في نهاية كتابها المثير، والمحرض على التفكير النقدي، كيت روورث تلخص رسالتها في الكتاب كالتالي:
إن مهمة القرن الحادي والعشرين واضحة جدا، هي خلق اقتصاد يعزز الرخاء الإنساني ضمن شبكة مترابطة تؤدي الى حياة كريمة، بحيث نتمكن من العيش في توازن ضمن حدود مساحة الدونت الامنة والعادلة. فلنبدأ بالاعتراف بان كل اقتصاد محلي Hو عالمي هو جزء لا يتجزأ من المجتمع وضمن نطاق العالم الحيوي. والذي يعني الاعتراف بان الاسرة، والملكيات العامة ( The commons )، والسوق، والدولة، يمكن ان تكون جميعها وسائل فعالة لتوفير احتياجاتنا ورغباتنا العديدة، وتكون اكثر فعالية اذا عملت في توافق تام، من خلال تعميق فهمنا للطبيعة البشرية، وبإمكاننا انشاء مؤسسات وحوافز لتعزيز التضامن الاجتماعي عوضا عن العمل على تقويضها. بمجرد قبول التعقيد المتأصل في الاقتصاد، يمكننا تشكيل ديناميكيات دائمة التطور من خلال الاشراف الحصيف. وهذا يفتح إمكانية تحويل الاقتصادات الانقسامية والضمورية اليوم الي اقتصادات تضامنية ومتجددة من خلال سياسات موجه. وان نكون محايدين بشان النمو، وبالتالي خلق اقتصادات مزدهرة، سواء كان هناك نمو ام لا.( ص 287).
هذا الاقتباس يشير إلى سبعة طرق للتفكير الحديث لمقاربة الوضع الاقتصادي وفي الاقتصاد كعلم. ماهي هذه الطرق السبعة التي تم تناولها في الكتاب؟ الطريقة الأولى هي الحاجة إلى تغيير اهداف الاقتصاد، عوضا عن التركيز على الناتج المحلي الإجمالي كرافعة للتطور الاجتماعي، على الإنسانية ان تركز على انشاء حد ادنى للرفاهية لا ينبغي لشخص ما ان ينخفض مستواه المعيشي دون ذلك، وان يكون هناك سقف بيئي لا يمكن للاقتصاد أن يتجاوزه. بين الأساس الاجتماعي للرفاهية للجميع والحفاظ على بيئة قابلة للاستدامة، على النمو الاقتصادي ان يكون حريصا دون تجاوز هذين الهدفين لنكون في مساحة امنة وعادلة للبشرية.
تضيف روروث ستة طرق إضافية للفكر الاقتصادي في القرن الحادي والعشرين : 2- تجاوز السوق والبحث في الدور الذي تمارسه الدولة، والاسر، والملكيات العامة. 3- التوصل الى ان الفعاليات الاقتصادية ليست مدفوعة فقط بتحقيق مصالحها الذاتية، وانما هم ذوات اجتماعية ومستقلة.- 4 يجب ان نأخذ في الاعتبار ان الاقتصاد لا يمكن نمذجته على أساس توازن ميكانيكي، بل هو نظام ديناميكي معقد مع حلقات للتغذية الراجعة ونقاط للتحول الحرجة. 5- النظر بان عدم المساواة الاقتصادية ليست سمة لا مفر منها للنظام الاقتصادي، وانما هي نتيجة لفشل السياسات الاقتصادية التي يمكن تغييرها. 6 – للقبول بالحدود البيئية التي تفرض علينا بناء اقتصاد دائري متجدد. 7- لنكتشف الكيفية التي يمكن فيها للاقتصاد ان يتجاوز ادمانه على النمو.
كيت روروث بروفسورة للاقتصاد في جامعة اكسفورد، ولكنها ليست من هؤلاء الاكاديميين الذين قضوا كل حياتهم في مكاتب واروقة الجامعة، وانما خاضت تجارب عملية وحياتية مهمة كالعمل مع رجال اعمال حفاة في زنجبار، كما شاركت في اعداد تقرير التنمية البشرية لمنظمة الأمم المتحدة، وعملت كذلك مع اوكسفام OXFAM لسنوات عديدة للقضاء على الفقر.
ماذا تقصد روروث بنموذج الدونتس، المعروف ان الدونتس يتكون من حلقات، فالحلقة الداخلية تمثل “الأساس الاجتماعي”، بحيث ان كل شخص على الكوكب يتمتع بما يكفي من الغذاء والضمان الاجتماعي، اما الحلقة الخارجية فتمثل الحلقة البيئية، بمعنى ان أي زيادة في الاستهلاك تتجاوز هذه الحلقة يدمر البيئة بطريقة لا يمكن إصلاحها. الهدف هو ابقاء الإنسانية في المنطقة الواقعة بين الحلقات، حيث يكون لدى الجميع ما يكفى ولكن ليس كثيرا او كما تسميها روروث” مساحة امنة وعادلة” في الدونتس.
