زلزال لشبونة (1755) وأثره في الفكر الإنسانيّ

كتب بواسطة ياسين عاشور

صبيحة يوم الأحد الأوّل من نوفمبر من سنة 1755 الذي يصادف عيد جميع القدّيسين، اعتقد البرتغاليّون أنّ يوم الدّينونة حلّ وأنّ غضب الله سُلّط عليهم، حيث ضرب زلزالٌ جبّارٌ العاصمة لشبونة، قُدّرت قوّته بين 8.5 و9 درجات على سلّم ريختر، ثلاث هزّات هائلة خلال دقائق قليلة كانت كافية لجعل العاصمة البرتغاليّة تهتزّ مثل قشّة في مهبّ العواصف، ولم يتوقّف الأمر عند ذلك، فقد عقبته موجات تسونامي عارمة، واندلعت حرائق لمدّة ستّة أيّام لتنهي مهمّة تدمير إحدى أهمّ العواصم الأوروبيّة. بحلول الوقت الذي انتهى فيه كلّ شيء، هلك أكثر من خمسين ألف إنسان، ودُمّرت أكثر من ثلاثة أرباع المباني، بالإضافة إلى الثروة الثّقافيّة التي أتلفها الزّلزال والنّيران والمياه. لم يكن زلزال لشبونة مجرّد كارثة محليّة عاديّة، بل إنّه ترك بالغ الأثر في الفكر الأوروبيّ، ذلك أنّه حيّر الفلاسفة واللاهوتيين ودفعهم إلى إعادة التّفكير في عديد المعضلات الميتافيزيقيّة، على رأسها معضلة الشّرّ وعدالة الله وخيريّته، كما دفعهم إلى تطوير نظرتهم إلى الظّواهر الطّبيعيّة وعلاقتها بالأفعال البشريّة. سنحاول خلال هذا المقال الموجز أن نعرض بعض الآثار التي أحدثها هذا الزّلزال في مستوى النّقاش الفلسفيّ في أوروبّا خلال القرن الثّامن عشر وما بعده.

يُعتبر الفيلسوف الفرنسي فولتير (1694-1778) من أبرز من انشغلوا في التّأمّل في كارثة زلزال لشبونة، وقد أثمر هذا التّأمّل قصيدةً مطوّلة ذات نبرة سوداويّة ساخطة تحمل عنوان «قصيدةٌ عن كارثة لشبونة أو فحص المسلّمة القائلة إنّ كلّ شيء على ما يرام»1 (1756) ورواية فلسفيّة شهيرة ذات نبرة ساخرة وهجائيّة تحمل عنوان «كنديد أو التّفاؤل»2 (1759). لقد هاجم فولتير المنزع التفاؤليّ الذي يمثّله الفيلسوف الألمانيّ غوتفريد فيلهيلم ليبنيتز (1646-1716) والشاعر الإنجليزي اللّيبنيتزي ألكسندر بوب (1688-1744)، وعلى حدّ عبارة أدورنو فقد «كان زلزال لشبونة كفيلا بتخليص فولتير من ثيوديسا3 ليبنيتز4»، يسمّي فولتير هذا المنزع اللّيبنيتزي التّفاؤليّ بفلسفة «كلّ شيء على ما يرام» (Tout est bien). إنّ فلسفة ليبنيتز قوامها القول بخيريّة هذا العالم وأفضليّته على كلّ ما يمكن أن يوجد5، «لأنَّ جميع الأشياء قد سُويت مرة واحدة وإلى الأبد على أكبر قدر مُمكن من النظام والتوافُق، إذ إنَّ الحكمة والرحمة السامية لا يُمكن أن تتصرَّف إلا بمُقتضى التجانس الكامل».6 متهكّمًا على هذه الرؤية، يقول فولتير على لسان كنديد «إذا كان هذا أحسن ما يمكن من العوالم فما تكون العوالم الأخرى؟»،7 فبحسب فولتير، يعسر على الحسّ السليم تقبّل شرور هذا العالم وتبرير عذابات المتألّمين وضنكهم، إنّه يقدّم «ردًّا شموليًّا، وأحيانًا استباقيًّا، على فلسفات الأمل كافة، من لايبنتز الذي يوم وفاته كان فولتير لا يزال شابا يافعا، مرورًا بروسّو الذي عاصره، ووصولا إلى هيجل الذي كان لا يزال طفلا صغيرًا يوم وفاة فولتير».8

