الشعبوية الافتراضية

كتب بواسطة حواس محمود

يحتاج الواقع الفكري العربي الراهن  الذي أصيب بالجمود والذهول بعد إخفاقات ثورات الربيع العربي  إلى بناء وابتداع مفاهيم ومصطلحات جديدة تواكب المستجدات التقنية والحداثية الجديدة بالترافق مع  ما يحدث في الواقع وحيثيات عمليات التفاعل البشري مع وسائل التقنية الجديدة، ولعل مفهوم أو مصطلح “الشعبوية الافتراضية ” من المفاهيم الجديدة، ونكاد لا نجد لها مرجعا في محركات البحث المعروفة، ولهذا فإن محاولتنا تكتسب أهمية ذي قيمة معرفية ملموسة، عبر عملية الحفر في ماهية العملية التبادلية بين مفهوم سياسي بحت يستخدم في الأدبيات السياسية وهو ” الشعبوية ” ومفهوم أخر” الافتراضية ”  يستخدم على نطاق واسع في مجال التقنيات المعرفية الجديدة من وسائل التواصل الاجتماعي وباقي البرامج الأنترنيتية وما تحمله من معلومات وأفكار ومعارف وصور وأحاديث .. الخ

لنحاول الآن أن نقرب مفهوم الشعبوية إلى ذهن القارئ

يشير الباحث الأمريكي ” مارك فلورباي ” من جامعة برينستون إلى أن الشعبوية هي ” البحث من قبل سياسيين يحظون بكاريزما عن دعم شعبي مباشر في خطاب عام يتحدى المؤسسات التقليدية الديموقراطية “

ولدت الشعبوية في روسيا والولايات المتحدة أواخر القرن التاسع عشر و”الشعبوية ” تعني في الأصل حركة زراعية بإيحاءات اشتراكية لتحرير الفلاحين الروس حوالي العام 1870،  وفي الفترة ذاتها انطلقت حركة احتجاجات في الريف الأمريكي موجهة ضد البنوك وشركات السكك الحديد، وقد اكتسب هذا المصطلح صفات جديدة منتصف القرن العشرين في أمريكا اللاتينية مع الزعيم الأرجنتيني ” خوان بيرون ” والبرازيلي ” غيتوليو فارغاس ” اللذين جسدا حركات شعبية بإيحاءات وطنية واجتماعية في بعض الأحيان، من دون أي إشارة إلى الماركسية ونضال الطبقات أو الأيديولوجية الفاشية .(1)  

 ”  لقد ظهر هذا المصطلح في أمريكا بعد عام 1891 كإشارة إلى حزب الشعب الأمريكي وهو الحزب الذي مر بشكل عابر في الحياة السياسية الأمريكية، وكانت قاعدته الشعبية مكونة بشكل أساسي من المزارعين والفقراء وحمل أفكارا تقدمية ومعادية للنخب، وكما حصل في روسيا أشار المصطلح في سياقه الأمريكي إلى حركة ريفية وذات توجهات معادية للثقافة، وسرعان ما تحول إلى مصطلح ذي معنى سلبي كونه استخدم بشكل أساسي من قبل المعادين لحزب الشعب  ” . (2)

الواقع الافتراضي :

الواقع الافتراضي مصطلح صاغه ” جارون لا نير ” – عالم الكمبيوتر والفنان التشكيلي والمؤلف الموسيقي الأمريكي المولود عام 1960 – لوصف الطريقة التي يشعر بها مستخدمو الكمبيوتر وألعابه وهم يتعايشون، العوالم التي يقوم بها هذا الكمبيوتر ، بتخليقها في أنظمة تمزج بين طرائق التصوير والصوت والأنظمة الحسية المحوسبة ، بحيث يشعر الإنسان هنا كما لو أنه يندمج داخل هذا العالم الذي يجري تمثيله عند كل هذه المستويات الحسية الافتراضية ويتفاعل معه، كما ويمكن اعتبار الأعمال الخاصة بالسينما التجريبية والتسجيلية وأعمال الفيديو المبكرة أيضا التجارب الأولية  التي وضعت الأساس الأول لما يسمى بفنون الواقع الافتراضي الذي أصبح يعتمد إلى حد كبير على تقنيات الكمبيوتر والإنترنت ، ويمزج بين الفن واللعب والسياسة والاقتصاد  وجوانب الحياة الانسانية كافة . (3)  

