صورة المثقف في أعمال جبرا

كتب بواسطة سمير أحمد الشريف

علامة مضيئة فارقة، في ليل الرواية العربية، لا شك جبرا إبراهيم جبرا.

جبرا، الكاتب، الناقد، الرسام، الشاعر، المترجم، الساطع الألق، الخاطف الحضور، المُبهر الإبداع، المكتظ بالتميز والعمق، عاش شظف العيش، وقاست طفولته الشقية خيباتها، بكل مجالدة لألم الفقر، وإصرار على التفوق، مقتنصا من إشراقات العمر، ما هو مثر، وإبداعي، مُكتملاً ببهجة البحث والمحاولة، ضاربًا بعُرض الحائط صغائر الحياة، غير ملتفت إلا لما هو واعد نافع، مخلصًا للحرف والكلمة، مطاردا شواردها وأنوارها، مما تَمَثَلهُ فرادة في سردياته، وترجماته، ولوحاته، ونقده، مؤرخا حكايات الفقر والوعي والعذاب، الأديب   الذي أغنى المكتبة العربية بما قدّم من تراث ، سيتوقف معه النقد الأدبي طويلا.

هذه الاتجاهات المنوعة للإبداع، لا تدل الا على رجل موهوب غير أننا نرى أن عدم تركيز هذه العطاءات على حقل إبداعي بعينه جعل الأمور تخرج عن بعض حدودها ،خاصة في أدب جبرا الروائي تحديدا والذي يمكن لمن يدرسه أن يخرج بملاحظات تستوقفه كالتباين الواضح بين ما يطالب به جبرا نظريا وبين ما يكتبه لهم واقعا كالموضوعية التي نادى بها وجعلها ضرورة حتمية لكل أديب حتى يخرج عمله ملتزما ، في حين أنه لم يكن موضوعيا مع شخوص رواياته كوليد مسعود- الشخصية التي جعل منها بؤرة الإشعاع وارتفع بها لدرجة التقديس على حساب جميع شخصيات الرواية الذين غمط جبرا حقهم  وتدخّل الكاتب في مسار شخوصه الروائية وإقحامه نفسه بالحديث عنها معترفا أنه يجد في  الرواية ما يروّح بها عن ضيق صدره ويجعل منه ذريعة للتعبير عما يريد قوله ولهذا نراه يقسم نفسه الى أشخاص يمثّل كل منهم جزءا من هذه النفس التي تملؤها التناقضات (مجلة الأديب: عدديناير 1954).

ثالث المحطات ،ضبابية صورة القضية الفلسطينية في أدبه، إذ لم يتعرض لها بعمق نلمس من خلاله اكتوائه  بنيران ويلاتها بالرغم من جعله رواية (البحث عن وليد مسعود)تدور ضمن هذا الإطار إلا أن المعالجة تنقصها الحرارة وتطغى عليها اللغة الخطابية والجدل اللغوي ولم تعكس محاولاته الروائية مذاق المحلية الفلسطينية ولا الانصهار في أتونها كما فعل (غسان كنفاني) وإن كانت الملاحظة الهامة الأخرى هي ما يستحق الوقوف والتقصي والمتمثلة في أن المثقف متهم في أدب جبرا ولكثرة تكرارها توصل المتابع لقناعة مفادها أن هذا الاتهام مقصود ومخطط له ،فهل يمكن القول أن دراسة جبرا في الغربة علاقة بذلك؟

مرة أخرى نؤكد أن المثقف الملتزم جاء متهما في أدب جبرا، الأمر الذي يقودنا لتأكيد مقولة أن جبرا لم يكن موضوعيا مع شخصياته إن لم يكن متحاملا على بعضها ، لا نقول ذلك دفاعا عمن يتبنون أفكارا غير غربية بل مطالبين كاتبا بشهرة جبرا التزام الحياد والموضوعية في رسمه لهذه الشخصيات التي نعرف أنه غير راض عن منابع فكرها.

