قراءة في المجموعة القصصية “الخُرسان”

كتب بواسطة إسماعيل الموساوي

“الخرسان” مجموعة قصصية إبداعية للقاص المغربي عبد الوهام سمكان، جاءت صفحاتها ممتدة على مئة وثلاثة وأربعون صفحة من الحجم الصغير، وتضم حوالي عشرة قصص قصيرة متفاوتة في عدد صفحاتها، ومختلفة في البنية والسرد، وهي: أولا: بلسان الأخرس الأخير، وثانيا: برج العانس، وثالثا: متلازمة BALALA، ورابعا: من يفهم لغة القردة؟، وخامسا: بحر للغرق، وسادسا: مذكرة صغيرة مذهبة الحواف، وسابعا: النائم في رأسه، وثامنا: طائر الخلاص !، وتاسعا: كابوس أزرق يحتل المدينة، وأخيرا: الوجود متفرداً،  صدرت حديثا عن دار المطبعة والوراقة الوطنية، في دجنبر 2022.

    يستفز عنوان القصة الأولى “بلسانِ الأخرسِ الأخير”، من هذه المجموعة القصصية الإبداعية، شوق القارئ لتقليب صفحاتها محاولا حل لغز العنوان، والوقوف على دلالة “الخرسان” ومعرفة كيف سيكمل الأبكم الأخرس الذي سيستمر بكل حرية في هذه الحكاية وليس أي شخص آخر فرضته عليه الضرورة ؟! إن هذا الأخرس الذي لم يكن بوده أن يتكلم قهرا وظلما سيتكلم وبكل حرية وجرأة لا حدود لها في هذه القصة الممتعة سواء من حيث البنية أو من حيث السرد، لكي يصل في آخر الحكي إلى ريح الحرية ونسيم عليلها الذي سينعش أناه وسيجعله يحلق بعيدا في هذا الوجود الحر لكي يكمل الحكي من دون قيد أو شرط..

   يجد القارئ نفسه أمام إشكالية طريفة ممتعة، يطرحها عنوان المجموعة بأكملها، وبالأخص، القصة القصيرة الثانية “برج العانس” التي يحلق بنا فيها الأستاذ عبد الوهام سمكان في عالم تخيلي تمتزج فيه دقائق الأمور المعاشة مع خيوط انفعال القاص بوجدانه المرهف، انعكس في شخصية “نعيمة” التي فقدت الأب وأدركت بأن القيم الإنسانية التي نتباها بها في هذا العالم تصبح لا معنى لها في ضوء الأزمات التي نعيشها.. فموت الأب ودفنه في هذه القصة هو موت للقيم النبيلة ودفن للقيم الجمالية المتعارف عليها.

 يظهر الأستاذ عبد الوهام سمكان من خلال مجموعته ناقدا مرهف الحسّ، يقظ المشاعر، متفتح العينين والبصيرة، فهو الذي يفكر بعين العقل دون أن يستغني عن قلبه، ويصرخ بسخرية بارعة كسخرية الفيلسوف الألماني فريديك نيتشه في وجه كل قبيح، لكي ينشد الجمال كما يراه هو وليس كما تراه العوام والرعاع والجهال ، وهذا ما تجلى في قصته القصيرة “متلازمة BALALA التي شكل فيها الأستاذ عبد الوهام سمكان شخصية متناقضة تسكنها هواجس فكرية خطيرة جدا وهي شخصية “الرايس عباس بو الكرون” التي تجسد صورة الحياة والناس في ماضيهم المظلم الذي لا يمضي بل ما يفتأ يحضر ويتجدد كما يؤكد على ذلك الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر..

      يدفعنا الأستاذ عبد الوهام سمكان في القصة الرابعة المعنونة ب“من يفهم لغة القردة” إلى تأمل الإنسان في آماله وطموحاته، وفي واقعه ومعاناته وهمومه التي لا تحد ولا تحصى، حيث تجسد شخصية “المسيح” رفقة صديقه “بوحمارة” في قلب ساحة جامع الفنا بمراكش هذا الأمر، فالساحة جامع الفنا هي ليس ساحة للفرجة والمتعة والحب بل هي ساحة تعبر عن هموم الناس ومعاناتهم أيضا….

  يتساءل الأستاذ عبد الوهام سمكان بحس فلسفي دقيق في القصة الخامسة “بحر للغرق”، عن سؤال من أنا؟ من خلال إدخال القارئ في تجربة حياتية واقعية معينة، ولا يعني هذا الأمر  قيام الأستاذ عبد الوهام سمكان بتصوير ذلك الواقع تصويرا تقريريا مباشراً، بل إنه يهتم بالتعبير عنه إبداعيا وجماليا من خلال دلالات رمزية ذات شفافية سواء في التعامل مع اللغة بوصفها إنجازاً إبداعيا من جهة، أو التعامل مع العنصر المكاني من جهة ثانية، أو العنصر الزماني من جهة ثالثة، وهذا ما تجلى في قصة “بحر للغرق” والبحر هنا بحر الحب والعشق بينما الغرق فهو غرق الرحيل المؤلم الذي يثقل ذكرى كل المكويين بنيران الحب الظالمة..

