مَنْ أَحْسَنَ الإِنْصَات أَحْسَنَ الفَهْم…
الحلم العربي الذي استيقظ في قطر…
الجزء الأول
في مونديال 1930، لم تحظ المباراة النهائية بين الأورغواي والأرجنتين بأكثر من عمود ينتظم في “عشرين سطرا” ضمن إحدى صفحات الجريدة الإيطالية لا غازيتا ديلو سبورت (La Gazzetta dello Sport) وفق ذكره إدواردو غاليانو (EDUARDO GALEANO) في كتابه عن “كرة القدم في الظل والشمس” (EL FUTBOL, A SOL Y SOMBRA)؛ ذلك أن البلدين اللاتينيين كان يجعلان أوروبا تستشيط غضبا بإظهارهما أين توجد أفضل ممارسة لكرة القدم في العالم(1)… الآن بعد حوالي 100 عام إلا ثمانية، لا شك في أن أخبار المونديال –منذ ما قبل لحظة الافتتاح إلى ما بعد لحظة الاختتام- صارت تحتل واجهاتِ الصفحات الأولى لكبريات الصحف العالمية، وتتصدر نشراتِ الأخبار لأشهر وكالات الأنباء. فهل سيغضب الأوربيون أكثر بعد أن علموا يقينا -حتى وإن أخفوا ذلك مُدَاوَرَةً أو مُكَابَرَةً- أن ثمة مجالا تداوليا عربيا مختلفا للسعادة والاحتفال بالشغف الأكثر انتشارا في العالم، وسياقا مغايرا يمكن أن يكون أكثرَ رائقيةً في “القيمة”، وشائقيةً في “الإقامة”، وفائقيةً في “المقاومة”، مما اعتاد الناس على تكرار مشاهدته في النسخ المسقوفةِ بمظلة “المركزية الغربية”. مونديال 2022 الذي احتضنته قطر كان محفلا مثاليا لكتابة حكايتين: حكاية الحق العربي في الحلم، وحكاية الحق العربي في الاختلاف.
بعد “مونديال قطر” هل ما تزال الأمة العربية في حاجة إلى مصباح سحري أو قمقم سليماني كي تحلم؟ دَعْكَ من الإجابات المتعجِّلة، وتأملْ ما أورده الشاعر مريد البرغوتي في أمثولته الرامزة الغامزة، إذْ أَنْشَد:
“قال المصباحُ السحريُّ للولد الـمُعْدِم:
كذبتْ كلُّ حكاياتِ الأجدادِ عليك،
الأمنيةُ الكبرى ليست في القمقم.
لم تُعْطَ يديْنِ لتفرك مصباحا سحريا وتنام؛
استيقظْ كي تحلم”().
لا شك أن ثمة في كل الأعصار والأمصار من يتربصون الدوائر من أجل إطلاق النار على فكرة الحق العربي في الحلم. وقد شهدنا منذ العام 2010 -تاريخ الإعلان عن فوز قطر بشرف تنظيم بطولة كأس العالم في كرة القدم لسنة 2022- وابلا من الطلقات المصوبة من جهات شتى نحو فكرة الحلم بتنظيم أرفع محفل كروي عالمي على أرض عربية. مع التنبيه إلى أن بعض هذه الجهات قد تجلى بوجه سافر، أما البعض الآخر فظل مستخفيا من وراء ستر رقيق. وصلا بهذا السياق، كتب الدكتور سعيد يقطين في مقالة له بعنوان “مونديال قطر والفرح العربي” ما يلي: “الغربُ عامةً -وأستثني العقلاء فيه- لا يريد أن يرى العربيَّ إلا في مرتبة دون منزلته، وعليه أن يكون خاضعا لمشيئته، مطيعا لأوامره. ومتى حاول العربيُّ أن يثبت حضورَه، عمل [الغربيُّ] كلَّ ما في وسعه لإثبات العكس. كانت العنصريةُ باديةً، والكراهيةُ متفشيةً في الإعلام، والتصرفاتُ المتعجرفةُ طاغيةً(…) ضد كل ما هو عربي”(2).