أمّا جان جاك روسو (1712-1778) فقد اتّخذ موقفًا مختلفًا عن موقف نظيره فولتير وكتب إليه رسالة مطوّلة9 (بتاريخ 18 أغسطس 1756) ردًّا على قصيدته، لم يهاجم روسو الوجود ولم يرَ فيه أيّ شرّ جذريّ، بل اتّخذ موقفًا إيكولوجيًّا معاديًّا للحياة داخل المدن المكتظّة بالنّاس والمليئة بالبنيان المتطاول، ودعا إلى العيش البسيط المنسجم الذي لا يؤدّي إلى إهلاك الأرض أو استنزافها. لقد عاب روسو على فولتير رؤيته القاتمة وتشاؤمه المفرط، ورأى أنّ فكره يزيد في بؤس الإنسان ومعاناته بدل أن يمنحه العزاء ويخفّف عنه آلامه. لكنّ روسو وقع في تشاؤم من نوع آخر، ذلك أنّه برّأ الطّبيعة والعناية الإلهيّة ورمى المسؤوليّة كلّها على عاتق الإنسان وحضارته إلى درجة أنّه اعتبر أنّ تطاول البرتغاليين في البنيان هو السّبب الرّئيس في ارتفاع قتلى زلزال لشبونة، ومعلوم أنّ روسو يعادي التّقدّم الحضاريّ والتّقني ويدعو إلى نمط حياةٍ أكثر انسجامًا وأقلّ إضرارًا بالطّبيعة، وفي رأيه، لا ينبع الشّرّ من طبيعة العالم، ذلك أنّ الله أحسن خلقه وأتقن صنعه، إنّ الشّرّ نابعٌ من تدخّل الإنسان وسوء تصرّفه.    

أمّا عن الفيلسوف الألمانيّ إيمانويل كانط (1724-1804) فقد تجاوز الجدل الميتافيزيقيّ وخلص إلى رؤية أكثر نضجًا وعقلانيّة، وحاول أن يقارب الزّلازل من منظور علميّ، كتب كانط عن زلزال لشبونة في ثلاثة نصوص منفصلة،10 لم يتلقّ كانط زلزال لشبونة بوصفه مأساة، بل بوصفة مشكلة علميّة حاول وصفها وفهمها، وقدّم نظريّة في الزّلازل والبراكين أرهصت بمولد علم جديد. أفضى زلزال لشبونة إذنْ إلى تأسيس اختصاص علميّ هو علم الزّلازل (Seismology)، والدّرس الذي ينبغي أن نخلص إليه إنّما يتمثّل في ضرورة التّدبّر في الكوارث أو “الشّرور الطّبيعيّة” لا من منظور ثيولوجيّ سلبيّ قوامه السّخط والغضب والاحتجاج على العناية الإلهيّة ورمي الآلهة بالقسوة والعجز، فذلك لا يفضي سوى إلى مزيد من السّجالات الميتافيزيقيّة التي لا تؤدّي إلى منفعة النّوع الإنسانيّ، بل من منظور علميّ فاحص قوامه التّدبّر في الظّواهر ودراستها ومحاولة استشرافها وتحجيم أضرارها، وفي ذلك تكمن مصلحة الإنسان الذي يخوض مغامرته بجسارة دون أن يعوّل على تدخّل السّماء. لقد جعلنا زلزال لشبونة ندرك أنّ الكوارث الطّبيعيّة ليست عقابًا مسلّطًا على النّاس، وأنّ العقل والطّبيعة ليسا متطابقين، وأيّ التقاء بينهما إنّما هو التقاءٌ عرضيّ، ولم تعد الطّبيعة تعكس النّظام الاخلاقيّ. أحدث زلزال لشبونة شرخًا بين النّوع الإنسانيّ وكوكبه، حيث تبيّنَ الفرق الأنطولوجيّ بين الإنسان بما هو كائن يحوز فاعليّة عقليّة وأخلاقيّة، والطّبيعة بما هي نظام لا يسير بمقتضى إرادة الإنسان وأفعاله، بل لها قوانينها الخاصّة وطرق اشتغالها، لذلك فإنّه من الحمق إسقاط أحكامنا الأخلاقيّة على النّظام الطّبيعيّ. ترى الفيلسوفة الأمريكيّة سوزان نيمان أنّ زلزال لشبونة كان شاهدًا على ميلاد الحداثة إذ شرع العالم في النضج وفي النّأي عن الثيولوجيا والميتافيزيقا نحو النّظر العلميّ والمسؤوليّة الإنسانيّة.11

