استهلال
يُشكل تاريخ العلم أحد أهم جوانب الذاكرة الجماعية للإنسانية. داخل هذا الصرح الكبير، يُشكِّل تاريخ الطب النفسي جزءًا متواضعًا إلى حدّ ما، وهو أمر لا يُثير الدهشة بالنظر إلى كون الطب النفسي نفسه، كعلم، هو من أصل حديث جدًا. دعونا نذكر أنفسنا بأنه منذ عدة سنوات، عَرف التأريخ النفسي نقطة تحول مهمة. وقد تم التعبير عن هذا التغيير في التوجه، أثناء ندوة عُقدت بجامعة “يال” سنة 1967، خُصِّصت للمشاكل المنهجية في تاريخ الطب النفسي. حيث بدأ اعتقاد في التبلور والتطور، مفاده؛ أنه من أجل كتابة تاريخ الطب النفسي بشكل مُرضٍ، لا يكفي أن تكون طبيبًا نفسيًا ممارسًا ومهتمًا بتاريخ المهنة. أما المرمى من هذا التوجه، فهو ببساطة لفت الانتباه إلى العديد من النِّقاط التاريخية التي يبدو حتى الآن أنها قد أفلتت من اهتمام مؤلفي علم الأمراض النفسي. ومع توسع دوائر الجدال والتحقيق، بدا لكأن هناك منهجيتان تاريخيتان، واحدة للتاريخ النفسي على حدة، والأخرى لجميع أشكال البحث التاريخي المُمكنة.
لقد ازدهرت الأدبيات العلمية حول تاريخ الطب النفسي بشكل كبير خلال عشرين عامًا الماضية. وهي تتعامل مع الطب النفسي في جوانبه النظرية والعلاجية والمؤسساتية السابقة، وأيضا في مجموعة واسعة من الإعدادات الثقافية والجغرافية والزمنية. كما مثّل التّنامي المفاجئ والسريع والواسع للنظرية والممارسة النفسية في سويسرا تحديدا، ظاهرة فريدة للتطور العلمي والطفرة الثقافية. ففي غُضون أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، غزا علم النفس الأفكار والمؤسسات الخاصة بمجالات التعليم والدين والصناعة والقانون والعادات الاجتماعية والطب في بلد سويسرا، مما أسفر عن إدراك متزايد باستمرار لتأثيرات متنوعة تمُس جوانب السلوك الإنساني. إذ لم يؤدي هذا الاختراق العميق والموغل للحياة والثقافة من طرف علم النفس إلى زيادة معرفتنا بالعقل البشري فحسب، بل أدى أيضًا إلى اكتشاف وتحويل الشخصية البشرية نفسها إلى حدّ غير معروف (1). لا سيما وأن العالم الداخلي للإنسان المعاصر هو شديد التّعقد والتّنوع إلى حدّ أن دراسته لا تُمكِّننا من إرواء تام لتعطّش رغبتنا في المزيد من المعرفة عن مكنوناته.
هناك طريقتان أساسيتان على الأقل يُمكن من خلالهما تصور التاريخ الطبي لعلم النفس، بالإضافة إلى تاريخ الفكر بشكل عام. ترتبط الطريقة الأولى بنظرية “الرجال العظماء”. تقول هذه النظرية، أنه تنشأ من وقت لآخر “ذات” عبقرية قوية في الثقافة، فتجلب الأفكار الأصلية بشكل أساسي. ومِثل هذا الإنسان العبقري الذي يسطُع نجمه من بين تُلة من العلماء، يُحقّق اكتشافات عظيمة ويُحدِث ثورة في العلم، ويكون فاتحًا لآفاق معرفية غير منظورة من قبله. كما يبدو أن سيرة “الرجل العبقري” هي أكثر من مجرد مساهمة في تاريخ العلم أو الفن وأكثر من مجرد سرد للنجاح أو الفشل في مهنة الفرد. فبالتوازي مع النضال الشخصي للفرد من أجل العيش، فإنه يدير كفاحه المستمر من أجل تحقيق العمل الذي اختاره. وإذا ما تعذر التوفيق بين هذين المجهودين الرئيسيين وتنسيقهما بشكل متناغم، تنشأ صراعات تنتهي غالبًا بمأساة *. يُقدم “بيير جانيت” (1859-1947) في هذا الصدد مثالًا رائعًا على التناقض الموجود غالبًا في تاريخ الطب النفسي وعلم النفس، بين الأهمية الفعلية لعمل المفكر، والأهمية التي تُمنح لهذا الاسم أو ذاك، بناءً على شهرته ونجاحه (2). أما التصوّر الثانٍي، فهو مستمَد من المفهوم الرومانسي لـ “عبقرية الناس”. إذ ينتج التقدم الفكري والثقافي من وجهة النظر هذه، عن تراكم أفكار واكتشافات آلاف الأشخاص بمرور الوقت، ليحصل التراكم على المستوى الفردي(3).
- نبذة عن شخصية هنري فريديريك إلينيبيرجر
ولد هنري فريديريك إلينيبرجر Henri Frédéric Ellenberger الطبيب النفسي ومؤرخ التحليل النفسي في Nalolo – Barotseland شمال غرب روديسيا عام 1905، وتوفي في مونتريال عام 1993. وهو من أصل سويسري. كان والده “فيكتور إلينبرغر” عالم الطبيعة والأنثروبولوجيا ووالدته هي ابنة القس “كريستول”. أكمل دراسته الطبية في ستراسبورغ بفرنسا، وهناك تعرّف على البحث التاريخي. انتقل إلى باريس للتخصص في الطب النفسي، وبعد أن تعيينه مقيما في الطب النفسي، عمل في مستشفى Sainte – Anne جنبًا إلى جنب مع “هنري آي”. هاجر إلينبيرغر بعدها في عام 1941 إلى سويسرا، وعمل كطبيب نفسي في “مستشفى بريتيناو” في شافهاوزن، وكان جزءا من دائرة “يونغ” في زيورخ، وخلال هذه المدة إلتقى ب”كارل غوستاف يونغ”.

هنري فريديريك إلينبرغر (1905- 1993)
بدأ تحليل التدريب مع “أوسكار فيستر” في سنة 1950، والذي كان يبلغ من العمر حينها سبعة وسبعين عاما. وفي 1952 سافر إلى الولايات المتحدة وتعرّف على “كارل مينينجر”، وعُيّن أستاذا في “مدرسة مينينجر للطب النفسي” في توبيكا (كانساس). واجه آنها عدة مشاكل تتعلق بالهجرة، لينتقل سنة 1959 إلى مونتريال، حيث أصبح أستاذا “لعلم الجريمة” في معهد ألين ميموريال بجامعة “ماكجيل كيبيك”، والتي ستكون آخر أرض تُرحِّب به. وفي سنة 1962 بدأ البحث التاريخي الذي نتج عنه نشر كتاب “اكتشاف اللاوعي: تاريخ وتطور الطب النفسي الديناميكي” الصادر في عام 1970، والذي يعتبر التحفة التي خلدت ذكراه إلى حدود زمننا الحاضر.
