عبد الرحمن منيف، المبدع الذي دخل عالم الأدب من بوابة الرواية، فوضع بصمته عليها بما أضافه للمكتبة من نصوص لافتة على مستوى النوع والكم، وخلال فترة زمنية قصيرة نسبيا، الأمر الذي يعكس جديته وشمولية نظرته وسخونة القضايا التي يعالجها فوقف جنبا لجنب مع كتاب الرواية الذين قطعوا شوطا طويلا في كتابتها إن لم يتفوق عليهم.
“شرق المتوسط” الرواية موضوع القراءة، تحتل الترتيب الثالث في اصدارات عبد الرحمن منيف، والتي سيكون وقوفنا فيها مع “صورة الأم” والذي نبع من سبب رئيس واحد تمثل في أن هذه الأم احتلت مكانة جديدة واكتست بملامح مشرقة ولأول مرة بعد “أم سعد غسان كنفاني “، على النقيض من صورتها في الرواية العربية التي عالجت نفس الهموم أو شارفتها.
إنّ الموضوع الذي تدور حوله شرق المتوسط هو السجين الذي تناقش الرواية ما جرى لرجب وعبر فصولها جميعا ،الأوضاع الإنسانية التي يعانيها سجين شرق المتوسط، أما لماذا أطلقنا على الأم في هذه الرواية سمة التميز، فلأننا تعودنا أن نرى للأم دورا سلبيا باهتا ضعيفا متخاذلا ،خاصة في الحالات التي يتعرض فيها الأبناء أو الأزواج لمتاعب واعتقال نتيجة مواقفهم السياسية ،فالأم كما تصورها الروايات تبكي عادة في وجه الأبن أو الزوج ، وتحاول منعه من مواصلة نشاطه التي تعتقد أنه سينتهي به إلى مالا تحمد عقباه من اعتقال أو سجن أو إعدام ،لكن الأم هنا كأنما خلعت لباس أمومتها وشمّرت عن سواعدها واتخذت موقفا محددا جريئا –الوقوف مع الأبن-الذي كان له قراره ورؤيته وتحليله ومايز بين الكثير من الخيارات فاختار ما توصلت له قناعاته من صواب رأيه ،تدفع الأم بفلذة كبدها عكس نمطية الأم المعهودة ،كأنما تنحر عاطفة أمومتها وتدفنها في قلبها ،وتقرر أن تمدّ وليدها بجرعة صمود ،وتضخ فيه أنفاس التحدي وتزرع فيه بذور الشجاعة ، بل وتلح عليه بعدم سماع كلام النسوان ،وكأنها بذلك تخرج عن كينونة الأنثى والأم فيها أما ما يحتاجه الوطن والمبدأ والقناعة ،”اسمع يا رجب ، أنا أمك وأنت قطعة من لحمي ، وليس في هذه الدنيا أحد يعزك مثلي…لكن ، لا تسمع كلام عمتك ..ماذا تقول للناس؟ لأصدقائك غدا إذا اعترفت وخرجت؟ الحبس يا ولدي ينقضي، فتّح عينا وأغمض عينا، تمر الأيام وتبقى رافعا رأسك، إذا اعترفت فكلهم سيقولون خائنا ولا تستطيع أن تنظر في وجه أحد” ص 30.
حتى الدموع، رفضت أن تظهرها أمام ابنها فاحترقت من داخلها بنيران أمومتها لأنها ترى البكاء في هذا الموقف يهدُّ أكبر الرجال، وأن أقسى ضربة توجه لرجل أن يرى ـ أمه أو أخته تبكي، ص76.
الأم التي وقفت مكان زوجها، وعملت بكل جد وتفان وإخلاص تخيط الثياب للآخرين مقابل الحصول على ما تسد به عوز أسرتها، وعندما اعتقل ولدها كانت تحمل أوراقه وتوزعها على رفاقه وأصدقائه دون خوف…كانت تتكوم لساعات أمام زاوية السجن تحمل له الملابس والطعام والرسائل والتشجيع، دون كلل ، حتى لو لاقت الدفع والشتيمة ، وسماع لغة لا تليق ببشر” لو لم تكوني بغيا لما خلفت هذا القواد”ص32.
هذه الأم التي وقفت ضد ابنها البكر “أسعد”، لاحظ علاقة اسمها باسم أم سعد لغسان كنفاني، بعد أن تنكر لمواقف أخيه “رجب” وطالبه لاعتراف، فإن لم يفعل فليس بأخيه، فقالت عنه “أسعد مات بالنسبة لي …ولم يكن موجودا بنظري، إنه خسيس لئيم، باعنا بعد وفاة والدة مباشرة ” ص31.
إنها الأم التي وقفت بجانب ابنها في محنته، تذكره بمواقف الرجولة، وتهوّن عليه “الدنيا حياة وموت يا رجب، وصيتي لك أن لا تضر أحدا، تحمّل يا ولدي، ص32.
أم سعد لم تتخذ هذا الموقف الغريب على كونها أما، وعلى وضعها كأم فقط، بل كانت دوما تنعى مواقف الأمهات الضعيفات اللواتي تلتقي بهن أمام باب السجن ” الله يقطع هذي الأم، هذه ليست أما …نكون جالسين بانتظار أن يسمحوا لنا، وما أن يظهر آمر الحرس ويبدأ ينادي على الأسماء حتى تولول والدموع على خديها قناطير …قبل دقيقة كانت امرأة عاقلة تحكي وتنتظر، لكن حين تدخل على ابنها يسبقها صوت ولولاتها، هذه الأم تقتل “ص 54.
