ولنا مرجع في “مونديال” قطر

كتب بواسطة سعيد أوعبو

لا يمكن أن تنظر إلى الإبهار العربي إلا في ما تقدمه قطر للعالم باعتبارها نموذجا موفقا بما تترجمه للعالم من خلال هذا النجاح الباهر للتظاهرة الرياضية الأعلى قيمة وجماهيرية ومتابعة وفق ضمير (النحن)، وقد جعلت قطر هاته المسابقة أيضا معبرا ومجسرا ونافذة للإطلال على العالم بصورة أقل ما يقال عنها أنها فريدة، لاسيما أنها فرضت قواعد الثقافة والهوية والدين التي تؤمن بالمشخصات العربية والقومية، ولعل امتداد التميز الرصين للعرب في نسخة قطر يظهر عبر التنظيم المحكم بتفاصيله الصغيرة التي عرفت نوعا من الجدة والحكامة والشمولية بين عديد المجالات التي تعرفت نوعا من التضافر والتلاحم، ومحاولة دمج المشخص العربي في جل التفاصيل المقترنة بالتظاهرة، بدءا بالتميمة والمشاهد الاحتفالية المقترنة بالأصالة القطرية واللغة العربية كخط رسمي للتظاهرة إلى جانب هندسة الملاعب وتسمياتها، وصولا إلى حماية الخصوصية الهوياتيّة المبنيّة على احترام الآخر والإحسان إليه، وتجديد صلة الفرد بغيره، فضلا عن القيم الثقافية التي تعظم الوالدين وتظهر تجذر التّعلق الأبوي بما استقبله الغرب بدهشة ورحابة في نفس الآن، وبالتالي، إعادة فهم الحياة من منطلق المنزلة العظيمة للآباء في الثقافة العربية، ولعل من بين الرسائل التي تعبر عن حجم الاعتزاز بالثقافة العربية من طرف الآخر ما يرتهن بتزين الغربيين للهندام القطري والكساء العربي تحديدا بما له دلالة بالغة على طبيعة دحض المفترض الانتقاصي، والانصهار في الثقافة العربية كرد فعلٍ مباشر عن الأقوال الادعائية والمغرضة بما يعكس سوء التقدير والانطباع القبلي، وتفنيد العجز الحضاري العرب وفق ما تنقله الاستشراقيات بشكل مسيء.

يعزى الفضل لهذه النسخة في إعادة تصدير القيم الدينية الإسلامية ذات الصبغة الإنسانية والكونية، وتعديل النظرة الاستشراقية للغرب جراء ما تصنعه الكتب ذات المخيال الأيديولوجي الذي يبتسر الصورة للشرق باعتباره عدميا رجعيّا يعيش مرحلة تخلف مع التاريخ، والمؤكد أنّ الوجه الإعلامي للدورة أبْطل المعتقدات المبنية على مفترض التفوق، بل إنه أوغل في ترسيخ الكفاءة العربية وقوة التخطيط والتدبير ورفع السقف عاليا على المجتمعات الغربية في محاولة تنظيم الدورة مستقبلا، ونقض الصورة التي أُلصقت في ذهنية الآخر، وإخماد نيران الافتراء على ثقافة ومجتمع الشرق الأوسط.

إن التحضيرات فاقت المتوقع خصوصا في سياق التقارب بين الملاعب والانتقال السلس بين الأركان، وأضحت قطر العربية مرجعا فائقا في التنظيم بشكل طبيعي بعيدا عن التكلف، بل تظل الجودة فعلا مقترنا بالوجود القطري فيما قبل، فيما تعكسه المرافق القطرية المشكلة لهوية البلد ولبنيانه، ولا غرو أن أشكال التحيز منعدمة في الاستقبال والضيافة بين العربيين والغربيين على حد سواء، ولعل هذا الأفق الإنساني العظيم هو نسخة مصغرة من ثقافة العرب في الترحيب والإيمان بأن الاختلاف قيمة كبرى غير معزولة عن الحياة البشرية، وأن هذا الاختلاف مسنود على الثقافة الدينية والهوياتية التي يستحيل أن تُعزل عن طبيعة الفرد، ولا يمكن الحيْد عنها باعتبارها أسّا مركزيّا في بناء المجتمع العربي.