- التأريخ النقدي لاكتشاف اللاوعي وسؤال الأصول
اشتهر آلان إلينبيرجر Ellenberger بدراسته المكثفة لتطور الطب النفسي الديناميكي، والتي نُشرت ثمارها في مؤلف ضخم يحمل عنوان: “اكتشاف اللاوعي، تاريخ وتطور الطب النفسي الديناميكي” The Discovery Of The Unconscious, The History And Evolution Of Dynamic Psychiatry، وهو الكتاب الذي يُحلل ويناقش ويُعيد موقعة آثار اكتشاف اللاوعي في سياقها التاريخي، من منظور أوسع من ذلك الذي تمحور حصريًا على شخص “سيغموند فرويد”، الطبيب والعالم المنسوب له ميلاد التحليل النفسي واكتشاف نشاط اللاوعي داخل النفس البشرية. وقد تم نشر تُحفة “إلينيبرجر” في الولايات المُتّحدة بواسطة منشورات كتب أساسية (Basic Books) عام 1970، والتي جاءت كتتويج لعشرين عامًا من البحوث، كما حازت على اعتراف دولي من طرف ثلاث وعشرون بلدًا، مع حفاوة الاستقبال والإطراء من قِبل كوكبة مرموقة تضمّ الأطباء والمؤرخين والنقاد وحتى الفلاسفة. وقد ظهر هذا المؤلف المثير للجدل لأول مرة في فرنسا عام 1974، لكنه قُوبل لبضع سنوات بالتجاهل من طرف المجمّع الفرويدي الفرنسي، حيث تم الحُكم على موقفه – من وجهة نظر المحللين النفسيين – على أنه غير مُوات لفرويد والتحليل النفسي، لأنه كان بمثابة نقطة انطلاق لعدّة جهود بحثية معادية بشكل علني.
لكن على الرغم من أن موقفه كان ينظر إليه على أنه سلبي إلى حدّ كبير، لا سيما في الداوئر الفرويدية، حيث تلقى عمله استقبالا سيئا، إلا أنه ظل باحثًا متفانيًا، مدركًا للمبادئ التأسيسية الأولى للتأريخ النفسي الذي يقف في تناقض ملحوظ مع عبادة الأبطال. فصار هذا العمل مقروءا ومأخوذا به بشكل لافت من قبل المتخصصين في تاريخ حركة التحليل النفسي والطب النفسي عمومًا، وهو ما تشهد عليه إشادة “هنري آي” Henri Ey في مقالة له نشرت في مجلة التطور الطبنفسي L’Évolution psychiatrique. سيعرف هذا المؤلف بعد مرور أربعة سنوات على طبعته الأولى، ترجمة موفقة تنقله إلى اللغة الفرنسية على يد “فيستوير” J. Feisthauer، وفي سنة 1994 – مع فاصل عشرون سنة عن تاريخ الطبعة الأولى – ظهرت نسخة فرنسية أخرى، بتحريض هذه المرة من “إليزابيث رودينسكو” و “أوليفييه بيتورني” تحت عنوان “تاريخ اكتشاف اللاوعي” (4).
على النقيض من التّقليد الشفهي لتاريخ التحليل النفسي وسيرة “إرنست جونز” عن “سيغموند فرويد”، وعلى الرغم من نُدرة التوثيق، استطاع إيلنبيرجر أن يُقدم تاريخًا مُفصلاً للنظريات والممارسات التي استفادت من “إرث العصور القديمة” فيما يتعلق بمكانة القوى النشطة بخفاء في مغارة النفس، والتي من المُمكن اعتبارها نظريا اللاوعي (بحسب وجهة نظره). فلقد بسط في كتابه العُمدة مدخلاً تاريخيًا في “الطب النفسي الديناميكي”، مُتّبعًا عرضًا دقيقًا لمختلف التّوجهات والمدارس النابضة وقتها بتحليلات تطّلِع على ظواهر اللاوعي، مع إنكبابه على مناقشة شخصيات وسَمَتْ مجال علم النفس وفروعه المُحدثَة: مثل “الطبيب فرانز أنطون ميسمير” (المغناطيسية الحيوانية) (5) و”أمبرواز أوغست ليبولت” (التنويم المغناطيسي) (6) و”جان مارتن شاركو” (الهستيريا) (7) و”غوستاف فيشنر” (مبدأ المتعة) و”يُوهان جاكوب باتشوفن” (النظام الأمومي) و”إوغن بلولر” (الفصام و التوحد) و”ريتشارد فون كرافت إيبينج” (الاعتلال النفسي الجنسي) و عالم النفس “بيير جانيت” (الأتمتة النفسية) (8) و”سيغموند فرويد” (مؤسس التحليل النفسي) (9)، و المعالج النفسي “ألفريد أدلر” (رائد علم النفس الفردي) (10) و الطبيب النفسي “كارل غوستاف يونغ” (مُبتدع علم النفس التحليلي) (11). إنه يُحاور بشكل مُلفت شخصية الرُّواد وبيئتهم، ودور بعض المرضى في تطوير الحقل النظري والإكلينيكي لعلوم النفس (12).
يُعتبر “تاريخ اكتشاف اللاوعي” من أهم الكتب الذي يُتذكَّر به إلينبيرجر بشكل أفضل. لقد أصبح عملا كلاسيكيًا بسبب طبيعته الموسوعية. يُعيد فيه هذا الأخير التنقيب بكيفية حفرية في الأصول المبكرة لظهور مفهوم “اللاوعي”، مُشددًا ذات الحين على كونه “قصة مشكلة” (13)، أو دعونا نقل “قصة قصة”، مُبجّلة وينقصها الترتيب الزمني. ولعلّ هذا ما دفعه إلى إجراء بحث تاريخي مُطول، ساعيًا بجُهد وأناة إسناده إلى منهجية صارمة، تُلخصها النقاط الأربع التالية:
- لا تُعتبر أي بيانات مؤكدة أبدًا، حتى أن تمُرّ من عمليات تصفية وغربلة؛
- التحقق من كل شيء، مهما بدى مصادقًا عليه؛
- وضع كل قطعة من البيانات في سياقها التاريخي؛
- التّمييز الدقيق والواضح بين الحقائق وتفسير الحقائق (14).