قبل أن تُوصَمَ الثقافةُ العربية الإسلامية ومجالها التداولي والقيمي -من جراء سوء فهم- ب”الانغلاق” و”رفض الآخر”، أذكر أن العالم الموسوعي المسلم محمدا بن أحمد البيروني كان قد زار الهند -لعلها كانت تمثل الشرق “الغرائبي والمختلف ” عن دار الإسلام- خلال القرن العاشر الميلادي، وبعد أن شاهد الطقوسَ الدينيةَ الهندوسية المحلية هنالك، علَّق قائلا: “إذا كان ما يؤمنون به مختلفا عما نؤمن به، حتى وإن بدا ذلك بغيضا للمسلمين، فليس لدي ما أقوله سوى التالي: إن هذا هو ما يؤمن به الهندوس، وتلك طريقتهم الخاصة في رؤية الأشياء”(3). هذه -لا شك- ومضة مستنيرة من البيروني. بل لعلها من فرائد الومضات النادرة في تاريخ النظر إلى الاختلاف بوصفه “حقا” للآخر، لا بوصفه “وَصْما”.
يعلم كلُّ المنصفين قاصيهم ودانيهم أن حراس الأمل العربي قد قاوموا كل الطلقات بجأْشٍ رَبِيط، مُستصْحِبين المقاومةَ النفسيةَ بفعل ناعم في مضمار كسب رهان الحلم وتجسيده على كل واجهات الإنجاز والفعل والتأثير، وأصروا تحت مظلة الشموخ على الاستماتة في أن يصير الحلم أحلاما. استيقظت الهمةُ القطرية، واستيقظت معها كلُّ الهمم العربية، وتوسع الحلمُ وامتد إلى مساحة كل الخرائط العربية والإسلامية، لا، بل تسرب إلى جل الجغرافيات الواقعة على هوامش “المركزية الغربية”. كما لو أننا صرنا -على وَفْقِ ما ذكره المفكرُ المغربي حسن أوريد- بإزاء “مؤتمر باندونغ” جديد، حيث “اجتمع كل منبوذي النظام العالمي سنة 1955 ممن خذلهم الأقوياء(…) كانوا يريدون فتح كوة [للحلم]”(4). لم يكن هذا الحلمُ الموندياليُّ مجردَ فائضٍ انفعاليّ أو حماسٍ استيهامي، بل طاقةً مُسْتَكِنَّةً في “النحن الجماعية” وروحاً حيةً ساريةً في شريان الانتماء الأوسع إلى أمة تجمع بينها كلُّ ممكناتِ التواشج والتمازج. صار كلُّ عربيٍّ قَطَرِيَّ الهوية والهواء، وصارت قطر –بوصفها واجهة تمثيلية للجغرافيا العربية- مسرحاً مُلهِماً لتَبْرِيزِ الهوية والهواء العربيين. ارتفع منسوب الثقة في الذات وتقديرها بعد الاستيثاق من إمكانية النجاح في التنظيم الأرفع والأروع لمحفل تتباهى باحتضانه الأمم، وتضاعفت هذه الثقة وذاك التقدير بعدما أبلى المنتخب المغربي بلاء بطوليا في مسرح المنافسة على انتزاع اللقب الأسنى، ودُونَهُ احتلالُ الدرجات المتقدمة في سلم ترتيب المنتخبات الرائدة. انقشع الأفق رحيبا بعدما أُزِيحتْ رمزيا ونفسيا غيومٌ دكناء طالما ظلتْ جاثمةً أزمنةً مديدةً وعقوداً عديدةً على أحلامنا ببطانة من ظلام وإعتام… بعد هذه اللحظات المتوهجة، هل يحتاج العربيُّ حين يكون مرفوعَ الهامةِ موفورَ الكرامةِ راسخاً شامخاً إلّا أن تُسْتَنْهَضَ هِمَّتُه، وتُسْتَوْفَزَ عزيمَتُه، وتُسْتَظْهَرَ إرادتُه، كي يكتبَ بحبر الفخر أن الحلمَ العربيَّ قد حَطَّمَ القمقمَ واستيقظَ في قطر…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – إدواردو غاليانو، كرة القدم بين الشمس والظل، ترجمة صالح علماني، منشورات طوى للثقافة والنشر والإعلام، لندن، ط1، 2011، ص86.
2 – مريد البرغوثي، ديوان استيقظ كي تحلم، منشورات رياض الرايس للكتب والنشر، بيروت، ط1، 2018، ص131.
3 – .https://www.alquds.co.uk/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D9%86%D8%AF%D9%8A%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B7%D8%B1%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A
4 – ألبرتو مانغويل،الفضول، ترجمة إبراهيم قعدوني، دار الساقي، بيروت، ط1، 2017، ص225.
5 – /www.//lakome2.com/point-de-vue/291829