محمد ادعيكل
كثيرة هي المواضع التي نالت حضها من الكتابة والتأليف والندوات، غير أن هناك أخرى لم تنل الدرجة الكافية، نذكر منها موضوع “العادات بوصفها وظائف اجتماعية”، فلقد كان التقليد والعادة المادة الخام لحياة الناس وتفاعلهم وتواصلهم، ولكي نقترب من هذا الموضوع الشيق ونسلط عليه الضوء ونعيد له الاعتبار لأهميته في حياة الأمم والحضارات، خصوصا اليوم الذي كثر فيه الحديث عن العادات الخاصة المقدسة وعادات الآخر غير المقدسة، وذلك انطلاقا من مقاربة الفيلسوف الأمريكي جون ديوي (John Dewey).
بدأ ديوي حديثه عن هذا الموضوع بملاحظة مؤداها أننا في الميدان الأخلاقي اعتدنا فكرة خاطئة وهي: أن التنظيمات الأخلاقية تختص بها الذات دون غيرها، والذات في هذا الحالة تعزل عن بيئتها الطبيعية والاجتماعية. وعلى هذا الأساس تزدهر مدرسة بأكملها في علم الأخلاق؛ إذ تقوم على أن الأخلاق من المقومات الذاتية للشخصية، ثم تفصل هذه المدرسة الشخصية عن السلوك، وتفصل بين الدوافع التي تدفع إلى العمل وبين العمل الحقيقي نفسه.
وعلى هذا يرى ديوي أننا “إذا اعترفنا بوجود أوجه الشبه بين العمل الأخلاقي. والوظائف الفسيولوجية من ناحية، وبين العمل الأخلاقي والفن من ناحية أخرى لقضينا على الأسباب التي تجعل من الأخلاق مسألة ذاتية أو فردية، وبذلك نعود بالأخلاق إلى ميدان الواقع، فإذا ما تاقت النفس بعد ذلك إلى ميدان علوي سماوي، فليكون سماء هذا الوقاع لأسماء عالم آخر”40-42. علاقة بهذا، فالأمانة والعفة والخبث والشجاعة والتفاهة وعدم المسؤولية ليس من الممتلكات الذاتية للشخص، ولكنها أنواع من التكيف الواقعي بين قدرات الشخص وبين القوى البيئية المحيطة به، وجميع الفضائل والرذائل ما هي إلا عادات تدخل في تكوينها القوى البيئية، وما هي أيضا إلا أنواع من التفاعل بين عناصر يسهم بها التكوين العام للفرد من ناحية، وبين عناصر أخرى يسهم بها العالم الخارجي من ناحية ثانية، ويمكن دراستها –حسب ديوي- موضوعيا كما تدرس الوظائف الفسيولوجية، ويمكن أيضا أن تغير منها بتغيير العناصر الذاتية أو العناصر الاجتماعية.
بناء على هذا التفسير، يرى ديوي أننا لو افترضنا أن فردا استطاع أن يعيش وحيدا في هذا العالم فإنه يُكَوِّن عادته وحده – هذا إذا افترضنا المستحيل بمعنى أن الفرد سيتمكن من تكون عاداته- في فراغ أخلاقي، وتكون هذه الأخلاق خاصه به وحده، أو خاصة به فقط في علاقته مع القوى الطبيعية. فالمسؤولية والفضيلة تكونان خاصتين به وحده. ولكن لما كان تكوين العادات يتطلب إسهام الأحوال البيئية المحيطة. يقول ديوان معلقا على ذلك “فالفرد يقوم بنشاط ما تنتج عنه استجابات مختلفة من الآخرين في البيئة المحيطة به؛ فهو يوافقون، ويعترضون، ويحتجون، ويشجعون، ويشتركون، ويقاومون. وحتى إذا تركوا هذا الفرد وشانه فإن هذا يعتبر نوعا من الاستجابة لا شك في ذلك، وعلى هذا فالحسد والإعجاب والتقليد هي أعمال نشترك فيها مع الآخرين؛ إذ ان الحياد في هذه الحالة لا وجود له، فالسلوك دائما مشتركا”42/43. ومن هنا نقول أن السلوك الإنساني هو سلوك اجتماعي سواء أكان خيرا أم شرا.