لذلك، فهو يُراجع التطور البطيء لمفاهيم “الطب النفسي الديناميكي“ بمرور الوقت وتعدُّد البيانات، مستقصيًا مجمل الحقائق الاجتماعية، ومستحضرًا دائمًا الإطار السياسي والثقافي والاجتماعي لوقت ظهورها. كما لم يفته مراجعة الطريقة التي تم بها استخدام “كلمة الديناميكية “ بشكل شائع في الطب النفسي. ليؤكد على أن هذه الكلمة لها معان مختلفة، وبالتالي فهي تؤدي غالبًا إلى بعض الإلتباس (15).
سيُكرّس إلينبيرجر في مؤلفه المذكور، فصلين على وجه الخصوص إلى سياق “التنوير” ثم إلى “الرومانسية”، وأيضا إلى ظهور المذاهب العلمية والاجتماعية والفلسفية الجديدة، لا سيما “تشارلز داروين” و “كارل ماركس”، على خلفية اعتبار أن هذين المذهبين (الداروينية والماركسية) قد مارست تأثيرًا راجحًا وبالغًا على عدة أنساق معرفية” (16). أما بالنسبة لفيلسوف النفس“فريديريك نيتشه”، فإنه يُؤهله لأن يكون “نبي عهد جديد” (17)، ومؤثرا مباشرًا في العمل الفكري لدى كل من “فرويد” و”أدلر” و”يونغ”.
يُؤكد المؤلِّف على أن المنهجية التجريبية في مجال علم النفس، قد ظهرت على أيدي علماء ألمان، وهم: “فيبر“ و“فيشنر“ و“فونت“. وبلا جدال عقيم في هذا الشأن، كان علم النفس بصيغة الغائب في وقتها – أي الرّافض للنزعة الذاتية – يدحض المنهج القديم ويوطّد طريقة بحث ثورية. فقد أمكن، أخيرًا، إنجاز عمل عملي في المختبر، في مجال علم النفس، باعتماد أجهزة قياس ملائمة، بل وأمكن الدّارسين التّوصل إلى قوانين شبيهة بتلك التي كان قد توصل إليها الفيزيائيون والكيميائيون سنوات فيما قبل. في هذا الوقت، كان “فيكتور كوزان“ يُبدي حماسته الشديدة لأعماله الشخصية، ذاكرا ما يلي: “ما الذي قُمنا به حتى الآن؟ لقد نهجنا الطريق الذي يسلُكه الفيزيائي أو الكيميائي، إذ يُحلِّل الواحد منهُما جسمًا مُركبًا ويُعيده إلى عناصره البسيطة: و الفرق الوحيد هو أن الظاهرة التي يُطبّق عليها تحليلنا تُوجد فينا لا خارجا عنّا، ليس هنالك أسرار خفيّة ولا فرضيات، كل ما يتم اعتماده هو التجربة والاستنباط الأكثر فورية”. فطموح عالم النفس، إذن، شبيه بما يتوخاه عالم الاجتماع أو الإثنولوجي والباحث في مجال العلوم الإنسانية عامة: أن تنطبق على أبحاثه معايير العلوم الدقيقة.
إن الغاية إذن، هي جعل “العلوم الإنسانية” شبيهة بعلوم الطبيعة، وقد كان علماء النفس الأوائل شديدي الاعتزاز بكونهم يُحلِّلون الأحاسيس بنفس الطريقة التي كان يُمكن أن ينجزوا بها تحليلا كهربائيا لجسم مركّب قصد عزل عناصره الأساسية. وهكذا فباعتماد مِلماس {مقياس لحساسية اللّمس} تمكن “فيبر”من صياغة قانون (يحمل إسمه) على شكل معادلة جبرية: (S= k log.e)، { = S إحساس. K = ثابت. Log = لوغاريتم. E = مهيج أو مُنبّه} (18). ومعنى هذا القانون، أن الإحساس المستثار يزداد تصاعديًا تبعا للوغاريتم المنبه (أو المهيّج) مضروبا في ثابت معيّن. ونقدا لمنهج الاستبطان الذي اعتمده علم النفس الأدبي. يقول “أوغست كونت” مدافعا عن حصيلة العلم التجريبي وقتها: ليس بإمكان الفرد أن ينقسم إلى شِقّين، أحدهما يُفكر، والآخر ينظر إليه وهو يفكر”. وكثيرًا ما عبّر عن هذا الموقف – الدّاعي إلى تحقق شرط الموضوعية – بصورة ساخرة: “لا يُمكن لشخص أن ينظر من النافذة ويرى نفسه مارّا في الشارع“.
- العبقرية الفرويدية .. تأريخ مقسم بين العبادة والإفتراء
لقد كان محور اهتمام هذا المشروع المُنجز من طرف الطبيب النفسي ومؤرخ التحليل النفسي هنري إلينبيرجر، ينصب على محاولة إثبات أن نظريات “اللاوعي” و”علم النفس الديناميكي” بشكل عام، لم تبدأ مع ” فرويد”. وقد شكلت إعادة النظر في قضية Anna O جزءًا رئيسيًا من مراجعته للتصوير الذي قدمه لفرويد وأيضا عملِه، على الرغم من أن مدى مساهمة بحثه في إحداث تغيير شامل للطريقة التي تم النظر بها إلى القضية، لم يكن رُبما يتوقع صداه في البداية. ومن باب الإشارة المُوضِّحة، لطالما لعب بعض المرضى دورًا أساسيًا في تاريخ الطب النفسي الديناميكي. مِثلما تكشف قِصة الشابة “هيلين بريسويرك”. إذ لا يُمكن فهم أصل التّعاليم النظرية “لكارل غوستاف يونغ”، دون الرجوع إلى التجارب التي أجراها في سنوات دراسته مع “هيلين”، المعروفة باسم “هيلي”، وهي الحالة العيادية التي سبق وأن ذكرها في أطروحته الطبية.
ففي مناقشاته العديدة لقضية “آنا أو” وبعد تعرُّفِه على القصة الحقيقية ل “Ola Andersson”، سينشرها في بحث يحمل عنوان: “Emmy Von N”، مواصلا العمل كمُؤرخ للتحليل النفسي، وعازمًا على إزالة الشُكوك والإغفالات التي تناثرت في تأريخ مقسم في نظره بين العبادة والافتراء (19). يكشف إلينبيرجر في هذا البحث عن ميزتين أساسيتين: الأولى هو موضوع البطل الانفرادي، في مواجهة جيش من الأعداء، يُعاني فرويد مثل “هاملت”، ضربات مصير شنيع، لكنه في النهاية ينتصر عليهم. كما تُضخِّم وتُوسِّع الأسطورة The Development of the Legend التي صمّمها فرويد بشكل كبير نطاق ودور معاداة السامية إلى جانب العَداء من جانب الأوساط الأكاديمية (وما يسمى بالأفكار المُسبقة الفيكتورية) (20). من الجدير بالذكر هنا، ما قدمه عالم النفس الوجودي والفيلسوف “إيريك فروم” في دراسة دقيقة لسيرة سيغموند فرويد، شملت حياته ودوافعه وأفكاره والمناخ الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي عاش فيه (21).
