شاهدت ليلة الأمس “أطفال السماء” فيلم إيراني أخرجه مجيد مجيدي عام ١٩٩٧م، لقد رشح هذا الفلم لجائزتي كان وأوسكار كأفضل فيلم أجنبي، كما رشح لعدة جوائز أخرى. تثيرني حقًا فكرة رؤية العالم بأعين الأطفال، ولطالما تخيلت في طفولتي أنني البطلة في عالمي الخاص وأعتقد بأن الأمر يشمل مخيلة أغلب الأطفال، ولهذا تأسرني رؤية الأفلام التي تجسد رؤيتي هذه، وتريني العالم بمنظور الأبطال الصغار. يقول عباس كيارستمي في مقالة كتبتها سلمى نبيل: “أحب أن أعمل مع الأطفال، وأستكشف من خلال نظرتهم الحرة -شبه الصوفية- كيف أصبح العالم مقيدًا. الأطفال يمضون في حياتهم دون شعارات، وفي الصباح لا يشعرون بحاجة إلى القهوة لتعلو البشاشة وجوههم”.
يبدأ الفيلم بمشهد إسكافيٍّ يخيط حذاءً مهترئ لونه زهري، أتى به فتى صغير، يحمله في كيس أسود، ويتوجه لإكمال المهام الأخرى الموكلة إليه من قبل والدته، كشراء الخبز والبطاطس. يدين أهل الفتى بالكثير من المال لصاحب محل الخضروات، مما يضطر الطفل من اختيار البطاطس من كومة غير صالحةٍ للأكل، إلا أنه في أثناء انتقائه للبطاطس من الكومة التالفة -الرامزة للفقر- يأتي حمّال أكياس بلاستيكية ويحمل الكيس الذي به حذاء زهراء الزهري -أخت الفتى- دون انتباه، ومن هنا تبدأ مآزقهم الطفولية.
أكثر ما جعل قلبي ينقبض أثناء مشاهدتي للفيلم، هو تجدد ذكرى أحذية وحقائب المدرسة، التي كان يتوجب عليّ استخدامها لأربع أو خمس سنوات متواصلة، أو بالأصح ذكرى الغرز التي كانت تغرز بداية كل سنة، وبين الفصلين، أسفل الحقيبة، وأعلى أحد أحزمة الكتف بالضرورة، وتطلب الحقيبة لتغيير أحد السحابات لسحابٍ لونه بعيد كل البعد عن لون الحقيبة الأصلي، وغسيلي الشهري للحقيبة لتبدو نظيفةً على الأقل مهما كانت مهترئة.
ما زلت أتذكر أول حقيبة مدرسية حملتها، وكيف يمكن للمرء أن ينسى أصوات الضحكات وتعليقات بنات الروضة الساخرة تلك؟ أو يمحوها من ذاكرته، حيث كانت تعليقات من قبيل ” شالة شنطة أولاد هههه” “ليش ما أشترت لش أمش شنطة فلة ولا باربي ولا لولو كاتي”. كانت تلك الحقيبة مهداةً لي من قبل إحدى صديقات والدتي، خاصة وأن دخلنا الرئيسي آن ذاك كان معتمدًا على راتب الضمان الاجتماعي الضئيل. كنت أعلم بأن تلك الحقيبة لم تكن منتقاةً لي، وإنما لابن تلك المرأة، ولعدم إعجابه بها -ربما لأنه لم يكن يحب رجل العنكبوت كثيرًا- تم منحي تلك الحقيبة الحمراء ذات ملصق رجل العنكبوت اللامع التي يمكن رؤيتها من مسافة بعيدة، لتسهل للجميع مهمة إيجادي إن غبت في زحامٍ ما.
أما عن الحذاء، فلطالما كان أكبر من مقاس رجلي بنمرة أو اثنتين -لكي يتسنى لي أن أرتديه لسنتين أو ثلاث سنوات دراسية تالية- كنت أحشوه بالمناديل الورقية ليتناسب مع حجم قدمي، مخلفًا حرارةً وتورمًا في أطراف أصابعي، مما جعل خطواتي صغيرة، حد أنني في حصص الرياضة، كنت أتلقى توبيخًا مستمرًا من المعلمة لعدم إحضاري حذاءً رياضياً، لركضي البطيء إثر ذلك، وبالطبع، كنت لا أتحدث عن الأمر أمام أمي، مخافة أن أزيد عليها عبئًا آخر.
مع الوقت، تعلمت أن أتعامل مع تورم أصابعي بنفسي، فكنت أخلع حذائي أثناء الحصص الدراسية الأخرى لكي تتنفس أصابع رجلي وأتمكن من تسجيل أداء جيد في حصة الرياضة على الأقل.
قد أبدو كمن يبالغ في الوصف، ولكن الخطب كان جللاً لطفلة تشهد تباهي واستعراض الفتيات بأحذيتهن وحقائبهن المنتقاة من “سنتربوينت” -الرائج آن ذاك- قبل الطابور المدرسي وفي الفسحة؛ جعلني أتفادهن على الدوام، خشية أن أحرج بسؤالهن عن المكان الذي أشترت لي أمي منه أدواتي وزيي المدرسي. تلك الأحذية التي جمعتهن كصديقات، وجعلت منهن فتيات مدللات من قبل عوائلهن، رمتني بعيدًا عنهن، كارهةً وضعنا الماليّ، وأبي، حاملةً غضبًا طفوليًا مازال يتقد كلما أتت ذكرى المدرسة، ويذكرني قولي هذا باقتباس حفظته من رواية الأربطة منذ سنة، التي تتمحور حول قصة الأربطة التي جمعت شمل العائلة: “كنت متأكدًا أن ذلك الربط والفك قد قربنا مرةً أخرى، أو ربما قد أخذنا إلى مسافةٍ لم تكن قريبةً هكذا منذ أن ولدا.”، متحسرةً بأن الأربطة المهترئة تلك لم أجدي منها شيئًا سوى الشعور بالعار، وأن شيئًا ما من الطفولة قد فاتني، شيئًا ما قد جعلني أحمل نقصًا دائمًا، ورغبةً لألا أكون في ذاك المحل حيث الرغبات الغير المحققة أبدا.
قد يكون كل ما ذكرته الآن تافهًا، ولكن بالنسبة لطفلة كان ذلك يعني الكثير، وأعود مرةً أخرى لقصة علي وزهراء، حيث يتفقان فيما بينهما على أن يخفيا حقيقة اختفاء الحذاء عن والديهما، ويتعاملان مع المشكلة بنفسهما إلى أن يفرج حال أبيهم، وهم يتفرجون بنظرة حاجة إلى أحذية الأطفال الجديدة في المدرسة، حانيين رؤوسهم على الأرض، إيماءً يشير إلى غياب التوزيع العادل للثروات وتأثيرها على حيوات الأطفال التي تحول حياتهم لحياة كبارٍ ناضجين قبل أن يحين الآوان، صانعةً وجهًا واحدًا لقلة الحيلة والبؤس يكبر معهم، وينهشهم من الداخل دون توقف.