سردية الشعر المختلف

كتب بواسطة صالح لبريني

إعداد: صالح لبريني

(1)

تمضي القصيدة، بكامل سطوتها، لتشرع أفق كتابة شعرية تختلف عمّا هو كائن في الشّعرية العربية،  وتتخلّص من زوائد المسكوك البلاغي، وتنفض عن كيّانها القيود المتواضع عليها، متحرّرة من الشّكل المعيق لحيويتها ومتملّصَة من رتابة الوزن والقافية؛ فاتحة بذلك مرحلة جديدة في صيرورة الشّعر العربي، من خلال، إبداعها الإيقاع المناسب مع صوتها المنبثق من التّجربة، والمعبّر عن سؤال الكتابة، ذلك أن الكتابة الشّعرية تطرق مسالك مفارقة وبعيدة عن المألوف والمعتاد، فالمسالك الأسلوبية تتميّز بالإبدال والمغايرة، فلا تنحاز إلى السلَف ولا تستدعيهم الاستدعاء السّاذَج، وإنّما ترنو إلى البعيد الآتي. فالإقامة في الماضي نفْيٌ للحاضر وإلغاءٌ للمستقبل، وانحيازٌ لذاكرة محنّطة، و رفض لذاكرة تستشرف المباغت والقادم من أقصى المجهول. ولعلّ هذا التراوح البيني له تأثير واضح على حياة الشّعر وسيرورة المعطوبة بفعل تغييب التجربة، فالانتماء للماضي تشويه لولادة الحاضر وحدّه حتى لا يمتد في المستقبل. لهذا على الشعر الانتساب إلى المجهول، ونهْج الاختراق وسيلة لمعانقة التجدّد والخَلْق والابتداع.

(2)

إن انتساب الشّعر إلى المجهول لا يدلّ على غياب شجرة النّسب الشعري، أو يحمل في طيّاته نكراناً لهذه الشجرة، أو أنّه لقيط إبداعيّ لا أب له، بل ترسيخ لهوية شعرية منبعها القديم، منتزِعة منه عمقها الأصيل وحياتها القادمة، ففي غيابه تفقد القصيدة زخمها الرؤياوي، وروحها الشّاهقة في سماء التراث. وبالتّالي فلا ينبغي أن يفهم أن التراث الشعري فقير الخيال والمتخيّل والذاكرة، ولكن الحقيقة أنّه الخزّان المعرفي والتاريخي والحضاري الذي ينهل منه الشّعر، و يمْنحه وهج الامتداد والاستمرارية في ذاكرة الإبداع الإنساني. فالمجهول المقصود به تلك الجغرافيات الغامضة التي لم يتمكّن الشّعراء الأسلاف من فتحها واكتشافها نظرا للسّيّاقات المحيطة بوجودهم، وما يطرحه الشّعر من أسئلة متعلّقة بمجابهة الفناء والموت . فالخروج من المعلوم الذي يشكّله هذا التراث الشعري إلى المجهول يحتاج إلى الحفْر في ذاكرة الماضي؛ والنّهل من إرثها بالشّكل الذي بإمكانه إضاءة التجربة؛ وتزويدها بطاقة تخييلية تضفي على التجربة الشيء الكثير من البهاء الفنّي و الوهج الجمالي.

(3)

الوهج الجمالي امتلاءٌ وتخْصِيبٌ، تشكيلٌ ونسْجٌ، نظْمٌ خارج سُلطة المألوف، وانحيازٌ إلى انزياحٍ دلاليّ يُحوّلُ الأشياءَ والعالَمَ إلى عالَمٍ مُتَخَيَّل يخلُق وجودَه الفنّيّ من رحِم المخالَفة لا المطابقة، ويؤسّس لشعرية تجترح تحويلاتها من الغريب والعجيب تركيباً وصياغةً. فجمالُ النّسْج لا يتحقّق إلّا عن طريق الاستعمال الانزياحيّ للّغة وتطعيمها برؤًى مستمَدَّةٍ منْ سَعَة التّجربة ورَحابة المُتخيّل. ونابعٌ من تفتيقُ المعنى وتوسيعُ الدّلالة، بوساطة الاشتغال على اللّغة بتطعيمها بطاقة الإبدال والتّحويل، التي تجعلها أكثرَ إيحاءً وإشارة، تشبه البَرْقَ في التماعاته المباغتة واتّقاد الضّوء في جلال العتمة، والأكثر من هذا أنّ جماليات الشّعر تتشكّل من تلك الفجوات التي تُترَكُ للمتلقي بغاية ملئها، وإضاءتها بالمشترَك الجمعي، وهذا يستدعي الحفْر وإنتاج وإبداع بالذاكرة وفي الذاكرة باعتبارها تمثّل الماضي، والوعي بها يقود إلى المستقبل.