ثانيًا، تتجاهل الأسطورة الفرويدية تمامًا البيئة العِلمية والثقافية التي تطور فيها التحليل النفسي، ومن هذه الفجوة جاء موضوع الأصالة المُطلقة لكُل ما ساهم فيه: بحيث تغدُق على البطل (فرويد) ميزة مُساهمات أسلافه ورفاقه وتلامذته وخصومه ومعاصريه بشكل عام (22). وقد وقف إلينبيرجر على تحديد الطرق التي أثر بها “جي تي فيشنر” – الفيلسوف الصوفي في القرن التاسع عشر ومؤسس علم النفس التجريبي – على فرويد. ففي سياق الاجتهاد والتحقيق، استخدم فرويد أفكار “فيشنر” التخمينية العظيمة ودمجها في الإطار المفاهيمي للتحليل النفسي La psychanalyse. وفي سيرته الذاتية لعام 1925، أعلن في مكان واحد فقط ما يلي: “كنت دائمًا منفتحًا على أفكار “جي تي فيشنر” واتبعت هذا المفكر في العديد من النقاط المهمة”.

تمثال سيجموند فرويد فى منطقة إدارية إسمها لوندون بوروج أوف كامدين
لقد تتبع إيلينبرجر “التقليد الديناميكي” في الطب النفسي العائد إلى “فرانز ميسمير”. وأراد أن يُظهر أن طقوس سَير فرويد كانت مُخطئة: وأن نظرياته لا يُؤلِّف بينها سوى رابط واحد، يتمثل في اتباعه تقليدًا يشمل السّحرة والشامان والاعتراف الكاثوليكي إلى جانب امتصاصه روح الأفكار الأولية لنظرية اللاوعي من عند “آرثر شوبنهاور” و”جوستاف فيشنر”. ومن الأقواس التي يمكن فتحها هنا على هامش قراءتنا للمشروع التأريخي النفسي الذي قدمه إيلينبرجر: أن فكرة اللاشعور لم تكن حقًا جديدة تمامًا في أوربا في بدايات القرن التاسع عشر. وتجدر الإحالة إلى أن الرومانسية في مواجهة عقلانية عصر الأنوار، التي كانت بمثابة أيديولوجيا الثورة الفرنسية، وكردّ فعل ضدّها، نحت إلى إشادة مُنتشية بالعواطف. فالعواطف حسب الرُّومانسيين، هي ما يربط الفرد بالدافع الطبيعي نفسه، وما يجعله في تواصل مع القوى الخفية للأرض. من هذا التصور نبع أبطال جُدد، مصائرهم بأيدي القدر، وجِراح العواطف المتأججة تُثخنهم. فآلام بطل “غوته” الفتى “فيرتر”، والتغنّي بالليل من قبل “نوفاليس”، والألحان الشعبية الكئيبة ل”شوبرت”، كانت وليدة هذه الحركة. وفي المجال الفكري، ظهرت إلى جانب أعمال “هيجل” و”شيلنغ”، فلسفة “شوبنهاور” (23). هذا الأخير، قد سبق التحليل النفسي بفرضية الإرادة اللاشعورية التي تُقابل بشكل أو بآخر الغرائز النفسية التي تحدث عنها فرويد. وهكذا، فالإنسان قد يجهل الدوافع الحقة لأفعاله التي لا تفسّرها إلا فورة غامضة للإرادة، تبقى لا شعورية بالنسبة للفكر، ما دامت تنبع من دوافع مكنونة ومقبورة عن الوعي (24). لم يتجاهل فرويد بالطبع لفت الانتباه إلى الدور المهم لشوبنهاور في بلورة “نظرية الغرائز”، عندما قال بأن هذا الفيلسوف هو الذي ذكّر البشر بأهمية صبواتهم الجنسية المهوّن من شأنها على الدوام (25)، و يُضيف في كتاب آخر، بأن شوبنهاور قد بين للناس منذ أمد طويل إلى أي مدى تُحدد نوازعهم الجنسية نشاطهم وجُهودهم (26).
وإذا ما ألفتنا النظر إلى إسهامات أخرى في هذا الشأن، سنجد الفيلسوف الألماني “كارل غوستاف كاروس” قد استلهم مُبكرا تصور شوبنهاور، إذ كتب في “دروس في الفلسفة” {1831}: “أن اللاشعور هو التعبير الذاتي الذي يدلّ على ما نعرفه موضوعيًا تحت اسم الطبيعة”. وميّز بين لا شعور مطلق، باعتباره منطقة من النفس لا ينفد إليها أي شعاع من الشّعور، وبين لاشعور نِسبي يتشكل من تدنّي بعض العمليات الشعورية، وشابه العاطفة باللاشعور. يقول في هذا النطاق: ” هذا النشيد، هذا البوح الرائع من قبل اللاشعور للشعور، نحن نُسمِّيه عاطفة (27). ينضاف إليه الفيلسوف “إدوارد فون هارتمان”، الذي صاغ تصورًا عن إرادة وفكر لاشعوريين، باعتبارهما مبدأين يعلوان على الشعور، وذلك في كتابه الأساسي “فلسفة اللاشعور” {1869}. فمبدأ اللاشعور، في رأيه، هو الذي يتحكم في ظاهرة الغريزة: الخوف من الموت، الحياء، التقزّز، عاطفة الأمومة، الرغبة العاطفية الجنسية. وعلى اللاشعور تنبني الحساسية والأخلاق والاستيطيقا {علم الجمال، الحس الجمالي}. ويُشدّد على أن الحياة الشعورية بكاملها تبقى تحت تأثير الجانب النفسي اللاشعوري (28). وبكلمة، إن أعمال “فيخنر” و”فوندت” هي أيضا من المصادر الفلسفية التي حدّدت مُسبقًا نشوء مفاهيم التحليل النفسي وتصوراته (29). إن هذا الفحص الذي قدمه إيلينبرجر لأعمال عراب التحليل النفسي ضمن كتابه المائز، يُعد أول توغل كبير في السيرة الذاتية لرجل القرن العشرين –منذ ” دراسة إرنست جونز” (The life and work of Sigmund Freud)؛ ذلكم أنه يرجع له الفضل في فهم السيرة الذاتية لفرويد من خلال وضعه لمعيار إبستيمولوجي – منهجي لا يزال العلماء المعاصرون يحاولون التمسّك والاقتضاء به (30). وربما لا يزال هذا المؤلَّف مرجعًا مفضلا للعديد من الأفكار والتفسيرات الجديدةً المبنية على مجموعة من الأبحاث المجددة التي أجراها مؤلِّفها على مدى سنوات عديدة. خاصة تلك التي تتعلق بتصحيح التّقديرات القديمة لمستوى أصالة فرويد، إلى جانب تشجيعه العلماء على ضرورة التساؤل عن الصلاحية العِلمية للتحليل النفسي الفرويدي (31).

