أحمد منصور
يحتل كأس العالم لكرة القدم مكانة مهمة في تعزيز ثقافة التعايش وإيجاد جو من الحب والتسامح وخلق صداقات بين أطياف مختلفة من الشعوب دون تمييز عرقي أو ديني أو ما سوى ذلك. لا يقتصر هذا الملتقى على أربعة وستين مباراة تخاض غمارها في ثمان ملاعب على مدى الشهر، بل يضم بين ثناياه أكثر من مليون مشجع وزائر يحجون من مختلف أنحاء العالم، يختلفون فيما بينهم في التفكير والشعور، والسلوك، والقيم، والمبادئ. وباعتبارها أول بطولة كأس عالم تقام في الشرق الأوسط فإنه من المرجح أن يلحظ الزوار والمشجعون اختلافات في الأعراف الاجتماعية والتقاليد والممارسات الثقافية والدينية عن تلك التي شاهدوها في بعض البطولات السابقة، وهذا ما يضعنا أمام اختبار حقيقي لمبادئ التعايش السلمي العالمي، إلا أن تعزيز هذه الثقافة وتوسيع دائرتها، لا يقع على عاتق البلد المنظم فقط، ولا على الجماهير التي تحج إلى هذا البلد، ولكن على عاتقنا جميعا باعتبارنا مواطنين عالميين ومسهمين في تحديد مفهوم قيمة التعايش.
ومعاني التعايش سامية تدل لغة على الحياة والبقاء في جماعات، وتعني في معجم الوسيط العيش على الألفة والمودة، ومنه إلى السلم والسلام. أما اصطلاحا فيتجسد مفهومه بحسب مجالات الدراسة والدارسين أنفسهم وبحسب المجال، وهو يتراوح بين مفهوم العلاقات الدولية إذ يروم التعايش السلمي إلى استتباب الأمن والسلام بين أنظمة اجتماعية متباينة لها ثقافات وعقائد مخالفة (أو معادية) لبعضها البعض، وحيث تعمل السياسات الخارجية للدول على وضع قوانين وتكييفها والالتزام بها من أجل تحقيق السلام العالمي، وتعتمد هذه الفكرة نبذ الحرب والكراهية باعتبارهما وسيلتين لفض المنازعات الدولية واستثمار سبل التعاون بينها لتحقيق أقصى قدر ممكن من الرفاهية للبشر بغض النظر عن النظم السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الدينية أو الثقافية. أما على مستوى الشعوب داخل الدولة الواحدة، فيعتبر التعايش القيمة الأسمى التي تحمي حقوق كل فرد داخل الجماعة وتضمن لهذه الأخيرة تماسكها، إنه يفيد الإقرار بوجود الآخر والعيش إلى جانبه دون السعي لإلغائه، أو تعنيفه ماديا أو معنويا أو رمزيا لكن ضمن بنود العقد الاجتماعي. ومنه فإن محرك التعايش مثله مثل اللاتعايش لا يرتبط بعلاقة دولة بدولة وإنما بصورة أعمق بعلاقة الشعوب ببعضها البعض وبعلاقة الأفراد ضمن هاته الشعوب.
وتتجسد صورة التعايش في الملتقيات العالمية وأبرزها الملتقيات الرياضية مثل كأس العالم لكرة القدم والألعاب الأولمبية، إلخ. إن استضافة قطر هذه السنة لكأس العالم لكرة القدم فرصة حقيقة لترسيخ مفهوم مبدأ التعايش حيث يسود منطق المشترك الإنساني الذي لا يخضع فقط لهيمنة العولمة. واعتبارا لتاريخ هذه الدولة وقيمها وانفتاحها على العالم الخارجي وشعبها المكرام، فإنه باستطاعتها قيادة وشعبا وتنظيما أن تكون رائدة عالمية ومثالا وقدوة يحتذى بها في تطوير ثقافة التعايش التي لا تقع مسؤوليته على عاتق البلد المنظم فقط، بل من خلال الالتزام والمسؤولية والاحترام.
ويعد التعايش ركيزة أساسية في ديننا الإسلام مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: “ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية”. والتعايش في جميع الديانات والمجتمعات والثقافات ينبذ الشدة والعسر والتعصب والاعتداء على الآخرين. غير أنه يعتمد أسس خاصة من قبيل أن التعايش يخص ما تفرضه المعيشة البحثة بين الناس التي تنطلق من متطلبات طبيعة الحياة البشرية وحاجاتها الفطرية ولا يقتضي الولاء والاعتراف الكامل اللامشروط بالصحة الكاملة لمبادئ وأعراف الآخرين ومعتقداتهم وقيمهم، وهو ما يتم ترجمته بالتنازل عن مبادئ وقيم ومعتقدات الجماعة لصالح جماعة أخرى والتي غالبا ما تكون المحرك لبوصلة العولمة، إنه لا يلغي الاختلاف والفوارق بل يؤسس للعلاقات الإنسانية التي تعتمد هاتين الأخيرتين، فالتأكيد على الخصوصية المحلية لا يلغي مبدأ التعارف والتعاون بين الشعوب، لكنه يؤسس لمبدأ أسمى أساسه التدافع بعيدا عن كل مظاهر الهيمنة والتعصب والانكسار والشعور بالدونية.