الوهجُ الجماليّ هدمٌ وبناءٌ، هدْمُ التّوابيتِ وبناءُ الوجود بصيغة أخرى عن طريقِ إضفاء طابع الابتداع، وتشكيل لأفق شعري مطرّزٍ بالكشف والاكتشاف، وخارج عن هدْيِ الأسلاف، ليس جهلاً ولكن بعد الوعيِ بمكامن جواهره وأعماقه الجمالية والفنية. إنه هدْمُ الحُجُب المطلسِمَة لواحدية المعنى وتشييد لتعدّدية في الدّلالة، هَدْمُ الشَّكل المُعطِّلِ لإرادة الخَلْقِ وبِناءُ اللّاشكل الذي يمنحُ القدرة على معانقة الأجناس التعبيرية بذراعين مفتوحين على الأراضي الإبداعية الأخرى، بدون أخذ تأشيرة حرّاس الحدود الأدبية.

(4)

إن الشّعر، منذ البدْء، مغامرة وجودية اتخذها الشاعر للمقاومة والدّفاع عن الذات من شراسة العدم المطوّق حياتها، ومن أجل قراءة الوجود بعين اللغة الجانحة صوب المجهول، والقادمة من أغوار الحياة ومغالقها، وفيه تغدو الذات تبحث عن كينونتها مقوّضة اليقينيات ومطاردة الشّك كقناعة في التفكير بغية القبض على هذا اللانهائي واللامحدود، إن جدارة الشعر ليس في الشكل والموضوع، ولكن في العمق الأنطولوجي الذي يحبل به، وفي تلك الرغبة المحمومة لاستشراف الوجود والسعي لإنتاجه بواسطة المتخيّل والتخييل. فالكائن وهو يجابه مصيره يختار الإبداع طريق المجاز والاستعارة كآليتين أسلوبيتين لتشكيل العالَم والذّات وفق تصوّر مختلف ومخالف للتشكّلات التي تمّ بها بناء الكون، وبهذا المختلف والمخالف تحقّق اللّغة فرادتها القمينة بالاستمرارية والذّهاب بعيداً في المناطق الملتبسة.

هذه المغامرة الوجودية تحمل في طيّاتها المغايرة المؤدّية لتلك التّخوم المجهولة التي تضع الذّات في مواجهة الكون، والتي تكشف عن هشاشة الكائن أمام عظمة واستحالة الممكن المطلق، فالشعراء الذين أرسوا قواعد التحويل لم يفكّروا قطّ في انتمائهم إلى هوية إبداعية واحدة، ولكن هاجسهم كان يتمثّل في صنع الحياة بصيغة جديدة تنتمي إلى لحظة حضارية قائمة الذات في آنيتها وديمومتها.

(5)

لستُ حارس أراض شعرية، ولا أفكّر بتاتاً في هذا، بقدر ما أعتبر كوني ذاتاً اختارت التّيه انتماءً وجوديّاً، به أجترح التّرحال هوية، واللاإقامة سفينا يمخر بي صحراء اللغة بتجربة تخيط عوالمها بإبرة الخيال وبماء الذاكرة المتحوّل والمتقدّم في اتّجاه المجاري الجديدة والمتجدّدة، لإضاءة الماضي ومناوشة المستقبل بعين الحدس واللاوعي الجمعي النائم في الثنايا الكامنة في الذات والتفكير، لذا فالهاجس الذي يتملّكني لا ينحصر في وضع ثوابت قارّة وإنما صناعة محاريث بمكنها تقليب تلك الأراضي المجهولة والهاربة من قبضة اللغة لتحوّلها إلى كائنات وأشياء تتمتع بالحياة خيالاً ومتخيّلاً. فأنا مجرّد كائن يعتني بالحياة حتّى تكون أكثر انتساباً إلى الجمال والإبداع. أمجّد المفازات الغامضة وأراهن على ارتياد الحدائق السّرية للذات والكون، باعتبارها الشحنة التي بها نخترق الحجب والستائر التي تواري السرائر والأسرار. ونكتشف تلك الأراضي التي تبقى غامضة ومحيّرة وبعيدة كل البعد عن الاقتراب منها والقبض عليها، وفي هذه الاستحالة تكمُن لذّةُ الإبداع ومُتْعَتُهُ الفيّاضة بالإدهاش والسّحر .

(6)

إن الكتابة عن الشعر مغامرة على اعتبار الإبداع الحقيقي هو النابع من رؤية واضحة للعملية الإبداعية، والمجرد من الهلوسات اللغوية التي لا يجني من وراءها القارئ سوى تهويمات فارغة المحتوى والدلالة، ولعل هذه المغامرة الجميلة تحفز الذات المبدعة على الترحال عبر مسارات متنوعة وممتدة في الذاكرة الإنسانية للنهل والرفد منها ،بغية صقل وشحذ التجربة برؤى مختلفة تعبر عن تجربة في الحياة والحياة في التجربة والكتابة الشعرية. لذلك فالشعر ،في الأصل، له ارتباط وثيق بالكوامن الجوانية للذات، التي تمثل منجم العاطفة، والبئر العميقة للمشاعر والأحاسيس ،فبدون الذات تظل العملية الإبداعية تفتقد للحياة وتبتعد عن جوهر الكائن في هذا الوجود، فالذات تشكل أيضا النقطة التي تتمحور حولها الكينونة ؛ويتفتق منها جوهر الرؤية الإبداعية.