انطلاقا من ذلك، يرى ديوي أن في حياتنا العملية كثير من أنواع الاعتراف بالدور الذي تلعبه العوامل الاجتماعية في تكوين السمات الشخصية. ومن أنواع هذا الاعتراف عادة تقسيم الناس إلى طبقات اجتماعية. يقول “فنحن نضفي صفات معينة تميز كلا من الأغنياء عن الفقراء، وسكان الأحياء الفقيرة عن أرباب الصناعة، وسكان الريف عن سكان الضواحي، والتي تميز الموظفين والسياسيين وأساتذة الجامعات، وأفراد الأجناس، وأعضاء الهيئات والأحزاب. وهذه الأحكام عادة أبعد ما تكون عن الفائدة المرجوة منها، ولكنها توضح درايتنا العملية بأن السمات الشخصية هي الوظائف التي تؤديها المواقف الاجتماعية”44-45. وبذلك يخلص ديوي إلى أنه إذا عممنا هذا المفهوم، وواجهنا أفعالنا على أساسه عن حكمة وذكاء. فإننا نكون حينئذ مضطرين للاعتراف بأن تغييرنا للشخصية من أسوأ إلى أحين لا يتم إلا عن طريق تغيير الظروف التي تتضمن طريقتنا الخاصة في التعامل مع الشخص الذي نحكم عليه. ولا نحن – بتعبير ديوي- لا يمكننا أن نغير العادة مباشرة؛ إذ أن هذا الاتجاه ضرب من السحر، ولكننا يمكننا أن نغير العادة بطريق غير مباشر بأن نغير من الظروف بحكمة وذكاء باختيار وزن الأشياء التي تسترعي انتباهنا والتي تؤثر في تحقيق رغباتنا.
وهنا يتوقف ديوي مع الماضي، حيث ذهب إلى أنه مهما كان العمل الذي أنجزناه في الماضي فإن هناك دائما مجالا لمزيد من العمل، فنحن نستطيع الاحتفاظ بتراثنا الثقافي ونقله إلى الجيل الجديد بإعادة تشكيل بيئتنا على الدوام. يقول معلقا على ذلك “احترامنا للماضي لا يكون من أجل الماضي لذاته، ولا من أجل الاحترام لذاته، ولكن من أجل حاضر آمن غني بالخبرات يفضي إلى مستقبل أفضل، فالأفراد يختفون من هذه الحياة الدنيا بما لديهم من نصائح ووعظ وزجر ومشاعر وأماني ذاتية، ولكن عاداتهم تبقى؛ لأت تكوين هذه العادات يتضمن الظروف المادية في البيئة. ومثل ذلك يحدث في مناشطنا المختلفة، فقد نرغب في القضاء على الحروب، وقد نرغب في أن يسود العدل ميدان العمال، وأن تتاح فرصة أكبر لتكافؤ الفرص للجميع، ولكن هذه النتائج لن تحقق مهما كانت النصائح الداعية إلى تنقية السرائر أو إلى الاعتدال في معالجة الأمور، أو إلى تنمية روح المحبة والمساواة”46. وهنا نطرح السؤال، فما السبيل إذن لتحقيق ذلك؟
جوابا على السؤال المطروح، يرى ديوي أنه لكي يتحقق ذلك يجب إحداث تغيير في التنظيمات المادية والمؤسسات الاجتماعية، ومعنى هذا أننا يجب أن نؤثر في البيئة لا أن نؤثر في قلوب الناس فحسب. فإذا ما اعتقدن غير ذلك كنا كمن يفترض نمو الأزهار في الصحراء، أو إمكانية تسيير السيارات في الأدغال. وكل من هذين الفرضين يمكن تحقيقه دون احتياج إلى معجزة، وإنما علينا أن نبدأ أولا بإحداث تغيير في الصحراء وفي الأدغال.
وقد خلص ديوي إلى أن العوامل التي تتميز بوضوح بأنها فردية ذاتية تدخل في تكوين العادة. فحب الأزهار قد يكون خطوة المبادأة نحو بناء الخزانات وشق قنوات الري. وإثارة الرغبة وبذل الجهد هما بمثابة التمهيد لتغيير البيئة، فبينما يتضح أن الترغيب والنصح والإرشاد مؤثرات ضعيفة إذا قورنت بالمؤثرات التي تنشأ مباشرة من القوى المادية والعادات الاجتماعية في البيئة إلا أنها هي التي تدفع الأخير للبقاء والاستمرار. والذوق والتقدير وبذل الجهد تنبع دائما من موقف بيئي مادي وتلقى مساندة اجتماعية، وتمثل التحرر من شيء قد تم إنجازه لتكون ذات فائدة في العميات المستقبلية.