خالد العبادي
إن كل مجتمع يحتاج كما تحتج كل ثقافة لخدمات محترفي الثقافة والكتابة والفكر: الكتبة، المتعلمون، الكاتب العربي، الموظف الصيني، الرائي الفيدي، المعلم الهندي، أما ما نشهده اليوم حسب جيرار ليكلريك فهو قطيعة بين الثقافة التقليدية التي يسيطر عليها الدين، والمجتمع الحديث، الدنيوي. أوجدت هذه القطيعة لا نخبة فكرية وثقافية واحدة بل اثنين: واحدة مؤلفة من المتعلم، أو الراهب التقليدي، وأخرى من المثقف الحديث، يقول جيرار ليكلريك “إننا نعاين الآن هذين النمطين من الزعامة الثقافية في كل الحضارات. فالمتعلم – الموظف الصيني- يقابله المثقف. وبمقابل العلماء والقضاء والأئمة والملالي والذين يطلق عليهم الإسلام التقليدي اسم المثقفين. كما يختلف رجال الأدب في اليابان التقليدي عن المثقفين”.
وهنا يرى جيرار ليكلريك هل نحتاج بعد ذلك لنردد أن ولادة المثقفين قد ارتبطت بالحداثة الأوروبية؟ معتبرا أنه بعد حركة الإصلاح والحروب الدينية التي استمرت قرابة قرن من الزمن ظهرت طبقة متعلمة أكثر دنيوية، صحيح أنها انشقت إلى حد بعيد عن صلب رجال الدين، إلا أنها اشتغلت تبعا لمنطق بحث أكثر استقلالية تجاه رقابة الكنيسة، وبرغم الانطلاقة من عالم يسيطر عليه الدين واللاهوت استطاعت هذه الطبقة أن تكون عالما مفهوميا وثقافيا، عالم العلم الحديث. يقول جيرار ليكلريك “من اللافت للنظر أن نشهد تعايش هذين العالمين حتى في أفكار عمالقة الفكر أمثال، غاليله، ديكارت، هويس، باسكال، سبينوزا… بإمكاننا عقليا تقديم فرضية تقول إن دنيوية الفكر الجديد، ودنيوية الثقافة الأوروبية بدءا من القرن السابع عشر قد ارتبطتا بالتعددية الدينية والسياسية والثقافية، وهذا ما كان من نتائج الإصلاح والنهضة والصراع الإيديولوجي الذين تلوا. كانت السيرورة طويلة، بطيئة ومعقدة، ولم تظهر عبارة المثقف إلا في القرن العشرين”.
السؤال المطروح هو هل كان المثقفون هم من أنتج العلمانية؟ هل هم الأصل؟ أم هل هم من مفاعيل العلمانية؟ يجيب جيرار ليكلريك ربما أنه لا حل لهذا السؤال. قائلا “لذلك يكون من الأفضل لنا أن ننكب على التذكير بما كانت عليه العلمانية في أوروبا. إنها تقي بنهاية سيطرة الخطاب الديني وبنهاية احتكار الكنيسة الثقافي على كلية الخطاب. أو الأصح نهاية احتكار كنيسة: الكنيسة الكاثوليكية التي أدخلت منذ ذلك الوقت مضاربة مع مختلف الكنائس البروتستانية”. مؤكدا على العلمنة ترتبط بنهاية كل ما نطلق عليه اسم العالم المسيحي. على أنقاض هذا العالم ولدت أوروبا السياسية والثقافية. تختلف هذه الحضارة الجديدة عن حضارة العالم المسيحي القائمة منذ مدة طويلة بوجود تعددية دينية وبظهور خطابات ثقافية، أظهرت كلها منذ انطلاقتها احترامها لعقائد الكنيسة، ثم راحت تنفصل عنها وتستقل، يرتبط باللاأدرية والإلحاد، وبشكل عام بإيديولوجيات تستقل تماما عن الخطابات الدينية لتشكل مواقع ضدها أحيانا (اليسار الهيجلي، السان- سيمونية، الاشتراكية، الفوضوية، الماركسية والعدمية).
يبدو أن ولادة الإيديولوجيات العلمانية حسب جيرار ليكلريك قد أقامت علاقة وثيقة مع ظهور هذه الجماعات الاجتماعية، أو الثقافة على العموم، والتي نطلق عليها اسم المثقفين، العلمنة بمعنى ما هي انسحاب الدين خارج الدائرة العامة؛ ومجاورتها لقطاع خاص في الحياة الثقافية والسياسية، اصبح الدين شأنا خاصا، يتعلق بالإيمان الفردي، في حين كان سابقا ولآلاف السنين مؤسسة عامة، شأنا يخص الدولة والجامعة والكنيسة، وباختصار كان الدين مرتبطا بالمؤسسة التي اعتبرت ممثلة للجماعة الإنسانية ككل، المقيمة مجتمعة على أرض واحدة والمجتمعة حول عقيدة واحدة. “مع العلمنة ابتدأ فك السحر عن العالم، كما سطع نجم العلوم الدنيوية، وعلمنة الفكر، ونزع القداسة عن الدين، بل عن المجتمع، ترافق ذلك أيضا مع القول بجعل الآراء فردية وحرية، خاصة بعد إعلان الحقوق المدنية أولا في إنجلترا، ثم هولاندا وبعد ذلك في فرنسا.
