الروائي التركي (أورهان باموق) في روايته (اسمي أحمر) يرصد فن النقش, ويعكس الأجواء العامة التي كان يعيشها النقَّاشون في ظلِّ معاناتهم الطويلة من ظلم النظرة للنقَّاس باعتباره تطاول على مبدع الخلق الله سبحانه وتعالى, فجاءت الأحداث باسترسال طويل عابرة نفوس أولئك النقَّاشين ملقية الضوء على طبيعة فنِّهم الرائع.
(اسمي أحمر) عنوان الرواية الذي يدلًّ على أحد أهم الألوان التي كانت تستخدم في فن النقش في تركيا في تبريز وهرات واسطنبول.. فقد كان يتمُّ تحضيره من الديدان الهنديَّة والأعشاب.. بطريقة يدويَّة متقنة, ليكون سيِّد الألوان عند الرسام نفسه, خاصة وأنه اللون الذي يجول أمام عينيه بشكل كبير, وهو يبدع على ضوء الشمعدان.
الأحمر لون لحالة ما عاشها زوج الخالة لحظة تعرُّضه للقتل: “هوى بالحقَّة البرونزيَّة على رأسي مرَّة أخرى, صار عقلي ورؤيتي وذكرياتي وعيني هي مخاوفي, تداخلت فيما بينها, لم أكن أرى أي لون, وأدركت أن الألوان كلها غدت أحمر, اعتقدت أن دمي حبر أحمر, وما اعتقدته حبراً أحمر في يده هو دمي المتدفِّق دون توقُّف. ” ص254
اللون الأحمر يبرز في الكثير من تفاصيل الرواية: السيف الموضوع على مخمل أحمر, جنود الحامية بألبستهم الحمراء, القفطان الأحمر, الهواء الأحمر, السيف الأحمر, الجسد المغطَّى بقماش أحمر, السجاد الأحمر, ذيل الحصان الأحمر, لون غرفة الخزينة الحمراء… وهذا اللون يكون شبه طاغٍ على امتداد صفحات الرواية, دون الشعور بثقل لفظه, أو غلاظة موقعه.
إن اختيار هذا العنوان هو دليل قاطع على معرفة أهميَّة سرِّ هذا اللون في التشكيل النقشي الذي عانى منه النقَّاشون في اسطنبول, وقد كانت لهم مدرسة خاصة بهم, تميِّزهم عن الإفرنج وغيرهم.
أوَّل ما يلفت النظر هو العناوين: أنا شكورة.. اسمي قرة.. أنا ميِّت.. ينادونني زيتوناً… اسمي إستر..
يأتي الخطاب الفردي لكل شخصيَّة على حدة, في صفحات عدة تتقارب حتى في الطول. الشخصيَّة تعرِّف بنفسها ثم تقصُّ ما يجري معها من أحداث, لتعود مرَّة ثانية فتظهر في صفحات جديدة, بعدما تترك المجال لظهور شخصيات أخرى مواكبة لسيرورة الحدث الذي يربط جميع الشخصيات في حبل واحد متماسك.
كيف يتحدَّث الميِّت, وأي شعور يترجمه, وهو يواجه القاتل, هذا المونولوج الداخلي يرصد الحالة المتصاعدة لكل شخصيَّة عند تعرُّضها لحدث ما, يعكس هذا فنيَّة السرد بلغة شفيفة عالية, كما يعكس الإحساس المرهف الذي يتعامل به (باموق) مع اللغة:
” الآن أنا ميِّت, جثَّة في قعر جب, مضى كثير من الوقت على لفظ نفسي الأخير, وتوقَّف قلبي منذ زمن طويل , ولكن لا أحد يعرف ما جرى لي غير قاتلي السافل..” ص7
وتأني أهميَّة الرواية من كونها تضع القارئ أمام شكوك كثيرة, فكلما تحدَّث أحدهم عن نفسه, شكَّ القارئ بأن المتحدِّث هو القاتل, ولكن, عندما تتقدَّم الأحداث يتبدد ذلك الشك, لكنَّه لا يلبث أن يعود مرَّة أخرى, حيث يقدِّم الكاتب عدداً من الإشارات, تدلُّ على القاتل, وتفضح أفكاره.