مؤلف إكتشاف اللاوعي، تاريخ وتطور الطب النفسي الديناميكي، الطبعة الإنجليزية (1970)
لم يبتعد إلينبيرجر عن مبحث إخوته،”فرانسوا” و “بول”، كمُتخصّصين في علم الحفريات (الأركيولوجيا). فقد كان هو كذلك يُنقِّب عن الآثار التي يُمكن أن تقوده إلى وضع مسار لنشأة مفهوم “اللاوعي” وربطه بسياقات تاريخية. فتطلبت منه هته الرحلة الطويلة العودة إلى الجُذور، إلى أسلاف بعيدة من العِلاج النفسي، على جانب الشامان والتعويذيون و المعالجين. ففي الواقع، “يعود الاستخدام العلاجي للقوى النفسية اللاواعية إلى فجر التاريخ” (32). علاوة على ذلك،”تكشف بعض المذاهب الطبية أو الفلسفية في الماضي عن نظرة مدهشة، وحدس عميق لبعض البيانات النفسية” (33). لذا، نجده من الناحية النظرية يميل إلى الأخذ بنظرية الطبيب الألماني “فرانز مِيسمر” حول “المغناطيسية الحيوانية“، والتي أعطت في نظره دُفعة حاسمة للسماح بإنشاء “العلاج النفسي الديناميكي”.
يقع “إلينبيرجر” إلى حدّ ما في نفس التقليد الذي عُرفت به “المدرسة التاريخية للحوليات” في فرنسا، فهو يغمُر فرويد على المدى الطويل، ويُسهب في كشف الحُجب عن منابع أفكاره وادعاءاته ونواحله” (34). ربما يكون الفصل المخصص لفرويد هو الأطول. وبتطبيق المنهجية التي حدّدها في البداية، لم يتردّد إيلينبرجر في مهاجمته لأعماله وتبديد ما أسماه “الأسطورة الفرويدية” (35). تؤكد المؤرخة “إليزابيث رودينسكو”، ناشرة أعماله في فرنسا، أن نُقاد التحليل النفسي يختطفون هذا الكتاب، مما يجعل عمله مؤلفا راديكاليًا معاديا بشكل وهجي لفرويد، والذي من الممكن أن يكون أول من استنكر ادعاءاته المزعومة. وفي السبعينيات، كان ببساطة مؤسس التأريخ النقدي بلا مُنازع.
إذا كان الأمر كذلك بالفعل – كما عبّر عنه فيما يتعلق بحجم مصداقية التحليل النفسي – فإنه بالمقابل لم يتم توضيح مشكلة وضعه العِلمي بعد، وتظل حقيقة أن كون فرويد، يُمثل نقطة تحول حاسمة في تاريخ الطب النفسي الديناميكي” (36)، بفضل اختراعه طريقة جديدة للاقتراب من اللاوعي” (37)، والتي تُقدر كحقيقة موضوعية تركت أثرًا غائرًا في تاريخ الطب والتحليل النفسي. غير أن إلينبرجر يظل مُتشككًا على نحو هوسي، فيما يتعلق بـ “التأثير القوي”، الذي مارسه فرويد، ليس فقط على علم النفس والطب النفسي، ولكن على جميع مجالات الثقافة، وهو كما أقرّ ذلك العديد من المُفكرين، تأثير عميق للغاية بحيث يُغير أسلوب حياتنا وطريقة تفكيرنا، بل ويُحدث فجوة غائرة في العقل الإنساني لا يمُكن ردمُها أبدًا (38).

مؤلف إكتشاف اللاوعي، تاريخ وتطور الطب النفسي الديناميكي، الطبعة الفرنسية (1974)
يكشف المؤلِّف أيضا عن الموقف المشتق والمثير للفضول للتحليل النفسي في مجال الطب النفسي أثناء القرن التاسع عشر. إذ كسّر فرويد مع مبدأ العلم الموحد، ليصبح للتحليل النفسي مدرسة، بها مُنظمة، ولها عقيدة. هذا الانفصال عن فكرة العِلم الموحد، يدل على العودة إلى النموذج القديم للطوائف الفلسفية اليُونانية الرومانية (39). وفيما يتعلق ب”ألفريد أدلر” و “كارل يونغ”، يوضح إلينبيرجر أنه خلافًا لشعبية الرأي، لا “أدلر” ولا “يُونغ” يجوز عدّهم كمعارضين للتحليل النفسي، سواء أكانت لهم أفكارهم الخاصة قبل لقائهم بفرويد، أو لأنهم بنوا أنظمة مختلفة تمامًا عن نهجه” (40). إذ رحّب كل منهم وبحماس واضح بالطريقة الجديدة لاستكشاف اللاوعي التي دعا إليها فرويد” (41)، إلا أنهم “لم يقبلوا أبدًا أفكار فرويد حول دور النشاط الجنسي في تشكيل العصاب (42). وعلى فكرة، فإن بالرغم من احتجاج إلينبيرجر في كتابه على ما اعتبره تملقًا ومثالية لفرويد، إلا أنه دافع دائمًا عن فكرة “الطب النفسي الديناميكي” بعيدًا عن “علم النفس التجريبي”.
إن كل هذه التصويبات الممهورة في ثنايا كتاب إلينبيرجر، تنبع من تناقض أعمق وأكثر جوهرية، وهو التناقض بين مناهج “الطب النفسي الديناميكي“ و“علم النفس التجريبي“. بحيث يعتمد العلم الحديث على التجريب والقياس، ليس فقط في الفيزياء، ولكن أيضًا في علم النفس. من هذا المنظور، فإن الطب النفسي الديناميكي مفتوح بلا شك على النقد. فمن قام مثلا بقياس الرغبة الجنسية، قوة الأنا العليا، الأنيما والأنيموس، الظّل، مسار التفرد، المُضاعفة، الشّبحية، لاوعي الآخر (…) الخ؟ إذ لم يتم إثبات وجود هذه الكيانات بحد ذاتها. لكن بالنسبة للأطباء النفسانيين، الذين قضوا كل وقتهم في علاج المرضى سريريًا، فإن هذه المصطلحات لا يمكن اعتبارها إطلاقا مفاهيمًا مجرّدة، لأنها بمثابة حقائق حيّة، وذات وجود ملموس، أكثر من إحصائيات وحسابات الباحثين التجريبيين (43).
