شاعت في التّقاليد الثّقافيّة المعاصرة ممارسةٌ تميّز آخر كلّ سنة ميلاديّة، حيث يتهافت النّاس إلى وضع قائمة من العادات والأهداف تسمّى New Year’s resolution ويقرّرون الالتزام بها في السّنة الجديدة حتّى يحسّنوا من حيواتهم ويتخلّوا عن السيّئات التي اعتادوا على اقترافها، وعادةً ما ينتكس معظمهم بمرور بضعة أشهر أو أسابيع أو حتّى أيّام ليعودوا إلى عاداتهم القديمة ويؤجّلوا تغيير حيواتهم إلى السّنة التي تليها. معظم النّاس يعوزهم الجَلد والصّبر على الوفاء بوعودهم تجاه أنفسهم، لذلك نحاول في هذا المقال أن نستأنس ببعض إرشادات الفلسفة الرّواقيّة Stoicism وأن نستعين بها على ضبط النّفس وحثّها على الالتزام بتجويد حياتها، وقد اخترنا النّظر في بعض تعاليم الفيلسوف الرّواقيّ إبكتيتوس1 Epictetus التي بثّها في كتاب «الخطابات»2 واستخلاص بعض الدّروس التي تفيدنا وتشحذ هممنا، وأوّل هذه الدّروس هو ألّا نفصح عن قراراتنا وتطلّعاتنا وألّا نثرثر بخصوص سرائرنا، يقول إبكتيتوس «فليكن الصّمت مهيمنًا، وإذا تحدّثتَ فأوجز مكتفيا بما هو ضروريّ»، إنّ المسارعة في الإفصاح عن برامجنا وكشف خططنا يجعلنا محطّ أنظار الآخرين وموضوعًا لأحكامهم، وتصبح آراؤهم حول مدى التزامنا بخططنا مربكةً لنا، ذلك أنّ نظرة الآخر تصبح آليّة ضغط ذات تأثير سلبيّ، لذلك فإنّ كتمان تطلّعاتنا خيرٌ من إذاعتها وإفشائها.
يقول إبكتيتوس «درّب نفسك على صغائر الأمور، ثمّ تقدّم إلى ما هو أعظم»، كيف يمكن أن نفيد من هذه النّصيحة؟ يوصينا الفيلسوف الرّواقيّ بالإبقاء على قراراتنا بسيطةً وواقعيّةً، وبهذه الطّريقة يكون الالتزام بها أكثر يسرًا، ونكون أكثر قدرةً على الانضباط، حتّى إذا أتممنا ما علينا وأوفينا بصغائر العادات نكون قد تهيّأنا لما هو أعظم وأكثر عسرًا. ذلك أنّه من الضّيم أن يحمّل المرء نفسه ما لا طاقة لها به، وذلك ما يعجّل في الانتكاس ويثبط الهمم ويجعل المرء محبطًا إذا ما عجز عن تحقيق ما طمحت إليه نفسه، لأنّ إحباط المرء يكون على قدر تطلّعاته.
يشدّد إبكتيتوس على أهميّة الرّوتين قائلًا «إذا ما أردت القيام بأمر ما فاجعل منه عادةً». لقد عظّم الرّواقيّون من أهميّة العادات وجعلوها الأعلى في سلّم ممارساتهم العمليّة، كان للإمبراطور ماركوس أوريليوس3 Marcus Aurelius مثلًا طقوس صباحيّة دوّنها في كتاب «التّأمّلات»، تتمثّل في إعداد نفسه لمواجهة يومه بكلّ ما يحمله من شدائد، أمّا سينيكا Seneca فقد تميّز بطقوسه المسائيّة المتمثّلة في التّأمّل. إنّ أهمّ عقبة تحول دون وفائنا بعهودنا هي الفشل في تكوين روتين، أي العجز عن الثّبات والاستمراريّة. لا يمكن تحقيق أيّ شيء دون ثبات، أي دون التّقيّد بإيقاعٍ معيّن، إنّ أوّل طريق الفشل هو السّماح لنفسك بأن تنشز عن هذا الإيقاع الذي رسمته لنفسك. وحتّى تتجنّب النشوز، ينصحنا إبكتيتوس بمراجعة النّفس ومحاسبتها نهاية كلّ يوم إذ يقول «بعد أن تخلد إلى فراشك، لا تجعل النّوم يغلبك حتّى تقف على أعمال يومك كلّها مستخدمًا عقلك الخاص». تمثّل المراجعة الذّاتيّة طريقة مفيدة في تتبّع مدى تقدّمك، فهي تتيح لك التّدقيق في التّفاصيل واكتشاف نقاط وهنك وضعفك، شرط أن تكون نزيهًا وقاسيًا وألّا تسمح بتسلّل المبرّرات والأعذار.
لا سبيل إلى التّخلّص من العادات السيّئة إلّا بالاستعاضة عنها بعادات حسنةٍ، يقول إبكتيتوس «حتّى تبدّد عادةً ما، استبدلها بفعل شيء آخر مكانها». ليس أسهل من تكوين رذيل العادات والسّقوط في شركها حتّى تصير إدمانًا يعسر الفكاك منه، فيخسر المرء وقته وجهده وصحّته في ما لا ينفعه. في معظم الأحيان تكون العادات الرذيلة إجابةً خاطئةً إمّا لضيق يلمّ بالمرء وإمّا لملل يصيبه، إنّ الشّدائد تدفع إلى الملهيات، وكذلك يفعل الضّجر. ترشدنا الحكمة الرّواقيّة إلى تكوين عادات حميدة نواجه من خلالها الفراغ ونتغلّب بها على المحن وتكون بديلا نافعًا.
