دانييل كوهين: “لا يمكن للأفراد تكوين مجتمع بمفردهم”*

كتب بواسطة Anna Bonalume

التعليم، العمل عن بُعد، مواقع المواعدة، الأحزاب السياسية والمعتقدات … دانييل كوهين يفك شيفرة مجتمعنا الرقمي في كتابه الأخير

المُحاور: Anna Bonalume

ترجمة: دينا البرديني

عالم الاقتصاد دانييل كوهين /  Daniel Cohenهو مدير قسم الاقتصاد في جامعة École Normale Supérieure  /إيكول نورمال سوبريور في ليون وعضو مؤسس في مدرسة باريس للاقتصاد و هو حائز على جائزة كتاب الاقتصاد. يأتي كتابه  الإنسان الرقمي. ” الحضارة” القادمة Homo numericus. The coming “civilization”  بعد عشر سنوات من نشره كتاب الإنسان الاقتصادي Homo Economicus.1  يقدم لنا كوهين، من منظور اجتماعي واقتصادي، تحليلاً رائعاً لتناقضات وتطورات المجتمع الرقمي.

 Le Point: الحب .. نجده الآن على Tinder، العمل المكتبي.. يتم انجازه عن بعد، التوظيف.. يتم عن طريق الخوارزميات، التنافس بين الأحزاب السياسية.. يدور الآن على Twitter. هل ما زلنا بحاجة إلى الالتقاء وجهاً لوجه  لتكوين المجتمع أم أن الإنسان الرقمي، كما تسميه أنت، قد حرر نفسه نهائياً من الجسد؟

إن ما تهدف إليه الثورة الرقمية حقاً هو توفير الوقت الذي يُهدر في اللقاءات الشخصية، لزيادة الإنتاجية في إدارة الكيانات المختلفة. لم نعد مضطرين للقاء وجهًا لوجه وذلك بفضل أدوات مثل Zoom و Teams و Skype. فعلى سبيل المثال، تمكننا تلك التقنيات من الاستغناء عن زيارة الطبيب. العمل عن بُعد هو الإرث غير المتوقع لـ Covid.

ومن المدهش أيضًا أن نلاحظ هذه المصادفة: أن تؤدي جائحة  إلى طموح لم تعرفه البشرية مسبقاً… إنها علامة على أن عقولنا كانت بالفعل مستعدة للحياة عن بُعد. أتاح Covid فهم الهدف من الاقتصاد الرقمي. يتم عمل كل شيء لتقليل الوقت المُهدر في الالتقاء ببعضنا البعض. يتعلق الأمر بإيجاد الكفاءات في اقتصاد الخدمة الذي نعيش فيه الآن.

أنت أعطيت مثالاً عن Tinder

مثال Tinder لافت للنظر، فهو آلية تقلل الوقت اللازم لإقامة علاقة رومانسية إلى أدنى حد ممكن. على حد تعبير إيفا إيلوز Eva Illouz،2 يأتي Tinder في الوقت المناسب تماماً للعالم الصناعي الذي أصبح يلعن العلاقات الرومانسية! كان الغرض الأساسي من  Tinder أن يكون أداة للتحرر، تسمح بعقد لقاءات غير قاصرة على الإطار الضيق للعلاقات الاجتماعية المعتادة.

في الأصل، وهذا هو التناقض الكبير للثورة الرقمية، هي أداة للتحرر. ولكن بسبب الآليات التي توجدها تلك الثورة، نجدنا نتحرك – وبدون أي مقاومة – من الجودة إلى الكم. نظراً لقلة تكلفة العلاقات الشخصية، فإنها تتكاثر، ويصبح Tinder مساوياً في عمله لعمل خطوط التجميع لإنتاج العلاقات العاطفية. يصبح الأشخاص الذين تقابلهم مجرد أرقام في سلسلة أنت في داخلها تفكر في اللقاء التالي، بعد أن تكون قد استهلكت واحداً … لم يعد الأمر متعلقاً بالحب، إنه إنتاج ضخم.

مثال آخر يوضح خيبات الأمل في الإنترنت. نجده في كتاب La Fabrique du crétin digital  ، حيث يعطي المؤلف ميشيل ديسميورجيه Michel Desmurget مثالًا لمعلم صيني يصور الدرس الذي يعطيه لطفل، ثم يستخدم الفيديو الخاص به لطلابه الآخرين. ولكن لا يفلح الأمر. إذ لا يتذكر الطلاب الذين شاهدوا الفيديو أي شيء. يتواصل البشر، أطفال كانوا أم كبار، باستخدام كامل أجسادهم، عن الطريق الرمش، الابتسام أو التنهد. الطفل الذي يرسل مثل هذه الإشارات يفهم من فوره الفارق بين الإنسان والفيديو. حينما لا يجد أمامه تفاعل، فهو يفقد اهتمامه بالمعلم، وبالتالي لا يتعلم أي شيء.