السؤال هنا، هل اتخذت أم سعد هذا الموقف لأنها أدركت بفطرتها أن ابنها على حق بعد أن اقتنعت هي الأخرى بموقفه، أم أنها خبرت طموح ولدها وآلت على نفسها أن تقف في وجهه وتفسد عليه حلمه الكبير في أن يصبح شيئا مذكورا، يعوضها في جانب وفاة الأب، وفي آخر يسد مكان الأبن الأكبر الذي مات برأيها من زمان بعيد ولم يعد أهلا لتحمّل مسؤولية الأسرة؟
هل أدرك رجب مكانة هذه الأم التي شغلت هذا الحيّز من حياة الأسرة وقدّر لها مواقفها فاعترف بذلك وبوضوح عندما قال “كانت أمي صخرة… كانت أصلب من كل الصخور، ص32.
هل لهذا أدرك معنى الفقد عند موتها وعندما وجد نفسه وحيدا في غابة الذئاب بلا أب يسنده ولا أخ يشد من عضده أو حتى أخت تهوّن عليه مصائب ما يلاقي من واقع مزر والآم وسجن، فشعر بالضآلة والضعف، فقال بشعور مضمخ بالفجيعة والفقد “أمي وحدها القوية، حملت معها قوتها ورحلت ولم تترك إلا الضعف ” ص 26.
يكون لذلك معنى في اللحظة التي يقارن مواقف أمه بمواقف أخته أنيسة التي لن ينسى محاولاتها في تفتيت قوته وتيئيسه وزعزعة مواقفه لإجباره على التراجع عندما تذكّره بالسجن وأهواله، فتتسلل اليه من مكان الضعف والخطر” خذ بالك يا رجب، ربما سمعت بالمحاكمة التي جرت الأسبوع الماضي …ضاعفوا المدة لجابر…رجب، اسمعني ولا تأخذ برأيي…أصبحت كبيرا وعاقلا ويمكن أن تقدر الذي يضرك، “نعمان” انتحر والناس يقولون أنهم قتلوه … آه لو ترى نفسك في المرآة، لم يبق منك الا الجلد والعظم…عيونك مصفرّة ص27.
لهذا كثيرا ما ردد رجب في خلوته وعندما ينام من حوله” أنيسة التي دمرت حياتي، جعلت أيامي الأخيرة في السجن جحيما، كانت تنقل لي حقارات العالم الخارجي” ص26.
يقارن رجب بعد موت أمه بين أمه وأنيسة وخطيبته هدى، ثلاث صور للمرأة /الأنثى، اثنتان أدارتا له طهريهما وتركتاه وحيدا، في حين أن الأم هي الوحيدة التي وقفت معه وعوّضته اعن قسوة العالم –هذه الأم لم تكن غير سوية كما يظن، بل كانت تكابر وتحمل جراحات أمومتها صابرة حتى لا ينهار رجب، فقد كانت عندما تخلوا لنفسها تعاودها طبيعة الأم فيها فتنخرط في البكاء ثم تنوح كما لو كان رجب ميتا، فإذا تعبت من البكاء صلت ركعتين ودعت الله ” ص 130.
اللافت للنظر في شخصية الأم أن صورتها المثالية النادرة لم تتشكل بهذه العظمة وهذه المهابة منذ بداية الرواية، فقد حاولت ككل الأمهات أن تقف بوجه ولدها محاولة منعه من ممارسة السياسة التي تخرب البيوت وتوقع في المهالك وتوصل للضياع كما تظن ، ص64،وعندما يرد عليها بأنه كبير ويعرف ما يفعله ،ترد أن قلبها فلب أم وعليه أن يسمع كلامها فيقول حانقا انت لا تعرفين شيئا ،فلا تتمالك نفسها من الغضب وتثور في وجهه يائسة “مائة جهنم وأكون مجنونة لو سألت عنك” ص 65، فما الذي حدث وغيّر أم أسعد وكان وراء هذا التحوّل؟
هل نقول إن عبد الرحمن منيف اطلع على رواية غسان كنفاني وتأثر بها وأراد أن يوجد نموذجا مشرقا للأم في روايته على غرار أم سعد فلم يستطع وتفلت منه إطار الأم في شرق المتوسط حتى خرجت متناقضة؟
هل نأخذ بالتحليل النفسي للشخصيات ونرى أن هذه المرأة عملت ما عملت بعد أن رأت ابنها غير مكتمل الرجولة نتيجة تربيتها له وفقدانه لتربية الرجل الذي مات ورجب صغير السن، فأرادت أن تبحر في قارب الرجولة وتتقمص دور الرجل فتحل محل الأب /الزوج تعويضا لرجب عما فقده؟ هل نغالي ونشتط بالقول إنها رأت بوادر رجولة غير عادية من جانب رجب فوقفت منه هذا الموقف لكي تعطّل الرجولة فيه حتى يظل تحت جناحها و سيطرتها؟ هل طاف في وجدانه شعور أنها بسبب من فقدانها زوجها أرادت أن توجد في وجدانها صورة بديلة للرجولة التي افتقدتها ولو في شخص رجب، وبهذا ترضي غرورها وتشبع نزعتها أن يكون لها رجل حتى لو كان ابنها؟
هل شعر رجب – على الجانب الآخر- في دواخله بعدم اكتمال رجولته، فارتضى لأمه أن ترسم له حدود عالمه، وتكوّن اطاره الذكوري فارتمى في حضن الأم راضيا أن تفعل به ما تشاء، ولهذا صرخ عند موتها بأنه لم يعد رجلا؟ وعندما استلقت أمامه المرأة في باريس بعد سنين من التوق لامرأة، لم يحرك ساكنا، وقال بعد لحظات صمت طالت، كلمة حيية خجلى ” أنا لست رجلا ” ص 156.