   وتعكس قصة “مذكرة صغيرة مُذهبَةُ الحواف” صورا أخرى متعددة لهذا الإنسان تعكسها مرآة حياة الإنسان التائه يتعثر في حياة رتيبة، تتقاذفه مشاعر الخوف والملل والخجل والأمل وحالات الذهول والضياع، ومع ذلك سيواصل الأستاذ عبد الوهام سمكان فعل الكتابة كما يحلو له.. مشيرا إلى تناقضات النفس الإنسانيَّة، كتناقضات “النائم في رأسه“، التي عكستها هذه القصة التي حكت عن أجواء الحياة المتناقضة في أحد دروب مراكش العامرة “حي المسيرة”.

     تحضر صورة الملل والحياة الرتيبة في قصة “طائر الخلاص” التي يعكسها بطل القصة «طائر الخلاص» الذي عانى وكابد في صمت لوحده طيلة سنوات عديدة. وتعرض للسجن والتعذيب دون أن ينهزم أو يستسلم…وبالرغم من كل شيء ظل يقاوم، ويطمح في تغيير مجريات حياته. ملقبا نفسه بطائر الخلاص الذي لا يعرف المستحيل، وهو طائر الحرية الذي يجب أن تهتف به كل الشعوب المقهورة والمظلومة، فما أجمل الحرية وما أجمل طائر الخلاص…

    وتحضر أيضا في قصة “كبوس أزرق يحتل المدينة” صورة الخوف والألم والقلق والصدمة التي يسوقها لنا الأستاذ عبد الوهام سمكان  بأسلوب رشيق اعتمد فيه على نهج سردي يقارب الأسلوب الروائي الذي ذكرنا بعمله الروائي “آدم الذي رأى”، إذ عمد إلى تعزيز الحدث والسير باتجاه توسعة مساحة القصة زمانيا ومكانيا، وتوسيع مساحة العلاقات بين شخوص القصة من مواقف الحياة وأحداثها، وخصوصا موقف الخوف والفقدان والموت الذي يمكن أن يحصل لأي كائن على ظهر هذه البسيطة.

    وسيختم الأستاذ عبد الوهام سمكان مجموعة قصصية بقصة طريفة استثمر فيها تكوينه الفلسفي المحكم،  بأسلوب أدبي ذو نفحة فلسفية وهي قصة “الوجود متفردا” التي تناول فيها حياة الإنسان في الحلم التي هي حسب المحلل النفسي النمساوي سيغموند فرويد المنفذ  لكل الأفكار والمشاعر والرغبات اللاواعية لدى الإنسان، وهي التي تجسدت في شخصية “يوسف الفن” الذي أحب بكل جوارحه في حياة الحلم، ليدرك في الأخير بأنه يتوهم ولا شيء يوجد في الحياة الواقعية، ليقر لنا في الأخير بأن نمط الوجود الحقيقي للإنسان هو “الوجود المتفرد” الذي يحضر عند قلة من الأشخاص فقط، وهو وجود يتأسس على طريقة عيش تحاول ما أمكن الانفلات بشكل دؤوب من مختلف القوانين والقيود، سواء أكانت طبيعة أم ثقافية إنسانية؛ وهذا لا يعني أن الذات المتوحدة، في هذه الحالة، تعيش حرة بشكل مطلق حتى تنحط إلى منزلة الحيوان، وإنما يعني أنها تعيش وفق مبادئ وقناعات تنسجها بذاتها ولأجل ذاتها.

    وفي الأخير، يمكننا القول، بأن أسلوب الأستاذ عبد الوهام سمكان في هذه المجموعة القصصية – إجمالا – فهو واضح، وبعيد عن الغموض والتعقيد مما نراه في كثير من أعمال كتاب القصة القصيرة، تحمل في أعماقها هاجس الإبداع، ويحاول بكل ما لديه من جهد و حنكة إبداعية، أن يأتي بالجديد المدهش لوجدان و فكر القارئ، يجتهد في صياغات أدبية راقية دون الوقوع في تقليد الآخر، يحاول قدر الإمكان أن يتحرر من قبضة اللغة، يكتب فعلا باللغة وليست هذه الأخيرة هي من تكتب به، وهذا ما نلحظه في تنوع مواضيع القصص المتضمنة في هذه المجموعة القصصية، مقاطع جميلة رشيقة تدعو القارئ  للوقوف عندها واستكشاف معناها و مبناها بالقراءة الجيدة و إعادة القراءة، فهنيئا للأستاذ عبد الوهام سمكان بهذا الجمال الأدبي الرفيع…. وشكرا…

أدب

عن الكاتب

إسماعيل الموساوي