مرحلة التغيير .. السَّيْر نحو الإصلاح

لقد أثبت هذا الحراك المدني والحضاري الذي حصل على وعي وثقافة وأصالة الشعب وإدراكه لحقوقه المسلوبة ، وأنّه مهما طال صمته فإنّ مصير الليل أن ينجلي. لقد جسّد الشباب رغم ما أُشيع عنهم أثناء ذروة الإحتجاجات وما بعدها على بِشارة ميلاد عُمان الجديدة ، فلا ينبغي التسليط عليهم بالفوضى والتخريب وسلب حبّهم وولائهم للوطن ، كون أنّ المواطن العُماني وُلِدَ مرةً أخرى وسيرفض في المستقبل الإنصياع للمرارة ؛ لقد إنعكست الإعتصامات في وطننا كما أثّرت الثورات العربية على مناحي المجتمع والحياة اليومية فأصبح الصغير قبل الكبير يدرك ويعي حقوقه وواجباته.

 

 

يعيش العالم العربي في بعض أقطاره ما بين المشرق والمغرب منذ ديسمبر العام المنصرم حِراكاً سياسياً ومدنياً في حالة من موجة التغيير الشامل والجذري في بعض الأنظمة المستبدة والتي سرعان ما تهالكت وستلحق بها البقية الباقية نظراً لقوة الشعوب إذا ما أرادت قول كلمتها. وتنعكس هذه الإرادة من طبيعة المواطن العربي الذي يدافع عن كرامته وحقوقه المسلوبة في ظل المهانة التي طالته طيلة عقود مضت وتجلّت من قِبَل حكّامه وسلبهم لحريات شعوبهم وسرطَنَتِهم لمجتمعاتهم بتفشّي الفساد ما جعل المجتمع العربي يرزح تحت وطأة وظواهر التخلّف ، يجتاحه الفقر وينهشه الجهل. وما زالت الضبابية تخيّم على بعض الدول أو أنّ الصورة لم تتّضِح حتى الآن.

 

في عُمان كذلك كان للشعب وقفة في مطالبات مشروعة أقرّتها الأعراف والنّظُم والقوانين ، حيث خرج الشباب في مختلف المحافظات والمناطق رافعين مطالبات تمحورت أغلبها في تحسين الوضع المعيشي والتعليم ومحاربة البطالة والفساد ، ومع فشل الجهات الحكومية بشقّيها المدني والعسكري في إحتواء الإعتصامات السلمية سرعان ما اتّسعت لتطالب بإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية واسعة وشاملة ، هذا التحرّك المفاجئ والسريع الذي لم تشهده عُمان بهذه الصورة من قبل هو نتيجة إحتقان شعبي جرّاء العديد من الأخطاء ولّدته التجاوزات وكبت حرية التعبير وتفشّي الفساد طال كل هذا وغيره لسنوات عديدة.

 

إنّ أكثر ما يثير إستغرابي هو لسان التحذير شديد اللهجة الذي وجّهه جلالة السلطان حفظه الله أثناء الإنعقاد السنوي لمجلس عُمان في الحادي عشر من نوفمبر 2008م للمسؤول قبل المواطن ، حينما أكّدَ جلالته على ضرورة وضع المصلحة العامة فوق كل إعتبار ، وأهمية مراجعة الجهاز الإداري للدولة لسياساته وأنظمته ، وتشديده على عدم السماح لأيٍّ كان بالتطاول على النظام والقانون أو التأثير بشكلٍ غير مشروع على منافع الناس ومصالح المجتمع ، وتأكيده بأنّ تطبيق العدالة أمر لا مناص منه ولا محيد عنه. إلاّ أنّ الوطن بأكمله إحتاج كي يبدأ عملية الإصلاح لأكثر من عامين! حقّاً لا أعلم السر الخَفِي دوماً وراء تأخر تنفيذ أوامر جلالته. هذا الإستغراب يجرّني دوماً للتفكير في جدوى عدد من الأجهزة الإدارية والأمنية والقضائية في البلاد!

 

بخلاف هذا فإنّ السر الذي حرّك الشارع العُماني هو سعيه للإستفادة كما استفاد غيره من الشعوب من ثورة الياسمين كوننا جزء لسنا بمعزل من وعن المنظومة العربية والدولية بلا أدنى شك نتأثر بما يحصل في هذه الأقطار. وقد كانت جميع الشعوب بقدر ما تعاني بحاجة إلى شرارة البوعزيزي لتزيل لباس الخوف ، في ظل عدم وجود قنوات للحوار ما بين المواطن والحكومة ، على أقل تقدير واضحة وشفّافة في ظل تهميش الدور البرلماني الحقيقي وحَوكمَة الإعلام ، وكحالة إجتماعية قد إختلفت طبيعة المطالبات ما بين قُطرٍ وآخر في المجتمع العربي حسب المناخ والحالة السائدة في كل بلد.