ويقتضي مبدأ التعايش ضمن فعاليات كأس العالم لهذه السنة تحقيق مبدأ الضيافة ومروءة الضيوف، لقول حافظ إبراهيم
والضيف أكرمه فإن مبيته حق ولا تك لعنة للنزل
واعلم بأن الضيف مخبر أهله بمبيت ليلته وإن لم يسأل
لكنه لا يقتصر على التفاعل السلمي المتبادل بين قطر باعتبارها الدولة المنظمة وبين الزوار والمشجعين، بل أيضا بين هؤلاء الزوار والمشجعين فيما بينهم باعتبارهم مجموعات ثقافية وعرقية ودينية وسياسية مختلفة. بعبارة أدق، إن صورة التعايش ضمن هذا الملتقى لا تتجسد في علاقة خطية بين طرفين اثنين، ولكن في علاقات شبكية معقدة تخضع لقوانين الغنا والاختلاف الثقافي لسكان هذا العالم. وقد قال سيف الدولة بن حمدان في مثل هذا السياق:
منزلنا رحب لمن زاره … نحن سواء فيه والطارق
وكلّ ما فيه حلال له … إلّا الذي حرّمه الخالق
وتقتضي مبادئ التعايش أيضا إلى اعتماد التواصل البين-الثقافي قاطرة لتسليح المجتمعات بقيم التعايش والتحاور والتسامح وبناء المشترك، حيث ينفتح المرء على الآخر دون الانزواء في قوقعة المركزية الذاتية/ الهوياتية/ الثقافية ودون الاعتداء الرمزي على الآخر، ويطور أفكاره ومهاراته حول العالم نتيجة لهذا الانفتاح والتواصل، ويضع حدودا بين الذات والآخر سواء من داخل الثقافة المحلية أو مع ثقافات أخرى تمكنه من استيعاب عمليات إدراك الأفراد للأحداث والتجارب والمفاهيم والاستجابة لها، حيث أن ” كل الناس سواسية، فقط عاداتهم هي التي تختلف” ( كونفوشيوس). إن هذا النوع من التواصل أساسي في جعل قطر تلعب دور الوسيط الفاعل بين ثقافات الزوار المختلفة الذين يجب عليهم أيضا أن يتحلوا بمبادئ هذا التواصل حتى يحققوا الانسجام بينهم أولا وبين الدولة المستضيفة ثانيا.
ولتنظيم المجالات والمرافق العامة وضعت قطر بعض القوانين التي لا تهم الشأنين الثقافي والديني المحلي فقط، بل أيضا سلامة الزوار وراحتهم من قبيل التدابير الاحترازية لمواجهة تداعيات كوفيد 19، وأولويات الخصوصية، والسلامة البدنية، وواجب الضيافة، واحترام الفضاءات العمومية … إلخ. إنها بذلك تضمن مبدأ التعايش على مستويات مختلفة تشمل أيضا الجوانب القانونية والاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والرقمية المحلية والعالمية. ولا تسعى الجهات المنظمة عبر هذه القوانين إلى التعريف بالقيم والأعراف المحلية، أو فرضها قهرا، ولكن بالتعريف بالمشترك الإنساني واحترام مبادئه. وفي كلمة ألقاها الأمين العام للجنة العليا للمشاريع والإرث، سعادة حسن الذوادي، باللغة الإسبانية في البيت العربي في مدريد في شهر فبراير المنصرم، أكد فيها على إمكانية تحقيق مبادئ التعايش السلمي من خلال الرياضة التي تعتبر منصة حيث يتم طرح مبدأ التعايش السلمي. وقال الذوادي أن “كأس العالم في قطر يمثل فرصة للمنطقة وخاصة للأجيال الشابة التي هي مستقبلنا. في قطر نؤمن بالاحترام المتبادل ومبدأ التعايش السلمي. نحن فسيفساء من الناس من جنسيات ومعتقدات وثقافات مختلفة، نعيش معًا في وئام.” ذلك أن مبادئ التعايش متجذرة في ثقافتنا نحن المسلمون والعرب.