اذا كنت على معرفة بآراء هيمن مانسك، ودانييل كيهنمان، وجوزيف استغلتز، وهاي جون جانج ، فانك لن تجد كثيرا من المفاجآت فيما تقدمه روروث هنا، ولكن اذ لم تكن على اطلاع، يمثل الكتاب توليفة مركزة من النظريات غير التقليدية الحديثة. مساهمة روورث المتميزة هو تركيزها على موضوعات البيئة. كثير من الكتاب بما فيهم الراديكاليون يميلون الي التعامل مع الاقتصاد والبيئة كقضايا منفصلة، رغم اعترافهم بان احدهما له تأثير على الاخر. وهي محقة عندما تؤكد ان المفهوم التقليدي للعوامل الخارجية او الاثار الجانبية، والتي توحي بان مشكلة مثل مشكلة التلوث لا يحتاج الاقتصاديين الى جعلها مركزية في دراساتهم.
تتسأل روروث: ماذا لو بدانا ليس بالنظريات الاقتصادية الراسخة او التقليدية، ولكن بأهداف البشرية طويلة الاجل، ثم بحثنا عن النظريات الاقتصادية التي يمكنها تحقيق هذه الأهداف؟ لذلك تزعم روروث ان مواجهة الهيمنة الحالية للنظرية الاقتصادية ضرورية للغاية اذا اردنا ان نجعل النظم الاقتصادية-السياسية الحالية مستدامة، لآن “الاقتصاد هو اللغة الام للسياسات العامة، ولغة الحياة اليومية، والعقلية التي تشكل المجتمع.” فنظرية الدونت التي تقترحها هي دليل مرئي للفكر الاقتصادي في القرن الحادي والعشرين، انها تجادل بان النمو الاقتصادي يجب ان يتحدد في مساحة “امنة وعادلة” بين السقف البيئي والاساس الاجتماعي.
تقوم روروث بنقد الاقتصاديين والسياسيين بانهم يكثرون من مناقشة الفعالية، والإنتاجية، والنمو، بينما يترددون في مناقشة موضوع العدالة، والانصاف والحقوق. هي تدعو الى وضع الانسانية في قلب اهتمامات الفكر الاقتصادي، وهي تنتقد جامعة هارفارد ومدرسة لندن للاقتصاد اللذان يشجعان البحوث التي تنشر في افضل الفصليات الاقتصادية، ولكن هذه الفصليات ببساطة همها المحافظة على الوضع الراهن. لذلك تقترح ان يتم تدريس مساقات التاريخ والفلسفة تزامنا مع دراسة الاقتصاد.
روروث تكتب ان الاقتصاد ليس خطيا، وميكانيكا، وقابلا للتنبؤ، كما لا يمكن اختصاره في نظرية الاقتصاد الكلي السائدة لتوازن السوق. بدلا من ذلك نحتاج الى التخلي عن الضوابط التي تهدف الى إعادة الأسواق الى حالة توازن خيالية، علينا الاعتماد على نهج اكثر اتساقا مع العالم الطبيعي والذي يعترف بالتفاعل بين الكتل والتدفقات ولكن أيضا بوجود حلقات التغذية الراجعة والتأخير. علينا التركيز المتزايد لفهم التعقيد من خلال منهج ديمومة النظم الشبكية والذى من شانه ان يساعد الاقتصاديين والمستثمرين على فهم المحاور الرئيسية بشكل افضل، والاستفادة من نقاط الارتكاز في النظام المالي والتي يمكن ان تؤدى الى انتقال الازمات أو الانهيار.
روروث تطرح موضوع الاخلاق والاقتصاد فهي ترى ان الاقتصاد عملية معقدة لذلك يتطلب من واضعي السياسات الاقتصادية ان يتمتعوا بميثاق عمل أخلاقي، ان يكون هناك قسم للاقتصاديين كما هو الحال مع قسم ابقراط للأطباء( طبعا قسم الأطباء لم يمنعهم من استغلال المرضى لصالحهم او لصالح شركات الادوية الاحتكارية). لذلك تقترح أربعة مبادئ يجب على الاقتصاديين الالتزام بها: “الأول، العمل على الرخاء البشري وذلك في توفر مقومات حياة كريمة للجميع. ثانيا، احترام استقلالية المجتمعات التي تخدمها من خلال ضمان مشاركتها وموافقتها، مع تفهم اوجه عدم المساواة والاختلاف التي قد تكون داخل هذه المجتمعات. ثالثا، على الاقتصادي ان يكون حذرا في صنع السياسات، والسعي لتقليل الضرر خاصة على الفئات الاكثر ضعفا في مواجهة عدم اليقين. أخيرا، العمل بتواضع من خلال جعل الافتراضات واوجه القصور في نموذجك شفافة، عن طريق طرح وفهم الاختيارات والأدوات الاقتصادية البديلة.
بعض من الآراء التي تطرحها روروث رغم صحة نقدها للنظرية الاقتصادية التقليدية، تبدو طوباوية او مثالية فهي تكرر بلغة الجمع نحن ولا نعرف من تقصد بنحن؟ حيث ان الناس يختلفون في توجهاتهم ومصالحهم ولا يكفي ان نطرح افكارا معينة لنصل الى قناعة انها ستغير من أوضاع ومصالح قائمة يدافع عنها بشراسة. كما ان موضوع النمو الاقتصادي لايزال مهما بالنسبة للدول الفقيرة فكيف للشعوب الفقيرة التخلص من الفقر دون نمو اقتصادي مستدام، ونذكر أن النمو الاقتصادي في الصين والهند على سبيل المثال قد انتشل الملايين من الفقر وخلق طبقة متوسطة.