هل يصنع المجتمع من الإنسان -الذي كان ليصبح شخصاً متعاوناً بشكل تلقائي- شخصا تنافسياً، أم أن العكس هو الصحيح، كما يقول هوبز3 Hobbes : الأنسان للأنسان ذئب يجعله المجتمع مسالماً؟

لا وجود للإنسان إلا من خلال المجتمع. شخصياتنا تتشكل من خلال نظرة أبوينا لنا، الحب الذي يمنحوننا إياه، ثم نظرة أصدقاء الدراسة، والمكان الذي نشغله في مجتمع الناضجين. فكرة أن المجتمع يمكن اختزاله في مجموعة من الأشخاص، كما تقول السيدة  مارجريت تاتشر : “المجتمع غير موجود”، فكرة سخيفة . مشكلة المجتمع الرقمي، إن كنا سنسميه كذلك، أنه مستوحى من تلك المقولة. فوراً يتنافس الأفراد مع بعضهم البعض لتُسمع أصواتهم. يشير ما يسمى ب “اقتصاد االانتباه” إلى هذا التنافس حيث يتعين على الجميع التحدث بصوت أعلى من الآخرين كي يتم سماعهم. لا يمكنك أن تُعرّف نفسك على الانترنت قائلاً “مرحباً، أنا دانييل، أعتقد أن الطقس لطيف هذا الصباح…” يجب أن يكون لك صوتاً لكي يتم سماعك، قُل على سبيل المثال “مرحباُ، أنا دانييل وأنا أكرهكم جميعاً”. عالم الانترنت ينتمي إلى مقولة هوبز: كل مستخدم للإنترنت يصبح ذئباً للآخر. ما نُعيد اكتشافه هنا هو حقيقة عدم قدرة الأفراد على تكوين مجتمع بمفردهم. نحن بحاجة إلى كيانات وسيطة، مؤسسات تمنح الناس.

لماذا وُجدت المعتقدات؟ وكيف تطورت؟

في المجتمع الرقمي، تصبح المعلومات سلعة استهلاكية. نحن لا نبحث عن “معلومات” بالمعنى المعتاد للمصطلح، بالتحديد البيانات الموضوعية التي تسمح لك بالعثورعلى طريقك حول العالم، ولكن عن المعتقدات التي تبني عالماً وفق رغباتك. نحن نخلق أفكاراً مثلما نصنع رسماً، بألوان من اختيارنا، بدون انسجام مع الواقع. ولعل المثال الذي يسوقه لنا عالم الاقتصاد  جورج لوينستيان George Lowenstein من الأمثلة المعبرة للغاية. فهو يشير إلى أنه يمكن للمرء أن يلعب اليانصيب وأن يشتري بوالص التأمين في الوقت ذاته حينما لا يكون ذلك ممكناً بشكل منطقي: إذ إما أن يكون لديك ميل للمخاطرة ولعب اليانصيب، أو أن تكون ممن يخافون ويريدون كل شئ مضموناً. في الممارسة العملية، بالطبع، كثير من الناس يفعلون الأمرين في نفس الوقت. فهم يريدون أن يحلموا بتذكرة اليانصيب وأن يشعروا بالحماية من خلال سياسات التأمين. كل منا يشكل عالم الأحلام الخاص به وفق رغباته.

هذا هو حال الإنترنت: القدرة على تشكيل معتقدات تناسبك. هل تعتقد أن حرب أوكرانيا قد بدأت لخدمة مصالح شركات النفط؟ ستجد الآلاف على شبكة الإنترنت ممن يشاركونك ذلك المعتقد. نحن نعيش هناك في مجتمعات خيالية تماماً، مناهضة للتطعيم،

موالية لروسيا، معادية لروسيا. ومع ذلك، هناك لحظة نرى فيها الواقع بثمن باهظ.  ويعد الاحتباس الحراري مثال على ذلك للأسف. لقد مر أكثر من ثلاثين عاماً على توقيع بروتوكول كيوتو. ولكن التهديد المناخي لم يُظهر نفسه من خلال الإنترنت. ولكن بسبب أن فصل الصيف تتزايد حرارته أكثر فأكثر ومن ثم تتضاعف الأعاصير، فأجبرنا الواقع على سماعه والتفاعل معه.

