تكرارٌ صِفْر القيمة! 

كتب بواسطة مزنة الرحبي

في الستينات من القرن الماضي، يفتتح الفنان الأمريكي آندي وارهول معرضاً فنياً أشبه بمحل بقالة تتراص في ‏رفوفه اثنين وثلاثين لوحة لأنواع مختلفة من معلبات كامبل. وقد عمد وارهول إلى تقديم العادي كعمل فني صانعاً بذلك من ‏علبة للحساء أيقونة عصرية ومقدراً قيمة أن “الاستهلاك أكثر أميركانية من التفكير”. وارهول الذي مجّد أعظم اختراع بشري يشاطره في ذلك جورج أورويل وقد رأى قبله بعقود أن المعلبات هي الاختراع الأشد فتكاً من الرشاش، والذي لولاه لما قامت الحربان العالميتان الأولى والثانية، واللتان- ويا للمفارقة- لم تشكلا نهاية العالم، بل مسيره نحو التقدم الذي وصلنا إليه. هكذا صار للعلبة شأن كبير. إنها رمز عصرنا الحالي؛ فهي تجمع ثقافة الاستهلاك في المعد والجاهز من حاجتنا، كما تمثله أيضا ًفي سرعة تدحرجه نحو المنحدر، في قرقعة معدنية للآلات التي قلَّصت الزمن داخل أسطوانة صغيرة. فاللحظة تقاس بالثانية وأجزاء الثانية أما الأيام والساعات فهي التي تتدفق فقط من خلال تقسيمها إلى وحدات أصغر وإلا بدت سنواتٍ ضوئية لا تطاق. وإذ يسابق مركب نوح هذه المرة سرعة الطوفان، فإن الوقت لا يتسع إلا للأشياء المعدة مسبقاً، حتى اللغة “الملكة الإنسانية” كما يدعوها هايدجر صارت معلبة بشكل ما وجاهزة للإرسال.

شئنا أم أبينا، فالحاضر المتسارع لا يمهلنا أحياناً للاختيار بين الإنشاء أو استعمال المعنى الجاهز، لنستعيض عن ذاك ببدائل النسخ واللصق، أو الصورة والرمز التعبيري غير منتبهين إلى أن ساعات التواصل الاجتماعي قد تخلو أحياناً من الحاجة لصياغة جملة واحدة. وبذا تدخل أحاديثنا اليومية أيضاً في عجلة الركض، نجريها رغبة في إنجاز التراسل السهل الذي لا يخضع للتفكير في التعقيدات اللغوية بدءاً من صياغة الفكرة وحتى إملائها على الجهاز. وهو ما ينم عن كسل لغوي نلجأ معه إلى ذاكرة الانترنت الضخمة بحثًا عن التجهيزات التي ‏تناسب أو لا تناسب الموقف. لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث، وفي أبسط الحالات، نوكل مهمة طباعة الكلمات للتنبؤ الذي تقترحه لوحة المفاتيح، بل ونتنازل ‏أحياناً لصالح اقتراحاتها تلك في تلكؤ تام.

يبدو ذلك قلقاً مبالغاً فيه، وفكرة شاطحة لا تستأهل الوقوف عليها، إذ لن تنفد اللغة ولن تنهي الكتابة بوجود الآلة وبمعاوناتها المحدودة تلك، لكن ما يغيب حقاً لحظتها هو التفكير. فالاكتفاء بالجاهز والمشاع الذي نتناوله من صفوف المعلبات ونغلفه رسائل تهنئة وتعزية، ومشاعر فرح وحزن هو ما يرفع هذا الهاجس من مستوى نقد الحداثة الوسائطية إلى تتبع أثر الثقافة الاستهلاكية في تشكيل اللغة التي نحيا بها. ولأن التفكير يحدث في اللغة ومن خلالها، فإن ما يلغى في عملية إنشاء التراكيب اللغوية هي مجموع العلاقات التي نستند عليها في محاولات الإفصاح عن أفكارنا. ولو افترضنا أن الكتابة تقوم على ثلاثية التفكير والتوليف ثم التشذيب فإن إعادة إرسال المكتوب لا تعبُر حتى أطراف النص، أي حدود فهمه ثم إعادة توجيهه لاستيفاء الغرض. على عكس ما يجري أثناء الكتابة التي تعني الوقوف على دوائر النص الأولية كتلك التي تشكلها حروف العطف مثلاً، فالواو “بانية الجسور الخالدة”* تتسع لروابط لا يحتملها تدوير المحتوى الكتابي على الشبكة في تكرار صِفْرِ القيمة والتكلفة، واستشهاد اعتباطي لا ينتج دلالاته الفردية ولا يرسم رؤى متعددة للنص.