لقد احتفظ المثقفون في نظر جيرار ليكلريك ببعض الوظائف التي كانت سابقا حكرا على المتعلمين. فهم حراس التقليد والقيم ومؤسسات المجتمع المركزية. إنهم الوسطاء بين الناس وبين المقدس، وهذا ما كان عليه الكاهن فيما سبق، أو الأنبياء والكتبة الدينيون. وكما كان الكهنة سابقا، صار المثقفون غالب الأحيان أساتذة، يحملون إلى الجيل الجديد القيم القديمة المحفوظة بورع بوصفها كنزا. ولكنهم في غالب الأحيان وخلافا للكهنة والمتعلمين فهم يعتبرون من المخالفين، ومن أهل الإبداع والابتكار والتجديد. إنهم يبنون ويعرضون ويوزعون خطابات بديلة مقارنة مع الخطابات الرسمية أو القائمة؛ إنهم يخلقون ديانات مخالفة وإيديولوجيات علمانية، تتسم بالهرطقة مقارنة مع الديانات القائمة ومع العقائد الجماعية التي تتقاسمها غالبية أعضاء المجتمع أو الجماعة أو الحضارة.
إذن يمكن القول حسب جيرار ليكلريك إن المثقفين هم نتاج العلمنة، بمعنى أنهم حملة ومنفذو، وأحيانا مبدعو إيديولوجيات دنيوية تهدف الحلول مكان الديانات القائمة، وبخاصة مكان الديانات الموحى بها والتي يعرفها الغرب منذ قرون. لقد لعبوا دورا انطلق من التفسير التاريخي للتوراة، ليطال النقد الفلسفي للمسيحية، وكان نقدا لاهوتيا وسياسيا في آن واحد. يعتبر المثقفون بمعنى معين، وراثة الطبقة الكهنوتية الدينية. إنما في جزء منها فقط. إذ قامت وظيفة رجل الدين ووكالتهم على حفظ القيم والتقاليد الدينية. أما المثقفون فهم حملة الحداثة المعلمنة، والإيديولوجيات الجديدة الدنيوية والمنتهكة للمحرمات.
لقد كانت العلمنة في أوروبا وليدة تطور ذاتي محلي. كانت القطيعة بين رجال الدين التقليديين والمثقفين الحديثيين قطيعة نسبية، خفف من حدتها طول السيرورة داخل الثقافة الأوروبية التي جعلت الكهنة يطلقون حياة الرهبنة والتحول ليصبحوا المبشرين بالأفكار الجديدة، يقول جيرار ليكلريك “ظهرت المناقشات وكان رجال الدين أول المحركين لها، وقد تناولت التأثيرات في الشأن العام ما أهم بعلمنة الثقافة الأوروبية. ثم قسم هام من الأنتلجنسيا الأوروبية الجديدة، كان مؤلفا من أعضاء سلك الكهنوت، أو من نخبة نشأت في حداثة سنها وسط تربية أشرف عليها كهنة الكنيسة، ولا سيما الكهنة اليسوعيين. ففي أوروبا إذًا، ثم حجة قوية لجعل التعارض بين المثقفين ورجال الدين تعارضا نسبيا، وكذلك بين التقليد الديني وبين رجال الحداثة العلمانية أو الملحدة. لقد ظهر المثقفون حتى في أوسط طبقة رجال الدين. وكان المثقفون حتى في أوسط طبقة رجال الدين. وكان المثقفون الأوائل هم ممن انشق عن رجال الدين، أو من أعضاء الأقليات الدينية والسياسية”.
وسط هذه السيرورة من العلمنة يرى جيرار ليكلريك أنه “يصعب علينا ألا نشير إلى دور هام، بل مركزي لعبته أقلية دينية تتواجد منذ عدة قرون وفي قلب المسيحية بالذات أريد بذلك الإشارة إلى اليهودية. ففي القرن العشرين ضمت الأقلية اليهودية الأوروبية بعض أكثر ممثلي الحداثة شهرة وجذرية، سواء في مجال علوم الطبيعة أو العلوم الإنسانية والفنون. إنهم يتحدرون من إحدى حضارات الشرق الأدنى، وبالتالي فهم ممثلي وشهود أقدم التقاليد الدينية في الغرب، وكان بعضهم في أصل كل هذه التحولات الثقافية التي قلبت أوروبا المعاصرة وخلقت الحداثة الأكثر تقدما”.
أخيرا وليس أخيرا يمكننا التأكيد على الثقافة برزت نتيجة الانسلاخ عن سيطرة الكنيسة للدين في أوروبا، ومن ثم تمكن المثقفون من التفكير بحرية دون خوف من سلطان الكنيسة، وهذا ما أفرز الكثير من الفلاسفة الكبار الذين تركوا لنا فسلفة وفكرا ما يزال حيا إلى اليوم. وتجدر الإشارة هنا إلى أن المشكلة لا تكمن في الدين وإنما تكمن في احتكار الكنيسة له، ولعل الأمر نعيشه نحن المسلمين اليوم؛ من محاولة التيارات المتشددة من تفسير الدين وتأويله بما يخدم أغراضها، إلا أن وجود النخبة المثقفة في العالم العربي والإسلامي لم تقف مكتوفة الأيدي بل حركت أقلامها لتحرير الدين من قبضة المتشددين، واقتراح مناهج جديدة لإنتاج خطاب ديني يساير التحديث ومتطلبات العصر.