الحمار..مركب الأنبياء وشعار للأحزاب والنبلاء والكتاب!


 

 

منذ قديم الزمان كان الحمار ولا يزال محل سخرية الإنسان وجوره وظلمه، رغم أن هذا الحيوان المسكين يتميز بالصبر على الأذى والتفاني في العمل والذكاء الثاقب والشهامة والوفاء،  بل أن الإنسان تعود على أن يلصق به صفاتا سلبية هي في الأصل من صميم عيوبه الذاتية ، والحمار بريء منها مثل الغباء والعناد والكسل والجهل ..!

 

الحمار أصله من العالم العربي وهو أغلى القرابين

لدى اليونانيين!

تؤكد دراسات علمية حديثة على أن الحمار المدجن يعود أصله إلى منطقة شمال إفريقيا وتحديدا منطقة النوبة في مصر، حيث وجد هناك منذ قرابة 5 آلاف إلى 6 آلاف سنة، غير أن دراسات أخرى تؤكد على أن موطنه هو الصومال أو الجزائر واسمه اللاتيني Aquinis Asinus وكان الرومان قد برعوا في استئناسه عندما حلوا بالجزائر الشيء الذي جعل الحمار البري المتوحش ينقرض مع مرور الوقت وعلى نحو سريع ،وقد صار الحمار منذ سنين غابرة رفيقا للإنسان، أليفا يستخدمه في شتى أغراضه وشؤونه اليومية، ولم يكتف بذلك حيث راح ينسج حوله الكثير من الأساطير والحكايات ، فلقد ورد في الميثولوجيا الإغريقية أن الحمار كان يعد قربانا ثمينا يقدم ل”برياب Priape” إله الخصوبة ، أما لدى الرومان فإن أساطيرهم تبرز الحمار على أنه حامل الخير والمتعة و اللذائذ على اعتبار أن إله الخمر في معتقداتهم وهو ” باخوس Bacchus” كان له حمار يحمل قنينات معبأة بشراب النبيذ ، ونتيجة لهذا الاعتقاد دأب الرومان على الاحتفال بيومي 8 و9 جوان بما يطلقون عليه Vastalia وفي هذا الاحتفال المقام أصلا على شرف الآلهة فيستا Vesta ابنة جوبيتار وروي Rhèe يساق فيه موكب من الحمير مزين بالذهب ومتوج بالورد إكراما لهذا الحيوان الوديع !

لقد اشتهر الحمار أيضا بكونه ملهما للفلاسفة والشعراء والفنانين على عكس الصورة النمطية الراهنة المشوهة له ، حيث على سبيل المثال نجد أقدم نص روائي في التاريخ الذي ألفه الأديب الجزائري “أبوليوس” المولود بمدينة سوق أهراس(شرق الجزائر) عام 128 قبل الميلاد يحمل عنوان ” التحولات أو الحمار الذهبي “..

وفي القرون الوسطى كتب الفيلسوف جون بوريدون Buridanالعديد من الحكايات التي تظهر مختلف العادات المتبعة في ذلك الوقت من خلال كتابه الذي تأثر به أدباء عرب كثيرون فيما بعد وهو يحمل عنوان ” حمار بوريدون ” وهذا العنوان دون شك يذكرنا بحمار توفيق الحكيم ورضا حوحو وغيرهما في العصر الحاضر ، لكن قبلهما نجد فلاسفة عالميين آخرين تأثروا بعمل الفيلسوف بوريدون،ولا سيما في عصر النهضة وعلى رأسهم الفيلسوف الإيطالي جيوردانو برينو Brunoالذي اتخذ من الحمار نموذجا أعلى في التبحر في العلم والمعرفة الأمر الذي جعل مجتمعه يلصق به جملة من التهم الخطيرة ومنها الزندقة فأحرق جراء ذلك وهو في الخمسين من عمره حيا!وفي عام 1694 نشر الأديب الفرنسي شارل بيرو C.Perraultحكاياته الشهيرة عن الحمار، و التي حققت نجاحا وانتشارا ساحقا ،كما ألف في مدح الحمار شعراء وأدباء عديدون كبار مثل الجاحظ ، فرانسيس جيمس ، بريجيد دال ، بول فاليري ،كاساديوس ، جون مايبوري ،جوني فيالو .. غير أن أعظم انتصار وأسمى تبجيل ناله الحمار جاء بعد نيل الشاعر الإسباني خوان رامون خيمينثJimenez جائزة نوبل عام 1956 عن مجموعته الشعرية ” حماري وأنا “!

الحمار مركب الأنبياء وشعار للنبلاء في القرون الوسطى

لقد ورد ذكر الحمار في القرآن الكريم في خمسة مواضع ،وارتبط وجوده باسم النبي العزيز، كما ارتبط الهدهد بالنبي سليمان والكبش بالنبي إسماعيل والناقة بالنبي محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين ،وكان الفنان التشكيلي الإيطالي جيوتو بوندوني G.Bondone قد رسم في القرن الرابع عشر المسيح عليه السلام وهو يمتطي حمارا رماديا جميلا ،ولعل هذا هو السبب في كون هذا الحيوان مرسوما بأكبر الكاتدرائيات العالمية وسيما منها الفرنسية ، كما كان منقوشا على العملات الإغريقية والغالية وشعارا للنبلاء في القرون الوسطى ..