أما معجمنا اللغوي فهو معجم المشترك والشائع وقد أصبح أوسع من ‏مشترك المجتمع في القرية الواحدة، بل المشترك العالمي. إذ لم يسبق أن تجاوزت أي محلية الاستعارات والألفاظ التي ساقتها وسائل التواصل في عصرنا‏. وتدريجياً تغيب كلماتنا لصالح العالمي، لا الكوني، لأن الكوني أيضاً لصيق بالخاص والمحلي.‏ لكن ذلك يفرض أحياناً حالة من الاغتراب على أولئك الذين اختاروا أو أجبروا على النأي عن مساحاتنا الرقمية التي تتنامى وتتبدل بين الثانية والأخرى على نحو سريع، ومؤقت، وغير متدارك. هناك حالة يتجسد فيها هذا الشعور بالاغتراب يمثلها الصعود الفجائي لكلمة واحدة ترتفع حتى أعلى قائمة المتداول بسحر فاعل خلال ساعات أو أيام لأن استعمالها يحقق وصولاً إلى جمهور واسع داخل الفضاء الرقمي، كما أنها أسلوب عولمي للتماهي وضرورة إعلامية وشرط للانتشار والانتماء إلى المجتمع الفاعل والأكثر حضوراً على شبكات التواصل، بينما يبقى أولئك الخارجين عن هذه المساحات خارج لغتنا أيضاً. ولفرط ما أن تلك حالة وقتية قصيرة لا يزيد عمرها عن عمر الفقاعة فهي غالباً لم تدرس حتى الآن، حيث تظل دوافع انتشارها مجهولة وغير قابلة للقبض وهو ما يقود إلى السؤال حول مستقبل اللغة في ظل تلك الظواهر التي لابد تشي بالتحولات في كيانها الحي، وبالسّمات الثقافية لناطقيها أولاً.

‎”- ‎ما الذي تقوله؟‎ ‎

‎- ‎تتحدث عن حيواتها

‎- ‎ألا يكفيها أنها عاشت‎! ‎

‏- لا بدأن تتكلم عن الأمر “‏

رحل صموئيل بيكيت كاتب تلك الكلمات، قبل أن يدرك أننا من بين الكائنات لم نعد نتحدث عن حيواتنا، بل نتشاركها فقط عبر الصمت المتبادل أمام الصورة. فنحن غالباً جمهور من المتفرجين الذين يقع على عاتقهم التعليق أو التفاعل المقيد بحدود ما يسمح به صاحب الفضاء الشخصي. الأمر الذي لا يعد تواصلًا بقدر ما هو عزلة العرض والتعليق والتدوير المغلق للمقاطع ومقاطع المقاطع التي نتداولها حتى لا يبقى منها سوى الزبد. إن اعتمادنا على الاستعارة التي انتقلت من بلاغتها اللغوية إلى بلاغتها البصرية حين نستعملها كمرادف للكلمة، أو اختيار الرمز التعبيري الذي نعده أقصى جهدنا في التحاور المبني على ردود الأفعال، هو ما يعيدنا إلى تداعيات غياب اللغة التي يغيب معها المضمون أيضاً، موحياً بالتشابه بيننا ودمى التليتابيز، التي لا تملك من الكلمات سوى التفاعل بالإعجاب أو غيره من الانفعالات المبالغ فيها، وأخيراً جسداً محشواً من الصوف يحمل على بطنه شاشة تصور له عالماً بعيداً يعيش فيه أناس آخرون يمارسون حيواتهم كاملة، أما نحن على الطرف الآخر من الشاشة فنراقب ذلك ونعيد المقطع مرة تلو الأخرى في عالم أخرس تماماً.

هذا الانتقال من الكتابي إلى البصري رهن عصرنا الوسائطي كما يرى ريجيس دوبريه، لكنه يؤكد على المبدأ الذي يُفقِدُ الشيء قيمته كلما كَثُر، متوقعاً موت الصورة بعد وصولها إلى أوج انتشارها وسيطرتها. يبشر الكاتب والثائر الفرنسي إذاً بالزمن الذي يمضي تدريجيا لصالح الكتابة بعد أن تسأم الناس هذه المادية الجمالية، لتختار اللغة والشعر كروحانية مفتقدة، لا تستطيع الصورة إيصالها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • ديوان الأول والتالي لسركون بولص
أدب ثقافة وفكر

عن الكاتب

مزنة الرحبي