- فحوصات نقدية حول مؤلف اكتشاف اللاوعي
لم يفُت على كثير من الباحثين المتخصصين في مجال علم النفس والمحللين النفسانيين والنُّقاد توجيه مُنوعة آراء ووجهات تَقيّيم بخصوص هذا الكتاب، الذي يُؤرخ من نواحي حفرية وتاريخية لمفهوم اللاوعي وميلاد التحليل النفسي، نختزلها بإيجاز شديد في الارتسامات التالية:
نتوقف أولا عند شهادة تحليل في حق إلينبيرجر من قبل الطبيب النفسي “أوسكار فيستر”، يقول فيها: ” أنا المُوقع أدناه، أشهد أن الدكتور هنري إيلنيبرجر، كبير المسؤولين الطبيّين في “ملجأ برايتناو” بمدينة “شافهاوزن” (سويسرا)، المولود في السادس من سبتمبر 1905، قد اتّبع تحليلاً تعليميًا من إثنان مارس 1949 إلى ستة فبراير 1952. كما كان يمتلك بالفعل معرفة جيدة جدًا بالتحليل النفسي الفرويدي، والذي نتج عنه العديد من المنشورات المعترف بها، مع تركيز تحليله بشكل خاص على شخصية فرويد، مرفقًا أبحاثه بتمارين عملية ذات تمكن معرفي و مِهني. لقد عمل الدكتور هـنري إيلينبرجر بمهارة وتفاني كبيرين، مما مكّنني من تقديم أفضل شهادة له. بالإضافة إلى ذلك، تسمح له صفاته الأخلاقية بتوقع أداء تحليلي نفسي ممتاز، بمجرد أن يقوم بتحليل الضبط. لدي حقًا آمال كبيرة في مسيرته المهنية كمُحلل لفرويد ومُنقِّب دقيق في تاريخ علم النفس. (هنالك نسخة من هذه الشهادة مؤرخة في الثالث والعشرون أغسطس 1952، وهي موجودة في كتاب طب القلب) (44).
بالنسبة ل “غاي” فقد دعي الكتاب بأنه “بحث شامل” ووحدة التّخزين التي كانت أكثر شمولاً عن صورة اللاوعي قبل فرويد. مُضيفًا أنه على الرغم من بُعده عن الأناقة واللباقة المطلوبة، وكونه عنيد وغير موثوق به دائمًا في بعض أحكامه السريعة، إلا أنه يظل مصدر غني بالمعلومات (45). أما الطبيب النفسي “أنتوني ستيفنز” فسيستخدم في روايته Jung مفهوم إلينبيرجر عن “المرض الإبداعي”، وهي حالة نادرة تحدث بدايتها عادةً بعد فترة طويلة من العمل الفكري المكثف (46). ويبدو أن مفهوم المرض الإبداعي قد توقعه “نوفاليس”الشاعر والفيلسوف الرومانسي الألماني، في كتابه Fragmente über Ethisches، Philosopbisches und Wissenschaflisches. حيث لاحظ “نوفاليس” أن الأمراض هي بالتأكيد مسألة مهمة للبشرية، لأنها كثيرة جدًا ولأن على الجميع الكفاح ضِدّها. لكننا لا نعرف بشكل كامل فن استخدامها على نحو جيد. ربما تكون هذه المواد والمحفزات الأكثر أهمية لتفكيرنا ونشاطنا (47). سيكتب المؤرخ “بول روبنسون” أن اكتشاف اللاوعي مهّد الطريق لوابل من الانتقادات الموجهة لفرويد، انفجرت بشكل متخم في فترة الثمانينيات (48). وسيصف مؤرخ العلوم “روجر سميث” الكتاب بأنه دراسة تاريخية قابلة للقراءة وإعادة القراءة، حتى تتم غربلة أفكارها على أكمل وجه (49). تدعيما للرأي السابق، اعتبر عالم النفس “لويس بريجر” الكتاب قيّمًا للغاية. وقد عزى الفضل لإلينبيرجر في وضع عمل فرويد داخل السياق الموضوعي الصحيح، بالإضافة إلى توفير مناقشات مُضيئة عن “أدلر” و “يونغ” (50).
يُعلّق كل من الفيلسوف “ميكيل بورش جاكوبسن” وعالم النفس “سونو شامداساني” على الكتاب مُعتبرينه “عملاً ضخمًا”، لم يكن ليلقى كلّ هذا الصدى دون جهد جهيد من قبل صاحبه وتفحُصه الموضوعي لنشوء مفهوم اللاوعي (51). كما سيُوصف المؤلف من قبل عالم النفس “فرانك سولاوي” بأنه عمل مثقف بشكل مثير للإعجاب، وإن كان مثيرًا للجدل أيضًا. وأرجع الفضل لإلينيبرغر في القيام بأكثر من أي باحث آخر في مراجعة حياة فرويد و التشكيك في الادعاءات الكاذبة حول إنجازاته (52). غير بعيد عن هذه الإشادات، وجد المؤرخ “بيتر جاي” كتاب “تاريخ اكتشاف اللاوعي” بأنه عمل ذي فائدة على الرغم من أن كاتبه لم يُبدي أي تعاطف مع فرويد وإسهاماته التي لا يمكن إنكارها بأي شكل من الأشكال (53). أما عالم النفس “هانز آيزنك” فقد دعى تاريخ اكتشاف اللاوعي بالكتاب الكلاسيكي الممتاز، والذي يكشف لنا عن الكثير من الخرافات التي تراكمت حول شخصية فرويد الاستثنائية (54). يراجع أيضا الناقد “فريدريك كروز” كتاب إينبيرجر ويعتبره جزء من مجموعة من الأبحاث التي تُثبت أن فرويد قد ضُلّل بسبب اندفاعه نحو الشهرة البطولية. وبعد قراءة المؤلف من طرف المحلل النفسي “جويل كوفيل” سيصفُه هو الآخر بأنه “مفيد بسبب طبيعته الموسوعية”، لكنه مع ذلك خلُص إلى أنه “ليس له قيمة نقدية كبيرة أو تحليل تاريخي حقيقي” (55)، و قد ذكَّرَ بأسماء كثير من النقاد شكّكوا في مصداقية بعض أحكام إلينبيرجر.