هذه الحقيقة التي يبذل الشاعر من أجل تحقيقها عمره الإبداعي كله ، تظل في حكم الغياب؛ إن هي انفصلت عن الذات والعالم ،فبالذات تستطيع التعبير عن وجودها، وبوجودها تتمكن من القبض على المستعصي منها؛ والمتواري فيها. هكذا نعتقد أن الشعر ترحال أبدي في الذات لاستنطاق الصامت وكشف المسكوت؛ وتعرية الدواخل من شر الكتمان حتى تغدو الذات مرآة تجلي الخوافي و الارتجاجات الجوانية والعواطف الملتهبة، والعواصف الجارفة للأحاسيس الفياضة بالبوح، والتواقة لمعانقة كل ما هو بهي وأصيل ،جميل و أنيق أناقة الروح في سموها وطهارتها من نجاسة وشر العالم .إن الشعر ديوان الذات الذي يسجل كل خفقة و دفقة نابعة من عمق المحنة الوجودية، باعتبار الوجود تأملا شقيا ،وتدبرا عميقا في ماهية الكائن ومصيره ،وانتصارا للحياة عبر الكتابة الأصيلة، ومن تم نجد الشاعر الذي يمتلك تصورا عميقا وأصيلا، دائم البحث عن وسائل تعبيرية تتسم بالجدة والتجديد ،منقبا عن أراض جديدة لم تطأها أقدام الشعراء، مؤسسا تجربة تنحت كيانها الشعري؛ من اللعنات المطوقة نبض الحس، وإلماعة العقل، والتي تشحن التجربة بطاقة التوهج والإبداع. وتدفع بها إلى ارتياد المجهول فيها.

.لاشك أن الشعر الحق هو الذي يدفع العقل البشري إلى ارتياد آفاق قصية ممتدة في اللامحدود واللانهائي تمده بأوكسجين الحياة، ومجابهة الموت؛ لأن الإبداع، بصفة عامة، بحث عن ديمومة وجودية رمزية لا تتحقق إلا عبر الكتابة الغنية بجماليات إبداعية وبنيات نصية محلحلة لما هو سائد، وخالقة لنصية متجددة ومقلقة، ومربكة للذائقات النمطية. ومبدعة لجماليات تنتصر للبهاء في الإنسان والوجود. ورحلة متريثة في تاريخ الإبداع الإنساني ، سنجد أن المبدع الذي نال شرف الاستمرارية في الوجود الرمزي هو الذي استطاع تقويض الثابت والجنوح نحو الابتداع والخلق. واكتشاف جغرافيات منسية من البواطن والمتواري في الذات.

.
تلك سيرة الشعر الذي يتجه صوب المجهول ويمتطي المتخيل لخلق عوالم الدهشة والفتنة الدهشة المغرية بركوب مغامرة التجديد والفتنة التي تشيد المتعة لمعانقة الكتابة المغرية. هذا المجهول هو الحافز الذي يدفع الشعراء إلى تجاوز السطحي ومعانقة الأعمق في الحياة والوجود والذات.فبه تقدر التجارب من الخلق والخرق المألوف والمعتاد تختار طريق اللعنة ولا ترتضي غير الإقامة في الجحيم
فالشعر لا يقيم إلا في المناطق السفلى من الوجود، ومن العمق الإنساني. كما أنه يحب الظلال، والظلال سليلة شهقة الماء، والماء بطبعه يتجدد ومن تم فالشعر هو الآخر شبيه الماء، لا يحيا إلا في الدفقة التي تتحول إلى تجربة باللغة. واللغة التي بدونها لا يمكن الحديث عن الإبداع، فبها تحيا التشابيه والاستعارات ،وتنهض الكنايات من سبات البلاغة المقيمة في كهف الثابت، بل إن بلغة الإيحاء والإشارة، والخرق تستطيع التجربة أن تقول نصها الشعري الباذخ رؤى وتصورات تتعمق في الخيال و ؛وتستقي وجودها من الحياة كنص تغتني منه التجربة.

لا جدال في كون مغامرة الكتابة الشعرية رهان للقبض على الجمال والبحث الأبدي عن سلالة ضاربة في محنة القول الشعري وانتماء لقبيلة الغرباء الذين يتأبطون كتاب غربتهم عبر المسالك الوعرة يبحثون عن ذات مقيمة في اللاهناك ، فالشعر غربة جميلة ،تجعل الشاعر يتنصل من كل ما هو مبتذل في وجود يزداد سآمة ومللا، وجود موحش ومخيف يهدد الكينونة التائهة في ملكوت في أمس الحاجة إلى معاشرة أصيلة ومصاحبة أليفة ومصادقة أبدية علَّ الشاعر يصل إلى حلول مع عالم النقاء والصحو والصفاء في بعده الوجودي

أدب

عن الكاتب

صالح لبريني