ومن أساليب السرد المتبَّعة توجيه الخطاب للمتلقي بشكل مستمرِّ عبر أحداث الرواية, وهي حالة ما جاءت على ما يبدو لتبرير الأخطاء أو لتصويب الفهم, أو للتذكير بالنفس.. (شكورة) تحاول تنويم طفليها بسرد الحكايات الخياليَّة: ” أنتم تعرفون أن الكلمات في الليل تركِّب أجنحة.” ص269
“كما ترون أنني أموت, ولكن لا تخافوا لأنني رسم أيضاً.” ص 183
أي ولع تعكسه الرواية بحب فن النقش؟! أهو ولع بالجمال بحد ذاته, أم وله النقَّاشين أنفسهم, أم عشق كاتب الرواية الذي نقش كلماتها بمثل هذا الجمال, حتى ليحسبه المتلقي أنه أحد فناني النقش الكبار بلا منازع, وإلا ما برع في توصيف الحالات الإبداعيَّة إلى هذا الحد, فقد سارت الأحداث ضمن حالة مميَّزة عبر فن النقش الذي غدا بمثابة الحلم المواكب لكل حدث, قال (قرَّة): “أما أنا فقد جمعت مغامراتنا طوال اليوم في أربعة مواقف, ونقشتها, ورسمتها على صفحات عقلي.”ص 289
إن الوله في حب النقش على صفحات العقل لا بدَّ من أن يجعل كل شيء يتحرَّك جمالاً, ويمسي موضوعاً مميَّزاً للنقش, فعين النقَّاش ترسم الآن بدقَّة متناهية: ” شعرة طويلة من شعر حسنائي شكورة فوق المخدَّة رسمت حرفاً قال لي : “واو”.. ص 326
ويظهر تسامي فن النقش إلى درجة كبيرة في حديث الحصان, ومن هنا يبرز سرُّ العداوة لفن النقش, وما يعانيه الفنانون الكبار أمام المجتمع الجاهل: ” لماذا يرسمنا النقَّاشون من ذاكرتهم؟ على الرغم من أن كل حصان منا خرج من يد المصوِّر الأعظم الله جلَّ جلاله بشكل يختلف عن الآخر, لماذا يتفاخرون برسم آلاف وعشرات آلاف الخيول من ذاكرتهم دون النظر إلينا؟ لأنهم لا يريدون رسم ما يرونه بعيونهم, بل يحاولون رسم العالم الذي يراه الله… والمدعي أن أفضل رسم لحصان هو ذلك الذي يرسمه النقاشون العميان, هو الذي يتسابق مع الله, ويرتكب معصية الخروج عن الدين؟” ص323
أجواء النقش تتضح كلما قلبَّنا صفحات الرواية, فتتشكَّل صورة وافيَّة غاية في الجمال من خلال الفراشي والبرَّايات وحقات الألوان وفناجين القهوة والضوء والقمر وأشعَّة الشمس والمطر والعيون الغارقة في حبِّ النقش, والمحاولات العنيفة ليكون لفن النقش الإسطنبولي مدرسة خاصة به, يتحرر من خلالها, لينزع بنود الطاعة للنقَّاشين الأفرنج.
الحبيبان (خسرو وشيرين) كان لقصتهما خيط مذهَّب, يبرق بين الفينة والأخرى إلى نهاية الرواية فتتشكَّل قصَّة حبّهما من خلال رؤية (شيرين صورة (خسرو) معلَّقة على الشجرة فتقع في غرامه, وعندما يتزوَّجان, يقوم ابن خسرو بقتل والده وأخذ شيرين, إن ذكر هذه القصة بشكل متواتر على صفحات الرواية يدلُّ دلالة واضحة على مدى تأثر الناس بهذه القصةَّ, وعلى أنها راسخة في الأذهان, ومتناقلة أيضاً عبر الأجيال, مثلها مثل قصة ليلى والمجنون, وعبلة وعنترة..