ختم
في النهاية، بوسعنا القول، أن هذا الكتاب يُضيف شيئًا إلى معرفتنا وليس بالبثة واحدًا من تلك الكتابات المتهافتة أو الرديئة إلى حدّ ما، أو تلك التعميمات والتمارين التي يطغى عليها الأدب النفسي ولا تجلب شيئًا، باستثناء بعض الرّضى النرجسي لمؤلفيها. لم يكتب هذا العمل ليقول صاحبه أفكارًا في مئات من الصفحات التي شكّلت هذا الكتاب الضخم المكرس لتاريخ اكتشاف اللاوعي ولتطوير “الطب النفسي الديناميكي”؛ كما جعله إلينبيرجر أمرًا ممكنًا وضروريًا بالرغم من شقاء المهمة. إنها قصة “هبة المعنى”، اقتلعت مَصادِرها من أعماق التاريخ، والتي تعهّد المؤلٍّف أن يصفها لنا بدقة متناهية وتوثيق في غاية الفرادة من أخصائي في “علم الأرشفة”. وإن كُنا لا نوافقه تمامًا في نقده اللاذع للعقل الفرويدي (من الناحية الإبستيمولوجية)، إلا أنه تمتع بسعة إطلاع هائلة وجدّية راسخة، عكست معها جوهر الحياة المهنية الطبية. لقد كان “ميشال فوكو” يتساءل ويُجيب قائلا: “ألا يكمن مستقبل علم النفس في أخذه تناقضاته بعين الاعتبار؟ وقتها لن يكون هنالك علم نفس ممكن إلا من خلال تحليل شروط وجود الإنسان، ومن خلال استعادة ما هو أكثر إنسانية فيه: تاريخُه”. وهذا ما تُترجمه مساعي هذه الورقة بالتفاتتها إلى التأريخ النقدي – الجينيالوجي لمسارت تشكل مفهوم اللاوعي عبر ما قدمه هنري إلينبيرجير من رصد لأشكال وحركات العلوم العقلية والنفسية، وأيضا من خلال عرضها لخطوط تأثير عمله الوازن على تاريخ الطب النفسي، مع استحضار وجيز لأبرز التعليقات التقييمية اللاحقة عن عمله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
Micale, Mark S, and Francoise Dubor.”The Scope of Swiss Psychology: 1957.Beyond the – 1 Unconscious: Essays of Henri F. Ellenberger in the History of Psychiatry, Princeton University Press, 1993,pp.176-91.
* نشير هنا إلى مصير هيرمان رورشاخ Hermann Rorschach (1884-1922)، الذي توفي قبل الأوان، بعد تسعة أشهر من نشر كتابه الأول، “علم النفس التشخيصي”.
2- عندما نشر “بيير جانيت” أطروحته الفلسفية الأثمتة النفسية L’automatisme psychologique في عام 1889، وعندما ظهرت منشوراته الأولى حول “الأفكار الثابتة اللاشعورية” وعلم الأمراض النفسية للعصاب، كان لدى المعاصرين انطباعا بأن نجمًا من الدرجة الأولى قد ارتفع في سماء علم النفس.
3-Freud’s Lecture on Masculine Hysteria (October 15, 1886) : A Critical Study (1968). In Beyond the Unconscious: Essays of Henri F. Ellenberger in the History of Psychiatry, Princeton University Press, 1993,pp.119-136.
4-Roudinesco Élisabeth, « Le club de l’horloge et la psychanalyse : chronique d’un antisémitisme masqué », Les Temps Modernes, 2004/2 (n° 627), p. 242-254. DOI : 10.3917/ltm.627.0242. URL : https://www.cairn.info/revue-les-temps-modernes-2004-2-page-242.htm
Voir aussi : Roudinesco E. présentation. In Henri F Ellenberger, Histoire de la découverte de l’inconscient. 1994. Paris : Fayard.
5- المغناطيسية الحيوانية، كما تُدعى المِسمرّية، نسبة إلى الطبيب الألماني “فرانز ميسمر” Mesmer. وقد أطلق هذا المصطلح في عام 1773. وهي مجموعة من النظريات والممارسات العلاجية القديمة التي نشأت في أواخر الثامن عشر في الغرب. كما كان لها تأثير كبير على تطور الطب، من علم النفس و تخاطر. تعد المغناطيسية الحيوانية ظاهرة اجتماعية حقيقية، وقد كانت موضوعًا للعديد من الخلافات، خاصة في فرنسا مع كلية الطب، التي أدانت هذه الممارسة للأطباء في سنة 1784. هذا لم يمنع المغناطيسية الحيوانية من الاستمرار في الانتشار بأشكال مختلفة، مع استمرار بعض المغنطيسات في إرجاع آثارها إلى سائل ميسمر، والبعض الآخر ينسبها إلى إرادة أو الخيال الممغنط. هذه الأخيرة هي أصل نظريات التنويم المغناطيسي التي طورها أطباء مثل “جيمس بريد” James Braid أو “أمبرواز ليبيلت” Ambroise-Auguste Liébeault . لا يزال آخرون يفسرون الظواهر المغناطيسية من خلال اتصال متميز مع “الأرواح”.
6- تعطى للتنويم المغناطيسي مكانة رائعة نظرا لأهميته في نشأة الطب النفسي الديناميكي، وبخاصة مع مدرسة نانسي (Salpêtrière). أثار “شاركو” مسألة إعادة تأهيل التنويم المغناطيسي رسميًا الشيء الذي ساهم في اكتسابه مكانة علمية. يُوفر التنويم المغناطيسي النموذج الأول للعقل البشري، نموذج الذات المزدوجة: الذات الواعية، لكنها محدودة، وهي الوحيدة التي يُدركها الفرد، وهنالك النفس اللاوعية، التي تعّد أوسع نطاق بكثير من سابقتها، متجاهلة من قبل الوعي، لكنها تتمتع بقدرات الإدراك والخلق الغامض.
Voir : Ellenberger Henri (trad. J. Feisthauer), À la découverte de l’inconscient : histoire de la psychiatrie dynamique, SIMEP éditions, Chap. 3, La première psychiatrie dynamique, 1974, p.145.
7- كانت مدرسة “سالبترير” Salpêtrière في أواخر القرن التاسع عشر منظمة بقوة وترأسها شخصية قوية، المعلم العظيم جان مارتن شاركو (1825-1893) طبيب أعصاب أتى في وقت متأخر من حياته المهنية لدراسة بعض الظواهر العقلية. خلال السنوات 1870 إلى 1893، كان شاركو يعتبر أعظم طبيب أعصاب في عصره. كان الطبيب الاستشاري للملوك والأمراء، وكان المرضى يأتون لرؤيته من “سمرقند” و”جزر الهند الغربية”. لكن المشاهير لم يأتوا إلى شاركو إلا بعد سنوات طويلة من الكدّ الغامض والمتواصل.
Ellenberger Henri, (trad. J. Feisthauer), À la découverte de l’inconscient : histoire de la – 8 psychiatrie dynamique, SIMEP éditions, Chap. 6, Pierre Janet et l’analyse psychologique, 1974, p. 281.
