نون المنفى .. سيرة نساء من هناك

كتب بواسطة حواس محمود

المنفى هذا التعبير الذي يحمل في طياته الكثير من المعاني والدلالات التي من شأنها أن تغير من سيكولوجية الانسان  وتزرع في قلبه ألم الفراق  ولوعة الحنين الى ذاكرته التي شكلت روحه ، وهو يغادر مجبراً وطنه الذي اغتالته الشياطين وأمراء الحرب  واجتمعت عليه الغربان تنهش في أجساد ابنائه  .

 المنفى بقلم اثنتي عشر  ناشطة  نسويه كردية  وسودانية ،  الّفت بين اقلامهن كاتبة سودانية هي معدة الكتاب الحالي ” نون المنفى ” د . اشراقة مصطفى حامد

تقدم المؤلفة كتابها بالقول : ” تبلورت هذه الفكرة منذ سنوات طويلة كمشروع شغلني تنفيذه لا أحد سوانا نحن اللاتي ننتمي لجنوب الكرة الارضية وتناثرت في كل بلاد العالم  لا أحد سوانا يستطيع  أن يكتب سيرتنا / حكاياتنا احلامنا  معاناتنا عذاباتنا اشواقنا هواجسنا احباطاتنا وحقول الالغام التي تنبت كل يوم في طريقنا لا أحد سوانا ”  .  ص 5

زينب خوجة في نص”  الضفيرة  ” :

الناشطة النسوية الكردية زينب خوجة في  نص بعنوان ” الضفيرة ” تكتب سيرتها الاغترابية .

تصل زينب المانيا وبعد مكوث خمس سنوات تقول ” نظرتُ من نافذة المطبخ الى الشارع على صوت قهقهات طفولية ، قميص أخضر فسفوري يرتديه أحد الصغار وهو يحمل بين يديه كرة ثلج يعاكس بها أقرانه ، رأيته يسقط ولكن سرعان ما ابتسم ، وتابع طريقه ليكمل اللعب ، فجأة رأيت ذاكرتي مصلوبة وراء تلك الحدود المسيجة التي يلتحف عراءها بشر مثلنا تماماً ، قادمون من أوطان الموت ، رأيت كل المدن مهاجرة هناك ، عوائل من كوباني وقريباً منهم على مرآى اليتم كثيرون من عفرين ، عرفتهم من لهجتهم ، سري كانييه ( رأس العين ) عامودا ، قامشلي  ، حلب ، دمشق ، ادلب ، درعا ، ومن كل المدن السورية ، الى جانب بشر  من بلدان أخرى بعيدة وقريبة عربية وأعجمية ، يا إلهي هل هو الحشر أم أن بي مس من الجن ” ص 44 .

نقوش على جدار الذاكرة  سناء شبو  :

تنتقل سناء شبو في رحلة الهجرة  المتعبة من الخرطوم الى جدة الى سويسرا الى امريكا ، وفي امريكا بعد أن تكسر حاجز اللغة وتتغلب على صعوباتها تزداد ثقة بنفسها وتشعر أنّ الانسان قادر على فك طلاسم اللغة والتقرب من الآخر

تسكن في مدينة فرجينا بحي  meklean    ، وتشعر بالحب تجاه هذا الحي ، وذلك أنّ جيرانها من ذلك الحي  كانوا قد تعاملوا معها بغاية من اللطف والرقي .

تعود سناء بالذاكرة الى الوراء حيث عنصرية أهل الشمال السوداني  – وهي منهم – تجاه بعض القبائل من خلال تشغيلهم كخدم في بيوتهم ونظرتهم الاستعلائية اليهم وعدم قبول الزواج منهم ، وهي اذ تسجل هذا الاعتراف فإن ذلك لم  يأت الا كنتيجة لمعاناتها من هذه العنصرية في بلاد الاغتراب حيث لجأت اليها . ص 55

بين ميلادين  – شادية عبد المنعم  :

” انا التي هاجرت  ثلاث مرات لثلاث دول مختلفة ، وفي كل مرة لسبب مختلف تماماً ، وفي ظروف لا تخلو من التعقيدات لكنها في جوهرها هجرات خرجت منها متماسكة ، لم تخصم مني بل اكسبتني تجربة ثرة ومعاناة صقلت روحي ، لاحظتها في هجرتي الاخيرة كما آمل الى ألمانيا مؤخراً ، بعد أن تزوجت للمرة الثانية ، فانتقلت مع زوجي ، وبدأت فصلاً جديداً من معاناة لم أسبر غورها بعد ، بدأت بتعلم لغة جديدة مرة أخرى والاندماج في مجتمع تختلف ملامحه تماماً عن المجتمعات التي هاجرت اليها من قبل في ظروف اجتماعية وسياسية ، وأيضا اقتصادية تحمل تحديات صعبة ”