 

لقد أثبت هذا الحراك المدني والحضاري الذي حصل على وعي وثقافة وأصالة الشعب وإدراكه لحقوقه المسلوبة ، وأنّه مهما طال صمته فإنّ مصير الليل أن ينجلي. لقد جسّد الشباب رغم ما أُشيع عنهم أثناء ذروة الإحتجاجات وما بعدها على بِشارة ميلاد عُمان الجديدة ، فلا ينبغي التسليط عليهم بالفوضى والتخريب وسلب حبّهم وولائهم للوطن ، كون أنّ المواطن العُماني وُلِدَ مرةً أخرى وسيرفض في المستقبل الإنصياع للمرارة ؛ لقد إنعكست الإعتصامات في وطننا كما أثّرت الثورات العربية على مناحي المجتمع والحياة اليومية فأصبح الصغير قبل الكبير يدرك ويعي حقوقه وواجباته.

 

وبلا شك فإنّ تجربة الإعتصامات والإضرابات التي حدثت في عُمان بحاجة إلى الكثير من الدراسة والبحث والتقييم كونها ظاهرة جديدة على المجتمع وفي ما أوقعته من خسائر وما صاحبها من سلبيات ، مع ضرورة تثمين وتقدير أحقّية ما قدّمته وأفرزته هذه الإعتصامات من خير ومكتسبات للوطن والمواطن على مستويات عِدّة وكسرها لحاجز الخوف ، وإيجاد مناخ ثقافي من حرية التعبير والتعددية الفكرية وكيفية قبول الآخر وتقبّل وجهات النظر مهما كانت الإختلافات.

 

يجب على الحكومة أن تخطوا خطوات فاعلة بكل شفافية في مسيرة الإصلاح التي أقرّتها أعلى سلطة في البلاد وإلاّ فإنّ ذلك لن يكون كفيلاً في محاربة الفساد والحفاظ على المال العام مع ضرورة تفعيل المحاسبة وأهمية إعطاء مجلس الشورى صلاحياته الحقيقية المتعارف عليها برلمانياً التشريعية والرقابية والتي لم تُعلَن حتى الآن ، كما يجب إيلاء الإهتمام الأكبر والأبرز لإصلاح مسيرة التعليم وأحقية كل طالب أراد في مواصلة تعليمه الجامعي ، مع أهمية إصلاح وتحرير الإعلام الذي فشل في الإعتصامات وظلّل في نقل الصورة الحقيقية للرأي العام كونه غير قادر على إيجاد مساحة شفّافة للحوار الهادئ والطرح المتّزن وهنا لا أهضم حق بعض الجهات الإعلامية الأخرى في محاولة كسر الحاجز الرسمي وإبراز مختلف الآراء. كما أنّه من الضروري مراجعة النظام الأساسي للدولة وإشراك المجتمع في إيجاد رؤى وأفكار وطنية تحقق للجميع العدالة الإجتماعية وتحفظ للناس حقوقهم مع أهمية فصل السلطات.

 

الفترة القادمة تنبغي أن نُفعّل من خلالها منابر الحوار الوطني للعمل وفق منهجية مدروسة وقبل كل شيء ضرورة تفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني وتخليصها من تبعيّة واستجداء الحكومة والسماح لها بممارسة دورها المناط بها وهذا يبدأ من السماح للمعتصمين بممارسة هذا الحق من خلال تأسيسهم للجمعية الوطنية للإصلاح. فهم بلا أدنى شك يحملون قضايا الوطن على عاتقهم ، وختاماً فإنّ أمام الدولة والمواطن نضالٌ طويل لبناء وطن عصري ، وطنٌ يقوم على المؤسسات والقانون والإنتظام ، وطنٌ يجعل ويُبقِي دوماً وأبداً يفخر شعبه بالإنتماء إليه. وما يحدث اليوم في عُمان هي مرحلة التغيير والإصلاح ولكنّ الأمد طويل وبحاجة لعملٍ دؤوب ، حفظ الله الوطن وحق المواطن.

 

* البريد الإلكتروني: al-ghafri69@hotmail.com

 

 

العدد الخامس عشر سياسة

عن الكاتب

غافر الغافري

كاتب عماني