Ellenberger Henri, (trad. J. Feisthauer), À la découverte de l’inconscient : histoire de la -9 psychiatrie dynamique,SIMEP éditions, Chap.7, Sigmund Freud et la psychanalyse, 1974, p.p. 463-465
Ellenberger Henri, op.cit. Chap.8, Alfred Adler et la psychologie individuelle, 1974, p. 471 -10
Ellenberger Henri, op.cit. Chap.9, Carl Gustav Jung et la psychologie analytique,1974, p. 602 -11
12-Ellenberger Henri F, the discovery of the Unconscious: The history and evolution of dynamic Psychiatry, Basic books, 1970, pp. 53.
13-Guy Massicotte, L’histoire problème : la méthode de Lucien Febvre, Saint-Hyacinthe/Paris, Edisem, 1981, p 121.
Ellenberger Henri, op.cit. Chap. 4, Les fondements de la psychiatrie dynamique,1974.-14
Ellenberger henri, op.cit. Chap.5, A l’aube d’une nouvelle psychiatrie dynamique, 1974.-15
Ellenberger Henri, op.cit. Chap.5, A l’aube d’une nouvelle psychiatrie dynamique. 1974.-16
Ellenberger Henri, op.cit. chap. 1, Les ancêtres lointains de la psychothérapie dynamique,-17 1974.p.114.
18- موسوعة الإنسان الحديث وفكره، دار عكاظ، المجلد 2، ص 60.
19- L’histoire d’Anna O. :étude critique avec documents nouveaux. Evolution psychiatrique, 37 (4), 1972, pp. 693-717.
20-Crews, Frederick (1996). “Missing the Point about Freud”. In Keddie, Nikki R. (ed.). Debating Gender, Debating Sexuality. New York: Cambridge University Press. ISBN 0-8147-4655-1.
Voir Aussi : Decline and Fall of the Freudian Empire
21- فروم إيريك “مهمة فرويد” تحليل لشخصيته وتأثيره، ترجمة د طلال عتريسي، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة 2، 2002. راجع: الفصل الأول: حبه للحقيقة وشجاعته، والفصل السادس: إستبداديته، والفصل السابع: فرويد .. مُصلح العالم، والفصل الثامن: الطابع شبه السياسي لحركة التحليل النفسي.
Ellenberger Henri, op.cit. Chap.7, Sigmund Freud et la psychanalyse, 1974, pp. 463-465. -22
23- موسوعة إنسان العصر الحديث وفكره، منشورات عكاظ، المجلد 1، 2016، ص 39.
24- راجع مؤلف “شوبنهاور فيلسوف العبث” كليمان روسّيه، ترجمة مروان بطش، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2015.
25- فرويد سيغموند – إبليس في التحليل النفسي – ترجمة : جورج طرابيشي – دار الطليعة-بيروت ط 3، 1999ص ص. 102-103.
26- فرويد سيغموند – ثلاث مقالات في نظرية الجنسية، ص 32.
27- موسوعة إنسان العصر الحديث وفكره، منشورات عكاظ، المجلد 1، 2016، ص 4.
28- نفس المرجع،ص ص، 39 -40.
29- فاليري ليبن، فرويد فرويد .. التحليل النفسي والفلسفة الغربية المعاصرة، ص 77.
Crews, Frederick (1996). “The Verdict on Freud”. Psychological Science. 7 (https://www.ebsco.com)’s Academic Search Complete.
30-Crews, Frederick (1996). “Missing the Point about Freud”. In Keddie, Nikki R. (ed.). Debating Gender, Debating Sexuality. New York
Ellenberger Henri, Préface pour l’édition française.1974.-31
32- Ellenberger Henri, op.cit. chap. 1, Les ancêtres lointains de la psychothérapie dynamique,1974 32- , p. 114.
34-Antoine Artus, Elisabeth Roudinesco, (Entretien) : « Révisionnistes » et « comportementalistes » contre la psychanalyse : le bio-pouvoir à l’œuvre. À propos de Pourquoi tant de haine? (Navarin, 2005) in Critique communiste, 178, décembre 2005, (http://www.oedipe.org/fr/actualites/critique%20communiste)
Ellenberger Henri, op.cit. Chap.7, Sigmund Freud et la psychanalyse,1974, p. 464.-35
Ellenberger Henri, op.cit. Chap.7, Sigmund Freud et la psychanalyse.1974.-36
Ellenberger Henri, op.cit. Chap.7, Sigmund Freud et la psychanalyse,1974, p. 465.-37
Ellenberger Henri, op.cit. Chap.7, Sigmund Freud et la psychanalyse,1974, p. 463.- 38
39-Mark S. Micale، Beyond the Unconscious: Essays of Henri F. Ellenberger in the History of Psychiatry ، Princeton University Press،1993، 416.
Ellenberger Henri, op.cit. Chap.8, Alfred Adler et la psychologie individuelle,1974, p. 471.-40
Ellenberger Henri, op.cit. Chap.9, Carl Gustav Jung et la psychologie analytique,1974, p. 602.-41
Ellenberger Henri, op.cit. Chap.8, Alfred Adler et la psychologie individuelle,1974, p. 471.-42
Ellenberger Henri, op.cit. Chap.11, Conclusion,1974, p. 731-732.-43
Ellenberger Henri ، Médecine de cœur ، Paris، Fayard، 1995.-44
Gay, Peter. Freud: A Life for Our Time. London: Papermac. 1995, p. 754.-45
46-Stevens, Anthony (1991). On Jung (https://archive.org/details/onjung00stev). London: Penguin books. 1991, pp. 178, 267.
The Concept of « Maladie Créatrice »,1964,pp.328-340.-47
Robinson, Paul .Freud and His Critics. Berkeley: University of California Press. 1993, p. 2.-48
49- Smith, Roger .The Norton History of the Human Sciences (https://archive.org/details/isbn_9780393317336) . New York: W. W. Norton & Company. 1997, p. 988.
50-Breger, Louis .Freud: Darkness in the Midst of Vision (https://archive.org/details/freuddar ((2000) p. 384.
51-Borch-Jacobsen, Mikkel; Shamdasani, Sonu .The Freud Files: An Inquiry into the History of Psychoanalysis. Cambridge: Cambridge University Press. 2012, p. 19.
52-Sulloway, Frank J. Freud, Biologist of the Mind: Beyond the Psychoanalytic Legend. New York: Burnett Books. Sulloway 1979, pp. 5–6.
53-Gay, Peter .The Bourgeois Experience Victoria to Freud. Volume II: The Tender Passion. New York: Oxford University Press. 1986, p. 459.
54-Eysenck, Hans.Decline and Fall of the Freudian Empire. Harmondsworth: Penguin Books. 1986, p. 213.
55-Kovel, Joel .A Complete Guide to Therapy: From Psychoanalysis to Behaviour Modification. London: Penguin Books. 1991, p. 349.