شادية عبد المنعم تتحدث في سيرتها عن معاناتها التي رافقتها في هجرتها ومعاناتها في بلدها.  ص 62

تكلمي الالمانية  صبيحة خليل :

بعد وصولها المانيا تُسأل صبيحة هل تعرف التكلم بالألمانية من قبل المساعد الاجتماعي ، تتحدث في سيرتها عن معاناتها ضمن الوطن وهي معلمة كردية  كانت تدرّس في حلب ، تقول في سيرتها بمرارة عن الوطن : ” يقولون الوطن ليس فندقا تغادره حينما تسوء الخدمة ” وتجيبب بالقول ” هذا صحيح ، ليس فندقا لكنه بالتأكيد سجن كبير ”   ص 84

وعن إقامتها بألمانيا وغيابها عن الوطن واشتعال  اوار الغربة وأوجاعها في مخيلتها تقول ” حفظت الدرس لا صداقات دائمة هنا ، والمواعيد تشكل عبئاً اضافياً يثقل كاهلي وروحي  المشتتة خلف تبعثر الأهل والأصدقاء ، عندما أنظر الزمن خلفي أجد أنّ ثماني سنوات مرت خرجتُ  من سوريا خريف عام  2012 ومنطاد اغترابي  يرتفع عالياً ولم يحط بي على بر بعد “  .  ص 85

العبور  فرحة خليل :

تلخص فرحة خليل حالة القلق والحيرة بين البقاء في الوطن مع وجود القمع  ضد المواطن ونبذه من قبل سلطة تلغي السياسة وتلغي الثقافة وتحط من الكرامة الانسانية  او الهجرة والاغتراب عن الوطن   تقول :  ” كان الخيار صعباً بين الهجرة  وترك كل شيء خلفنا أو البقاء في الوطن والعيش في ظل نظام البعث الذي يجرد المواطن الكردي من كل حقوقه ، لمجرد أنه كردي ، فالخياران أحلاهما مر ،  فقد احتاج قرار الهجرة منا الكثير من الوقت والأعصاب والدموع ، ولكن في النهاية حصلنا على فيزا ، واتخذنا قرارنا أخيراً بأن نخوض تجربة الاغتراب ونبحث عن مستقبل افضل لنا ولأطفالنا اسوة بغيرنا من العائلات الكردية الشابة “ ص 94

طفلة تشبه مدينة قديمة  – كلبهار محمد  :

تتحدث كلبهار الناشطة النسوية الكردية  ابنة مدينة قامشلي بصورة مؤلمة عن الغربة والحنين الى الحياة اليومية في الوطن حيث أنّها كانت قد اعتادت مظاهر اجتماعية  تغيب عنها في بلاد المهجر ”  هنا في هولندا حياة لا تشبهني وصباحات لا أنتمي اليها وأناس لا أستطيع أن أتحدث معهم كما أشاء ، هنا لا نسوة يجلسن أمام باب المنزل ويسردن قصصاً  مضت ، ولا أطفال يلعبون في الشارع وتتجنبني كراتهم وأحجارهم في الأمس ، تمنيت أن ترتطم حَجَرَةٌ من طفل يلعب برأسي  النزيف والألم .

هنا في هولندا لا احبة ولا أصدقاء ولا قصص ولا قضايا ، لا ثورات  ولا انتفاضات  ، لا حروب ولا انفجارات لا افراح ولا اوقات مجتمعة ، هنا وحدها الذاكرة موجودة ” ص 120 

من قلبي  ماريا عباس  :