من يقرأ أدب جبرا يلاحظ بلا عناء تعاطف المؤلف مع شخصية الفلسطيني أولا وشخصية المتمرد غير الملتزم بأيدلوجية، مع أن تعاطفه مع الفلسطيني لم يستطع أن يضعنا كمتلقين أمام هوية خاصة ومذاق محدد لفلسطين فنيا، بل جعلنا نعيش أجواء ارستقراطية بعيدة في مناهج تفكيرها عن فلسطين الشعب والقضية والأرض، اللهم إلا في المشادات والنقاشات الفكرية.

إذا ما توغلنا داخل المسار الروائي وتوقفنا مع روايتي (السفينة والبحث عن وليد مسعود) ووقفنا أمام شخصيات (عبد القادر و كريم وكاظم إسماعيل) نجد مثلا أن شخصية (عبد القادر)في (السفينة)شخصية يحاصرها الكاتب بكل ما يسيء لها ويشوهها وينال منها بالتصوير المسطح آنا وبالسخرية التي يطلقها على مبادئ(عبد القادر) أحيانا أخرى.

شخصية (محمود الراشد) الذي سخر منه (جبرا)وآذاه بذلك بل وعذبه جسديا وهو الأستاذ والجامعي الذي لا ذنب له إلا انه لا يدين بالأفكار الغربية وهذا انموذج للصورة التي وصفها الكاتب للرجل…”كان أول ما لفت نظري في محمود الراشد ، قصر قامته وأنه رغم قصره رجل لا نستطيع تجاهله ، كان رأسه كبيرا ،شعره القصير  أشبه بفرشاة مسطحة تقادم عليها العهد فتآكلت في أماكن كثيرة .

له عينان كبيرتان أو هكذا تحسبهما إذ تبرقان من وراء نظارته الغليظة العدستين والإطار يصر صوته صريرا إذا نطق ولكنه صرير وئيد عنيد يثير الأعصاب أول الأمر إلى أن تعتاد عليه فتنتبه الى ما يقوله ثم تنسى صوته وتشعر بالتحدي الذي يجابهك به فتضطر إلى أخذ الحذر فيما تقوله لئلا يسفه منك كل شيء.. (السفينة ص 107-108).

هذا الدكتور المراهق الذي لم تمنعه ألقابه وشهاداته ومبادئه من ملاحقة الفتيات، وحتى يقنعنا المؤلف بذلك ينطق (محمد الراشد) عبارات مثل.. (مأساتي أنني لم أتشبث يوما بامرأة، أحبهن جميعا ،دميمات، جميلات، سمر، شقر…هات ما عندك..(السفينة ص33).

النموذج الثالث الذي يؤكد ما ذهبنا اليه، شخصية (كاظم اسماعيل)، المحامي الذي سلخ من عمره خمسة وثلاثين عاما دون تحقيق خطوة واحدة على طريق النجاح، هذا المحامي لا مصدر لعيشه غير والده التاجر بالجلود !!

المحامي الذي تقوقع على نفسه نتيجة فشله وأصبح مرتعا لأمراض الخيبة والوحشة والانطواء، رغم محاولاته المتكررة لكتابة الشعر والقصة..(البحث عن وليد مسعود ص 54-55.

يصوّر جبرا (كاظم اسماعيل) فاشلا في حياته الزوجية واضعا له صورة تصل حد الرسم الكاريكاتوري …ارتفعت كتفاه بحدبة بائسة غار فيها رأسه…وليس هذا فقط بل يقطع الكاتب على هذه الشخصية أي مجال لإمكانية تعاطف القارئ فيصوره سيئ الظن بالناس، حقودا، لا يحب الا نفسه، حتى أصدقاءه يتنكر لهم و يحسدهم ، وكل هذا لا يشفي غليل جبرا للنيل من (كاظم اسماعيل)بل ويعاقبه بتركه عرضة للجو الماطر الرديء في المكان الخالي النائي على يد (وليد مسعود)الذي يقذف بكاظم من باب سيارته بعد حوار ملتهب(البحث عن وليد مسعود ص59/60).

ترى ، هل من أسباب وراء سلوك جبرا في تعامله مع شخوصه المثقفة على وجه التحديد بثقافة ذات مصادر محددة؟ وهل لذلك علاقة ما بحياة جبرا ابراهيم جبرا وفلسفته الحياتية الخاصة؟

أدب

عن الكاتب

سمير أحمد الشريف