لقد تعددت أفراح المونديال بعدما كان إتمام هذا النجاح بأفضل طريقة ممكنة هو تقدم الفرق العربية في المنافسة، ولعل الوجه المشرف للكرة تقمصته بلدان عربية من قبيل السعودية التي تغلبت على الأرجنتين وقدمت نسخة بديعة لولا عامل الإصابات، وتونس التي قامت بالمثل وهي تتغلب على بطل العالم فرنسا، وأتم المنتخب المغربي رحلة التفوق إثر وصوله إلى الأدوار النهائية عبر الوصول للمربع الذهبي الذي ضمن له استثناء عربيا وإفريقيا متفردا وملهما، في أفق الدفع بالحلم إلى التبلج والتبلور وتحقيق الهدف الأسمى، بما يؤكد من جهة أخرى الجودة العربية في مجالات مختلفة، كانت بالأمس حكرا غربيا محضا، وإعادة ترسيخ المكانة العربية، لاسيما أنّ الأصول التاريخية تحفظ رصانة التفكير والتخطيط العربي في مختلف الميادين، وتحاول التأقلم والإجادة في ميادين أخرى مستحدثة.

مما يثير الانتباه بشكل أكبر ما يتصل تحديدا بالتكاثف العربي المنقطع النظير خلق المغرب في التظاهرة، من خلال ما ينبثق من الشعوب العربية من شتى الأركان وفق رؤية تؤمن بأن العرب من عرق واحد وتجمعهم روابط الدم وأواصر المحبة، بما يعيد صوغ الضمير والروح القوميين اللذين انفجرا في ميادين قطر، وفي ثرى المشرق والمغرب، ناهيك عن الأمة الإسلامية جمعاء في مختلف ربوع العالم، وهذا التعاطف الذي فرخته الرياضة ليس وليد اليوم، بل هو إرث قديم قدم الإنسان، بيد أنه حُرّف من طرف الذين يسيئون فهْم رغبة الشعوب، بما يجسد ويظهر حجم انتظارات الشعوب العربية والمسلمة في التعاضد الاجتماعي، والإيمان بأن الوحدة الرياضية يمكن أن تتنزّل خارج هذا المدار، وتتبلور في ميادين ومجالات مختلفة كفيلة بأن تصنع ثورة في التفكير والمسايرة الحضارية والحداثية، لاسيما أن الفعل الجماعي الوحدوي سيشكل قوى عربية متكاملة بميسرة التفوق والمضي قدما لتزكية هذا التميز والإجادة في البناء والتخطيط والتدبير كما نقلته قطر تماما في نموذج مصغر، والانتقال بصيغة قومية صوب نموذج أكبر يمكن أن يضاهي أو يفوق الإنتاج الغربي في الأداء.

في الأخير، لا يمكن أن تظهر الخصال ومزايا سلوك الفرد العربي إلا في علاقات الشعوب مع بعضها البعض على أرض الواقع، بعيدا عن المفترض الذي يُرسِّب أفكار المضارعة والصراعات في الريادة والدفاع المضاد عن أفكارٍ تضفي نوعا من التنازع المماثل للقبليات في الفضاء الافتراضي، إن كرة القدم أظهرت حجم تماسك المجتمع العربي مقارنة بالمجتمع الغربي في اللحمة والعضد، والواقع أن الرهان هو بناء هاته الرغبة الجامحة بين الشعوب العربية في سياق سياسي وتدبيري بشكل أعمق وأكبر، والرقي بهذا النموذج الأصيل والمرجعي الذي تترجمه قطر إلى مستويات مختلفة ومتعددة، والمعتقد أن تحقق هذا المعطى سيشكل دافعا أكبر للتطور العربي وتشكيل وحدة قومية وفق أبنية كبرى وأخرى صغرى مقترنة بالمجال الجغرافي، وتكريس المحبة، علاوة على وفرة الإنتاج في سياق التبادل الربحي الذي يخدم مصالح الدول والشعوب العربيّة.

أدب قراءات

عن الكاتب

سعيد أوعبو