 درسٌ آخر يمكن أن نخلص إليه عبر تدبّرنا في الكوارث العظيمة، يتمثّل هذا الدّرس في هشاشة الوجود الإنسانيّ وعرضيّته المرعبة، تشبه حياة إنسانٍ مّا قشّةً باليّة يمكن لأيّ ريح أن تبدّدها وتعبث بمصيرها، فلنتخيّل لوهلة مقدار الأحلام والطّموحات والمشاريع والخطط والآمال التي تتبدّد في دقائق قليلة! ولنا في زلزال تركيا-سوريا (2023) الذي عاصرناه مؤخّرًا وشهدنا أهواله خير مثال على ما يمكن أن يتعرّض له النّاس وهم يحسبون أنّهم آمنون في أسرّتهم. لذلك ينبغي للإنسان أن يعرف نفسه ويعرف ضآلته وضعفه الجذريّ، وأن يتواضع في حضرة الكون، كما ينبغي لأفراد النّوع الإنسانيّ أن يتحلّوا بفضائل شتّى، مثل التّراحم، والتّواضع، وحسن استخدام الأرض وخيراتها، وتوقّع الأسوأ والاستعداد له بدل الركون إلى الاطمئنان. وينبغي أيضًا التّحلّي بنظرة عقلانيّة متوازنة حتّى لا نسقط في سذاجة التّفاؤل المفرط ولا في قنوط التّشاؤم المتطرّف.  

        ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 1- Voltaire, Poème sur le désastre de Lisbonne, ou examen de cet axiome, tout est bien (1756)

 2- Voltaire, Candide ou l’Optimisme (1759)

3- الثيوديسا (Theodicy) تعني العدل الإلهي، ألّف ليبنيتز كتابًا يحمل عنوان “الثيوديسا: حول خيريّة الإله وحريّة الإنسان وأصل الشرّ” (1710).

4- Theodor W.Adorno, Negative Dialectics, Continuum, New York (2007). P.361.

5- «لقد اتُّهِمَ ليبنتس بأنه يلجأ إلى فكرة العناية الإلهية ليتخلص بها من كل صعوبة فلسفية تواجهه (…) إذ يصل به الأمر إلى حد الدعوة فلسفيًّا إلى قبول كل ما يحدث في الكون، حتى ما لا يكون في ذاته مفهومًا أو معقولًا؛ على أنه مظهر لحكمة إلهية غامضة لا نستطيع أن نحيط بجميع أطرافها، ولا يمكننا أن ندرك مقاصدها الحقيقة بعقولنا القاصرة». انظر فؤاد زكريا، آفاق الفلسفة، مؤسسة هنداوي، وندسور (2017). ص149.

6- ليبنيتز، المونادولوجيا والمبادئ العقلية للطبيعة والفضل الإلهي، ترجمة عبد الغفار مكاوي، مؤسسة هنداوي، وندسور (2017). ص73.

7- فولتير، كنديد أو التفاؤل، ترجمة عادل زعيتر، دار التنوير، بيروت (2012). ص38

8- سعيد ناشيد، الوجود والعزاء: الفلسفة في مواجهة خيبات الأمل، دار التنوير، بيروت (2019). ص66.

9- Jean-Jacques Rousseau, Lettre à Monsieur de Voltaire, 18 août 1756.

10- Svend Erik Larsen, “The Lisbon earthquake and the scientific turn in Kant’s philosophy”, European Review , Volume 14 , Issue 3 , July 2006 , pp. 359 – 367.

11- Susan Neiman, Evil in Modern Thought: An Alternative History of Philosophy, Princeton University Press (2015).

فلسفة

عن الكاتب

ياسين عاشور