمقراطية، وحقوق الانسان.

بناء على ملاحظاته الأولية بأن الفكر الديني للاسواجا يجب أن يكون أكثر استجابة للوضع الانساني، ورميدي يقرر أن ذلك يتطلب تغيير هيكلي ولا شيء أقل من نقلة نوعية من خلال إعادة تصور للاسواجا كطريقة للتفكير في الدين على نفس النسق الذي اقترحه عبد الرحمن وحيد وسعيد عقل سردجار كبديل عن المدرسة التاريخية للفكر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش والملاحظات:

مترجم من دراسة كاروول كرستين بتصرف.

كاروول كرستين أستاذ مساعد لدراسة الإسلام والعالم الإسلامي في كلية الملك King’s College في لندن وباحث مساعد في المدرسة الشرقية والافريقية للدراسات.

الاسواجا : جماعة من المسلمين الذين يتبعون سنة رسول الله وتعاليم اتباعه، أهل السنة والجماعة.

فلسفة

عن الكاتب

كاروول كيرستين