أورهان باموق, يعرف كيف يجمِّل الأحداث حتى في حالات الموت يجعل منها بأسلوبه المميَّز ساحة واسعة لطرائد الجمال, فتبدو الوقائع على الرغم من فظاعتها جميلة جداً, تعكس من خلالها مدى قدرة الكاتب على التلاعب اللفظي والمعنوي, ومدى ما يمتلكه من خيال واسع وقدرة خلاقة وحساسيَّة مفرطة على تحريك الحدث في الاتجاهات الصعبة ووسط حالة من السهل الممتنع.
إلا أن براعة الوصول إلى عمق الإحساس الأنثوي تظهر جليَّة في مجموعة من الصفحات بعنوان (أنا امرأة) فالرجل المدَّاح أتقن لعبة تقليد المرأة شكلاً ومضموناً, فعشق نفسه لكونه امرأة لعدة دقائق فتغلغل في أثوابها الداخليَّة وحشا صدره بأشياء كثيرة ليحسن صنع الثديين, ومرغ وجهه بالحمرة, ولبس الأساور, وتمرَّى بمرآة مصدَّفة الأطراف..
إن هذا التوغُّل في صيد إحساس رجل حُرم من النساء طيلة حياته, ما هو إلا حالة مثلى في تقنيَّة القص الروائي التي يمتلكها (باموق).
قد يذكِّرنا تواتر القصص والحكايات ضمن صفحات الرواية بحكايات (ألف ليلة وليلة), وهذا ما أعطى الرواية شيئاً من التكثيف القصصي في داخلها.
أية فكرة سوداويَّة تعكسها الرواية أمام حالة كانت سائدة لدى الناس, فالنقَّاش الأستاذ لكي يثبت جدارته في فن النقش يجب أن يصاب بالعمى ليرسم من خلال ذاكرته المبدعة, ومن لا يصاب بالعمى, فهو نقَّاش غير جدير بالاحترام, مما يضطر العديد من النقَّاشين إلى إعماء أنفسهم بالمغرز.
كما تكشف الرواية مدى ما تعرَّض له فن النقش من تخريب, وما تعرَّض له الفنانون من تعذيب, والأعظم من ذلك ما نجده من مفاجآت في بيت خزينة السلطان, غنائم الحروب من ذهب وسجاد وآلات حرب وكتب ونقوش وكل ما يخطر على البال, فهذا غنيمة حروب وقتل وتدمير وحرق, هذا ما يعكس أجواء الحياة الفظيعة التي كان يعيشها الناس في تلك الأزمنة, هذا الموروث من الفجائع ما هو إلا موروث ظلم وحقد وجهل.
تمتاز الرواية باعتماد عناوين غريبة تتحدَّث برؤيتها الخاصة, مثل: أنا حصان, أنا شيطان, أنا امرأة, أنا كلب, أنا شجرة, اسمي أحمر:” اللون هو لمس النظر وموسيقى الطرشان وكلمة الظلام, لأنني أسمع كلام الأرواح مثل صفير الريح من كتاب إلى كتاب, ومن شيء إلى شيء… أستطيع القول إن ملامستي تشبه ملامسة الملائكة… كم أنا سعيد لأنني أحمر! داخلي يغلي, أنا قوي, أدرك أنني مميَّز, وأنكم لا تستطيعون مقاومتي.” ص272
تسير الأحداث متأنِّية, ولكنها تتسارع في الصفحات الأخيرة التي بعنوان: (شكورة) وقد انتهت في السطر الأخير بتحذير من الكاتب نفسه, الذي أعطى طفل (شكورة) اسمه, ليقول: “احذروا من تصديق (أورهان) لأنه ليس ثمة كذبة لا يقدم عليها لتكون حكايته جميلة, ونصدِّقها.” ص605