ماريا عباس أم لأربعة أولاد هم بنتان هيا وهيلين وأبنين هما سفين ومحمد ، زوجها لا يفكر بالهجرة والرحيل من مدينة القامشلي التي سكنوها حديثا ، والتي احبتها ماريا واعتبرتها وطنا لها ، ظروف الحرب والنزعات المسلحة ضغطت عليها ، وبعد ان شاهدت ابنتها هيا كابوسا مزعجا يتعلق بهذه النزعات  وبرغبة من ابنها سفين  وتشجيع الام  يقرر سفين الرحيل الى دولة اوروبية – النمسا – عبر   ركوب البحر عبر قارب بحري يسمونه بصيغة الجمع ” قوارب الموت ” تستغرب صديقات وقريبات ماريا كيف تجرأت على ارسال ابنها الى هذه المخاطرة المرعبة ، لكن ضغط الحرب والخوف على مستقبل ابنائها كان اقوى من عدم الموافقة على رحيل ابنها املا بان يقوم بلم شمل العائلة فيما بعد كما يفعل الكثيرون ، يضاف الى ذلك ان الشباب في مثل سن ابنها ذو الخمسة عشر عاما يحملون السلاح ويتفاخرون به وهذا امر طبيعي لمراهقين بمثل هذا العمر .  ص 137

رمال حارقة  مريم محمد عبد الله وقيع الله  :

” بعد ان استقر بنا  الحال في بنقاو كنت أحاول  ان ابدو متماسكة امام اطفالي  ، الا انني كنت  احيانا انفجر باكية وسط استغرابهم “

مريم متمسكة بوطنها رغم هجرتها الى النمسا ” بنقاو ” وتقرر العودة الى الوطن رغم محاولة عائلة صديقة ( اولي وليو ) ثنيها عن هذا القرار ، تتساءل بمرارة  عن مصير شعبها ووطنها ” كنت احس يحسرة شديدة على شبابنا الذين صنعوا ثورة سلمية  كانت حديث العالم ، لكن ما زالت أحلامهم بحياة كريمة بعيدة المنال ” وتضيف قائلة : ” أما آن للنخب السياسية السودانية الخروج من حالة الانكفاء الذاتي والتواصل مع بعضهم البعض بطريقة  خلاقة تضمن مصالح الكل لنتجاوز هذه اللحظة التاريخية “ ص 152

لسنا بخير يا أمي  – مهوش شيخي :

مهوش الناشطة الكردية تتعرض لموجة كآبة والم نفسي شديد  تدخل جراء ذلك المستشفى في المانيا ، تسرد لمرافقتها الالمانية سوزانا معاناتها في الوطن الام  هي تنتمي لعائلة من ولدين وزوج ،  ابنها الاصغر يلتحق بفصيل عسكري بقامشلي مما يحدث لديها قلقا وتوتراً كبيراً ، تبذل جهوداً عديدة لأجل استعادته للعائلة باعتباره طفلاً ولكنها تفشل في ذلك ، يعود الطفل الى البيت بعد معركة بالقرب من قامشلي نحيلاً ضعيفاً على هيئة شبح – كما تصفه – ، تسافر  مهوش مع ابنها الأصغر الى تركيا وتحصل له على فيزا للسفر ، وتنجح في ذلك ، يتم التواصل مع عمهم بألمانيا ليكون الكفيل  في رعايته الى حين أن يعمل أوراق لم شمل العائلة ، ومن ثم تنجح العائلة بالكامل بالوصول الى المانيا بعد معاناة شديدة الوطأة  ومديدة التأثير السلبي بخاصة على الأم  ( مهوش ) .  ص  179

بين الدمعة والابتسامة  نجاح هوفاك :

نتيجة للظروف القاسية جداً ، تتخذ نجاح وزوجها قراراً بالهجرة من سوريا ، البلد الذي يهاجر أهله ، ويغرقون أفواجاً في بحر ايجة ، ومنهم من يمضي أياما بين الغابات ويتوه بعضهم الآخر ، يحاول ابنها ذو ال 16 عاما وأولاد عمها أن يهاجرا لكن بدلاً من ايصالهم لبلغاريا  أوقعهم اثنان من المهربين في شرك المستنقعات اليونانية ، تقلق نجاح عليهم ، تقلق نجاح عليهم لأكثر من يومين حيث  هم غائبين عنها لا خبر ولا علم ولا اتصال ، الى أن يعودوا في اليوم الثالث ، وتكاد لا تتعرف عليهم بسبب نحولهم ولسعات البرغش ، ذلك انهم كانوا قد احتجزوا في ثكنة تركية لأكثر من يومين ، تعرضوا للضرب ، وحرموا من الطعام ، تعود نجاح الى نقطة الصفر ، تحاول ان تجد طريقة أخرى للهجرة ، ولكن تأتي المفاجأة التي تقلب الموازين بحسب تعبيرها ، إذ هاتفها ابن عم أولادها  قائلا : لقد قبلت طلبتكم طلبية لم الشمل الى المانيا  ، وكانت قد نسيت طلبية لم الشمل التي قدمتها ابنة عم أولادها قبل ستة أشهر ، البشرى هذه بددت القلق وبثت السرور في نفوسهم ، وما عادوا بحاجة لمهربين بعد الآن .  ص 182