لعبت وسائل الإعلام الحديثة  دورا كبيرا في  تسطيح  الوعي  ونشر الثقافة المبتذلة ، إذ أن الأمية الابجدية تعززت بثقافة الصورة، إذ لم يعد يشعر الأمي أبجديا بأي خجل أو حرج في مستوى وضعه التعليمي  والثقافي، طالما أن وسائل الإعلام تمده بكم كبير من المعلومات الخبرية والوثائقية والاستهلاكية والترفيهية، وهذا بحد ذاته يساهم في نشر الثقافة الشعبوية، كما أن وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة قد جاءت  لتزيد الطين بلة ، إذ أن برامج  الفيس والتويتر واليوتيوب ساهمت في تسطيح الوعي والانتشار الواسع لثقافة شعبوية تلامس القشور ولا تدخل إلى الجواهر والمضامين ( الكثير من البوستات والتغريدات واليوتيوبيات تحصل على الإعجابات والاشتراكات والتعليقات رغم أنها تتحدث بصورة سطحية ومبتذلة، ذلك أنها لو سلكت الواقعية وتوجهت لنشر الحقائق لابتعد عنها المشتركون  لأن طبيعتهم تميل الى هذا النمط من الكتابة  )،  هذا ما كان له تأثير  في تغييب الأصوات الفكرية والثقافية التي تلعب دوراً في نشر الوعي، فالعدد الكاسح من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي المذكورة ساهم  في إغراق الأفكار والطروحات الواعية في بحر من ظلامات وجهالات الأغلبية الساحقة من مستخدمي هذه الوسائل، وأضحى الكثير من الجهلة أعلاما على هذه الوسائل، لهم معجبوهم وجمهورهم الذي يؤيدهم ويساندهم ويعزز أفكارهم عبر الإعجابات والتعليقات والترميزات، كما أنّ الكثير من أصحاب القلم بدأوا يشعرون بالقلق وعدم الراحة في صعوبة إيصال افكارهم التنويرية والتوعوية الى الوسط الشعبي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهم ازاء ذلك يشعرون أنهم فئة قليلة جداً أمام عدد هائل من أصحاب الأقلام الجدد، ممن طرأوا على الساحة الاعلامية والثقافية بفضل طفرة التقنيات الاعلامية الجديدة وسطوة وسائل التواص الاجتماعي، إذ بات الاهتمام  – في هذا العصر-  منصباً على الخبر السريع والنكتة السخيفة والصورة الفاضحة أو المثيرة .

كل هذه الوسائل التقنية عوضا عن استثمارها تنويريا وتوعويا عبر نشر الأفكار النيرة والطروحات الجميلة، إلا أننا نجدها للأسف  تستغل  لصالح نشر الثقافة الشعبوية، بحيث تبقى الشعوب في حالة من الركود لا بل النكوص التوعوي التاريخي الكبير .

إن الشعبوية الافتراضية تتآزر وتتآلف وتتضامن مع الشعبوية الواقعية عبر عملية التفاعل والتبادل والانعكاس  بين مستخدمي برامج الانترنت والوسائل التقنية بحيث أن  الوعي السطحي الشعبوي الصادر من وسائل التواصل الاجتماعي يؤثر في الجمهور الذي يعيش في الواقع ،  ويعود هذا الوعي ليؤثر من جديد في مستخدمي هذه الوسائل، بحيث تتشكل الدائرة المغلقة، يمكن أن نسميها بدائرة الوعي المغلق، هذه الدائرة تسد وتصد وتمنع التأثيرات الإيجابية التي يحاول بعض المتنورين اختراق هذه الدائرة التي لها مناعتها وجدرانها الحديدية السميكة، بحيث أن طبقة الوعي السميك المغلق تكون قادرة على منع سهام الوعي اللين الناعم المفتوح من اختراق جدران دائرة الوعي المغلق .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش :

  1. فرانس24  ماذا يعني مصطلح الشعبوية 2-12-2016
  2.  ايثيكييل ادموفسكي ” عن معاني الشعبوية واستخدامها  ” الجمهورية نت 8 نوفمبر 2016 .
  3. كتاب الخيال من الكهف الى الواقع الافتراضي  د . شاكر عبد الحميد   اصدار 2018  –  المكتب المصري للمطبوعات للنشر والتوزيع   

ثقافة وفكر

عن الكاتب

حواس محمود