تثنينا الحكمة الرّواقيّة عن التّعلّق بالأعذار والتّعلّل بها واختلاقها، يقول إبكتيتوس «ثمّة رذيلتان أكثر قتامةً وأشدّ خطورةً من بقيّة الرّذائل: فقدان التّصميم وانعدام ضبط النّفس… ثابِرْ وقَاوِمْ». عندما نكتب نهاية كلّ سنة قائمة قرارات جديدة، فإنّنا نكتب –بشكل سرّي-على قفاها قائمة من الأعذار والتّعلّات التي نستخدمها في حال خذلنا أنفسنا، نحن نمارس خداع الذّات عبر تسويغ الفشل وعقلنته حتّى نتبرّأ من المسؤوليّة ونلعب دور الضّحيّة أو العاجز الذي لا حول له ولا قوّة، والرّواقيّة إنّما تثنينا عن هذه الممارسات وتدعونا إلى التّيقّظ حتّى لا نسقط في التضليل الذّاتي النّاتج عن فقدان التّصميم والمثابرة وحتّى لا نفقد السّيطرة على أنفسنا فنهوي إلى الفوضى ونصبح عبيدًا للأهواء. لا سبيل إلى إنجاز وعودنا إلّا عبر الالتزام الجدّي، كما علينا أن نحذف “الاستسلام” من قاموسنا. وخلال مسيرة الثّبات والإصرار، علينا ألّا ننسى أن نجازي أنفسنا ونكافئها ونزهو بها على قدر مثابرتها، يقول إبكتيتوس «أربّتُ على رأسي قائلًا: أحسنتَ يا إبكتيتوس». حين تكافئ نفسك على سلوك مّا فإنّك تعزّز انتظامه وتقوّي إصرارك على الوفاء بعهودك وتجدّد فيك الحماس والشّغف. إنّ الدّماغ البشريّ نفسه يعمل وفقًا لنظام المكافأة Reward system، وعلى المرء أن يحاكي هذا النّظام ويخلق نظاما خاصا به وأن يكافئ كلّ خطوة إيجابيّة بحسنةٍ على قدر أهميّتها.
تثنينا الحكمة الرّواقيّة أيضًا عن أخذ نظرة الآخرين وأحكامهم عنّا على محمل الجدّ، يقول إبكتيتوس «لا تعوّل أبدًا على استحسان الآخرين لك (…) إنّ إدراكك لجدارتك لا يمكن أن يتأتّى من خارجك، وليس لك أن تجده في علاقاتك الشخصيّة ولا أن تعثر عليه في نظرة الآخرين». إنّ استحسان الآخرين لك أو تأييدهم لخطواتك لا يعني أنّ تخطو على نحوٍ صائبٍ، كما أنّ استقباحهم لأدائك أو ثنيهم لك عن فعلك لا يعني أنّك تسيء الفعل، لا ينبغي لآراء النّاس أن تكون الفيصل في تقييمك لنفسك ولأدائك، لأنّ الآخر مهما كان حسن النّيّة وصادق الرغبة في المساعدة فإنّه يرى المسألة من زاوية أخرى وغير قادر على أن يضع نفسه مكانه أو أن يفهم تطلّعاتك كما تفهمها، لذلك ليس من الحكمة أن تؤثّر أحكام الآخرين على حياتنا بشكل حاسم.
في النهاية، علينا أن نتذكّر أنّ كلّ يوم جديد هو فرصة جديدة للاشتغال على النّفس وتجويد الحياة، ولا ينبغي أن ننتظر مناسبة رأس السّنة كي نجدّد التزاماتنا وعهودنا، يتيح لنا كلّ يوم جديد إمكانيّة الاختيار، إمّا أن نكدح من أجل كسب ذواتنا، وإمّا أن نستسلم لأهوائنا ونصبح عبيدًا للأشياء ولآراء الآخرين. يقول الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي في مقال شهير « كل صباح، حين أصحو مجددًا تحت بساط السماء، أشعر أن اليوم هو رأس السنة بالنسبة لي (…) لهذا السبب، فأنا أكره أعياد رأس السنة التي يتم إسقاطها علينا كاستحقاقات ثابتة، تُحوّل الحياة والخيال البشري إلى موضوع تجاري، له حساب نهائي أنيق، ومبالغ غير مسددة، وميزانية للإدارة الجديدة. هذه الأعياد تُفقدنا استمرارية الحياة والخيال، إذ نبات نعتقد بجدية أن هناك فاصلًا بين السنة والأخرى؛ أن تاريخًا جديدًا يبدأ، فنضع القرارات ونندم على التململ، وهكذا. وهذه هي بعامة مشكلة التواريخ المحددة (…) لهذا السبب أكره رأس السنة، فأنا أريد أن يكون كل يوم رأس السنة بالنسبة لي». 4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- إبكتيتوس (55م-125م أو 130م)، أحد أعلام الفلسفة الرواقيّة الرّومانيّة، جُمعت تعاليمه في كتابين رئيسين: «المخاطبات» (غير مترجم) و«المختصر» الذي نقله د.عادل مصطفى إلى العربيّة.
2- Epictetus, The Discourses as reported by Arrian, translated by W.A.Oldfather, Harvard University Press (1925)
3- ماركوس أوريليوس (121م-180م)، إمبراطور وفيلسوف رومانيّ، جُمعت شذراته وأفكاره التي دوّنها خلال حياته في كتاب «التّأمّلات»، وقد نقله د.عادل مصطفى إلى العربيّة.
4- أنطونيو غرامشي، ” لماذا أكره يوم رأس السنة”، ترجمة دعاء علي، منشور على موقع حبر بتاريخ الثلاثاء 05 كانون الثاني 2016.