والجدير بالذكر أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حسب ما جاء في كتاب ابن كثير ” البداية والنهاية ” كان له حمار اسمه ” يعفور” أهداه له مقوقس مصر ، وكان هذا الحمار قد لقي حتفه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، حيث هوى في بئر فمات على الفور !وكان صلى الله عليه وسلم يفضل رائحة حماره على نتانة المنافقين ومنهم عبد الله بن أبي، ويمكن الإضافة ضمن هذا السياق إلى كون آخر الخلفاء الأمويين بدمشق مروان بن محمد الذي حكم من (744الى 750) قد لقب بالحمار لصبره ورزانته وحكمته!

الحمار شعار حزب أوباما الديمقراطي وحليب الأتان فيها منافع جمة!

وكما أشرنا أعلاه فإن النبلاء في القرون الوسطى بأوربا كانوا يتخذون الحمار شعارا لهم ، وفي العصر الحاضر نجد أن شعار الحزب الديمقراطي الأمريكي الذي أسسه توماس جيفيرسون في القرن الثامن عشر ويعمل تحت ظلاله السيد أوباما حاليا هو الحمار!

من جهة أخرى، نشير إلى أن هناك على طول السنة أعيادا تحتفل بالحمار ، خاصة بأوربا حيث تقام مهرجانات ودورات رياضية وتنافسية بطلها الرئيسي الحمار!وفيها ينال الفائزون جوائز هامة ومعتبرة والطريف أن لحم الحمار كان طعاما لذيذا في فرنسا منذ قرنين، إذ يصنع منه ما يسمى بالسوسيسون! ..

والغريب في الأمر أيضا أن لأنثى الحمار” الأتان “حليب فيه فوائد صحية ومنافع كثيرة ، حيث كان الإغريق يعتبرونه دواء جيدا ويعتبره الرومان شرابا فاخرا، وقد وصفه أبو الطب ” أبو قراط “لمختلف العلل والأمراض منها التسممات ، آلام المفاصل، علاج آثار الجروح فضلا عن قيمته الغذائية ، وربما لهذه الأسباب مجتمعة كانت المستشفيات ودور الحضانة بفرنسا إبان القرن التاسع عشر تمنح الأطفال ضعيفي البنية حليب الأتان الذي تبين علميا أنه يشبه إلى حد مذهل حسب التحاليل المخبرية حليب الأم ،وعلى سبيل المقارنة نجد مادة الكازايين لدى الأم المرضعة يحتوي حليبها على نسبة 0.34 ولدى الأتان 0.60 والألبومين لدى الأم المرضعة 1.30 والأتان 1.55 واللاكتوز عند الأم المرضعة 7.00 والأتان 6.40 ومختلف الأملاح نجدها في حليب الأم المرضعة بنسبة 0.18 وعند الأتان 0.32 والماء في حليب الأم 87.38 وعند الأتان 89.63 ! مع التذكير أنه يصعب الحصول على حليب الأتان الذي ينتج منه يوميا ما بين لتر إلى غاية لتر ونصف ، في حالة أخذ ابنها الجحش منها بالقوة ..ومعلوم حاليا أن حليب الأتان مفيد جدا لسلامة البشرة فلقد أوردت مختلف المصادر التاريخية أن الملكة كليوبترا كانت تأخذ حمامها اليومي عن طريق الغطس في هذا الحليب ، ونفس الشيء كانت تقوم به أيضا زوجة الإمبراطور الروماني نيرون التي تدعى Poppèeوفي أوربا تشيع الآن مواد تجميلية (صابون ، غاسول ، مراهم …)مصنوعة أساسا من حليب الأتان الطبيعي ، كما توجد أيضا جمعيات عالمية بأمريكا وكندا وفرنسا وبلجيكا وسويسرا تعالج نفسيا بالحمار كرفيق ومؤنس ويطلق على هذا النوع من العلاج مصطلح Asinothèrapie!

الحمار ثروة ضائعة بوطننا العربي!

إذا كان العالم العربي هو موطن الحمار الأصلي فإن هذه الثروة القومية الحيوانية لا زلنا لا نضع لها أي اعتبار ولا نقدر قيمتها حق قدرها ماديا ومعنويا، علما بأن لهذا المخلوق الطيب أفضالا كثيرة علينا مثلما ألمحنا أعلاه، ومنها كونه لا يستغنى عنه في الأرياف والقرى و المداشر النائية، حيث يساهم هناك في فك العزلة عن السكان وأداء مختلف الأشغال الزراعية والتنموية وفي المقابل لا يستهلك سوى كميات ضئيلة من الكلأ ويظل يبث شكواه جراء الحمولات الثقيلة وضربات العصي والسياط عن طريق نهيقه الذي يمكن سماعه من على بعد 15 كلم!

وللذين يقدرون جهود هذا الحيوان الصبور نؤكد أنه لا يزال يقاوم من أجل إثبات وجوده، حيث يتكاثر بمختلف مناطق العالم (ينجب جحشا واحدا في السنة ) ولا خوف من انقراضه، فلقد بلغ عدد الأحمرة في الصين 11 مليون حمار وفي الهند مليونا ونصف و في أثيوبيا خمسة ملايين وفي الجزائر 340 ألفا وفي إسبانيا 130 ألفا، لكن في فرنسا 25 ألفا وغانا 10 آلاف حمار.

 

 

العدد الخامس عشر ثقافة وفكر

عن الكاتب

رشيد فيلالي

كاتب صحفي ومترجم من الجزائر