رحلة متعبة حقا ، ومعاناة نفسية شاقة ، عانتها عائلة نجاح والعديد من العوائل السورية ، ولا زالت الهجرة مستمرة والنزيف متواصلاً للأسف .

الهروب ولكن الى اين  نجاح سيدو :

على وقع الحرب السورية  انتقلت نجاح الى  أربيل / كردستان العراق وعملت هناك لسنتين في مهن مختلفة ،  وتعرضت هناك لمواقف  وحالات محرجة  ، ولكنها تجاوزتها جميعاً ، تنتقل نجاح فيما بعد الى المانيا ، ويبدو من خلال سردها لسيرتها أنّ زوجها يحبها ويهتم بها وهو الماني اللغة والثقافة ،  وهي في ألمانيا تشعر أنّ الوضع أكثر أمانا وسلاسة ، تقول : ” نحن نجتمع أحيانا مع الأصدقاء في حدائق برلين الشاسعة ، الأشبه بالغابة ، نتسامر ، نتبادل الخبرات والمعلومات عن الثقافات “ ص 217

بين ليلة القدر والغدر  هيفارون الشريف :

بأسلوب أدبي سلس يجذب القارئ ليتعرف على مأساة العصر في مدينة كوباني السورية عندما هاجمتها جحافل داعش وعاثت فيها قتلاً ونهباً وتخريباً وتشريداً تقول هيفارون  عن النازحين الى تركيا من كوباني : ” لحظة لا يمكن نسيانها حثيثة اللهاثات ، عليلة الرؤى ، أأتقدم نحوهم ، أحضنهم وانضم اليهم ، أم أكمل المسير ، لأوزع ما تبقى من الأغطية في ساعة متأخرة  من الليل ، اختلط النحيب بالصراخ وساد صمت قاتل ، وأنا ارمقهم حيناً وارفع معنوياتهم حيناً آخر ، متناسية معنوياتي التي باتت في الحضيض .

استحضر في ذاكرتي صورة التغريبة الفلسطينية وأملهم في العودة حين رأيتهم في اليوم الثاني ينصبون المخيمات .

أحقا سنسكن الخيم ولن تكون لنا عودة ؟! أسئلة كثيرة وضياع شامل  ” ص 230

بعد سرد ما حدث لأهالي كوباني من مجازر ومصائب وهجرة ، تعود هيفارون للقول إنها وعائلتها قد حط بهم الرحال الى المانيا بعد معاناة طويلة حيث ” مشوار التيه والتشرد مكرهين لا مخيرين ، مع رائحة الموت القادم من أرض الاجداد والآباء ومرتع الطفولة والصبا ، فالوجع كالحزن لا يليق به سوى الصمت أو الصراخ اللامتناهي ، وبما أن الصراخ ممنوع في البلاد الباردة ، سأصمت في حضرة القهر والمواجع “ ص 236 .

ختاماً :

يعتبر الكتاب الذي تم الحديث عنه أعلاه  ثمرة لأحدى ورش الكتابة الابداعية لكتابة السيرة ، مسيرة لمهاجرات من النمسا المانيا وهولندا بالتعاون بين “فنون بنات مندي ” و”أصوات نسوية كردية ” والتي تمت عبر الزوم ولمدة خمس واربعين يوماً فولدت الكتاب الحالي ( نون المنفى ، سيرة نساء من هناك ) .

إنها تجربة جديدة من خلال السيّر المختلفة التي تجسد المعاناة والظروف القاهرة والصعبة جداً التي لقينها مع عوائلهن خلال رحلة الهجرة والتغرب الى منافي أوروبا بعد أن ساءت الأحوال كافة في بلادهن .

هامش :

الكتاب : نون المنفى سيرة نساء من هناك

تأليف : د . اشراقة مصطفى

 الناشر :     دار الريم للنشر والتوزيع  الخرطوم   2021

أدب

عن الكاتب

حواس محمود