تقول في كتابك أن مجتمعنا الرقمي  يتمخض عنه مجتمعاً أفقياً وعلمانياً من خلال مخاض عسير ومؤلم، لماذا؟

أحاول، على الرغم من وجود جوانب سلبية، أن أشير إلى ما يبحث عنه المجتمع الرقمي من منظور إيجابي. أعتقد أنه يمكن إيجاد أصوله الفلسفية في الثقافة المضادة الخاصة بحقبة السيتينيات. فالترتيب الإلزامي في الجامعات، الأبوي في العائلات، والرأسي في المصانع يواجه تحدياً قاسياً من قِبل الشباب الذي لم يعد يدعم تلك المنظومات. إذاً فالمطلوب هو مجتمع أفقي وعلماني في آن. كان المجتمع الصناعي نفسه علمانياً، رأسياً، قد ورث مجتمعات زراعية رأسية متدينة. علينا العودة إلى المجتمعات القائمة على الصيد والجمع لإيجاد – داخل البعض منها –  نماذج للأفقية، وإن غذتها الخرافات. إنه عالم جديد تماماً ذلك الذي يبحث عن نفسه اليوم، ويحقق في وقت واحد شرطىّ العلمانية والأفقية. أراد رواد الثورة الرقمية إعطاء المجتمع الوسائل اللازمة لتحقيق هذا الطموح، حيث تستحق كل كلمة أن تُسمع، بدون الحقيقة التي تم الكشف عنها أعلاه. سيقول المشككون إن هذا غير ممكن.

ومع ذلك، توجد أمثلة. في مجتمعات العلماء، يمكن للشباب تحدي أساتذتهم وتحدي سلطتهم. كل الكلام مشروع، ولكن بشرط، أن يكون باسم العلم. تُخضِع القواعد الأكاديمية الصارمة تعليقات الجميع لشرط أساسي، وهو النقاش الفلسفي أو البروتوكولات العلمية. هذا هو القيد المفقود على الشبكات الاجتماعية. كانت الثقافة المضادة في الستينيات ملوَّثة بطريقة ما بفكر السيدة مارجيت تاتشر. لقد ورثوا الوهم بوجود عالم قائم بذاته، بدون كيانات وسيطة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 * رابط الموضوع الأصلي في مجلة Le Point: https://www.lepoint.fr/postillon/daniel-cohen-les-individus-ne-peuvent-pas-faire-societe-tout-seuls-22-10-2022-2494857_3961.php

1- إن مصطلح الإنسان الاقتصادي أو الرجل الاقتصادي هو مصطلح يصور البشر على أنهم وكلاء عقلانيون بشكل متواصل، ذوو اهتمام ذاتي ضيق، ويسعون إلى تحقيق أهدافهم المحددة على أساس المصلحة الذاتية بالصورة الأمثل. مصطلح الإنسان الاقتصادي تحوير لمصطلح الإنسان العاقل، ويُستخدم في بعض النظريات الاقتصادية وفي التربية.

2- إيفا إيلو: أستاذ علم الاجتماع في الجامعة العبرية في القدس ومدرسة الدراسات المتقدمة في العلوم الاجتماعية في باريس.

3- هوبز: فيلسوف انجليزي ومؤلف كتاب Leviathan  الذي يعد كتابًا رائعًا في الفلسفة السياسية لسبب واحد بسيط: لقد أسست نظريات هوبز أنظمتنا السياسية الأكثر حداثة. يؤرخ كتاب ليفياثان مغامرات السياسة الحديثة من الدولة البدائية للإنسان، والتي وصفها هوبز بأنها حالة “حرب الكل ضد الجميع”، حتى تأسيس المجتمع المدني. ومن هذه الفرضية ، “الإنسان ذئب للإنسان” ، يبني هوبز نظريته.

 4- اقْتِصَادُ الِانْتِبَاهِ هو نهج في إدارة المعلومات يعامل فيه انتباه الإنسان وكأنه سلعة نادرة، ويطبق النظرية الاقتصادية في حل مختلف مشكلات إدارة المعلومات. كما صاغها بساطة  ماثيو كروفورد، «الانتباه مورد— للفرد كمية محدودة منه.»

ترجمات قراءات

عن الكاتب

Anna Bonalume