أمين معلوف عرّاب الهويات الضائعة

كتب بواسطة سمير أحمد الشريف

رواية ليون الأفريقي نموذجا

أمين معلوف، الكاتب الصحفي، والمؤلف الفرنسي الذي اشتهر بكونه روائيا فيما بعد، يكتب الرواية الاستشرافية، وهو عربي لبناني، يعيش في فرنسا منذ 1976بسبب من الحرب الأهلية، تدور رواياته حول ثيمة الهجرة والهوية – وطنا ودينا ولغة- ويصدر فيها عن رؤية مختلفة للتاريخ وأشخاصه، وعن التسامح الثقافي وكسر الحواجز وتمييع الاختلافات!  

حصد جوائز عديدة كجائزة الصداقة الفرنسية العربية وجائزة غونكور، كبرى الجوائز الأدبية الفرنسية. 

تُرجمت رواياته بأقلام الغير، للغة العربية، ولاقت ذيوعا ، رغم ما يكتنفها مما يستحق النقاش والمراجعة .

في روايته ” ليون الأفريقي” التي ترجمها عفيف دمشقية، وصدرت عن دار الفارابي في بيروت ، يمكن للمتلقي أن يستطلع ما بين سطورها وما بعدها من رسائل ، فأمين معلوف ، عضو الأكاديمية الفرنسية التي لم يحصل عليها فرنسيون، في عمله هذا ، ككل أعماله ، يتبنى  وجهة نظر ، ومحمولات فكرية ، يخاطب بها الغرب  ، فهو  لا يكتب لنا ، بل لمن يرغب بإيصال رسالته واضحة الحروف لهم، تأكيدا لثبات الثقافة الفرنسية الفرنكفورتية أمام منافستها الأمريكية والأنجلو سكسونية ،  فالرجل يحمل مشروعا فكريا ، يضع سُّمه في ثنايا سطوره ، ولنلحظ أن ترتيب ” ليون الأفريقي ” جاءت  بعد روايته “الحروب الصليبية” ، ولنتمعن في توقيت ظهوره  على فضائية 24 ، الذراع الصهيوني في دول أوروبا والعالم، ، وموقفه من قضية العرب المركزية الأولى – قضية فلسطين- وارتباط ذلك بطروحاته الشاذة التي ضمنها روايته “سلالم الشرق ” ، كيف لا ، والمعروف البديهي أن الرواية تتبنى عقيدة وموقف ووجهة نظر فكرية ، تمثّل رؤيا للذات والآخر ، مهما حاول الروائي أن يتقنع ويكون متجردا وموضوعيا ، و يتبدى ذكاء أمين معلوف هنا فيما يحاول أن يخفيه من أيدولوجيته ، ويبثه في متن روايته ،  دون أن يطرح عداءه للأمة بأسلوب فج  مباشر، فصناعة الإنسان الإنسانيّ ، غير المنتمي لهوية ، هي المحور الذي تدور عليه رواية ليون الأفريقي ، وهذا يبدو جليا في آخر نصائح ليون الأفريقي ، حسن محمد الوزان – المسلم المغربي،  الذي جال بلاد الدنيا ، وخرج قبل سقوط غرناطة ، متجها إلى فاس .

يسعى النص للتأكيد على أن البطل المسلم فاقد لهويته ، بعد أن تجوّل في دنيا الناس ، ولم يعد مهتما بعقيدة ، مهما كانت طروحاتها ، مُسقطا بذلك هويته.

من يجتهد في البحث عن مفاتيح لرواية ليو الأفريقي ، سيجد أنّ مفتاحها الرئيس تبثه  صفحة الرواية التاسعة ، عندما قال الكاتب على لسان البطل :عشت الحكمة في روما والصبابة في القاهرة والغم في فاس ، والمقصود بالحكمة هنا الرسم والنقاش العقلي ، حيث المجتمع الغربي الذي يبحث عن الحكمة ويصادم القدر ، أما القاهرة فبلد الطاعون والأكاذيب والصراعات السياسية ، ومدينة فاس كما يُجلّيها النص ، بلد اللواط والسحاق والعلماء النصابين، والتجار الخونة ، فهل يحتاج المتلقي تشويها أكثر من ذلك ، وهذه التشويهات لا أراها غير عُربون حسن نية ،وأوراق اعتماد يقدمها الكاتب،  ليُقبل فرانكفوتيا ،كما  تلخصه  الرواية زبدة لمشروع الكاتب : .. لا تلتزم بشيء ،ولا بأي عقيدة ،كما أثبت في الصفحة 389 … احذر أن تدغدغ غريزتهم يا بُني ، وحاذر أن تخضع لوطأة الجمهور !فمسلما كنت أو يهوديا أو نصرانيا ،عليهم ان يرتضوك كما أنت ، أو أن يفقدوك . وعندما يلوح لك ضيق عقول الناس فقل لنفسك أرض الله واسعة … ولا تتردد قط في الابتعاد إلى ما وراء جميع التخوم والأوطان والمعتقدات.

لم يفه ليون الأفريقي/حسن الوزان ، في متن الرواية بأي شيء عن عذابات الناس الموحدين، بعد سقوط الأندلس، متجاهلا ما كتبه التاريخ المنصف عن الحرق والتعذيب والأسر والتنصير القسري ،والاضطهاد بحقهم ، بل يصّور محنة تهجير المسلمين كرحلة استجمام، بلا وجود لما عُرف لدى القاصي والداني لمحاكم التفتيش ، ويسهب في تشويه التاريخ بتصوير سقوط غرناطة فقط بسبب غدر العرب وخياناتهم لبعضهم البعض ، بينما تهجيرهم للمغرب تم بكل أريحية ، وبناء على رغباتهم ، وتنفيذا للأمر الإلهي بضرورة مغادرة دار المشركين ص 81 … البقاء في بلد استولى عليه الكفار يُحرّمه الدين تحريم الميتة  والدم ولحم الخنزير وقتل الناس ، وأضاف وهو ينوء بيده على كف سعد :كل مسلم يلبث في غرناطة ، بزيد عدد سكان دار الكفر ، ويُسهم بذلك في تقوية أعداء الله ورسوله .

وأن معاناة وآلام المسلمين الذين هُجّروا من بلادهم الأندلس لم تكن إلا في مدينة فاس فقط، حيث لا يوجد غير الغدر والمساومات والخيانة وشراء الذمم وكل أنواع الشذوذ كما في الصفحات 8/224.

تنسى الرواية وكاتبها صنوف التعذيب والاضطهاد الذي يمارس على الشعوب ، ولا يذكر من بين شعوب الكون غير اضطهاد اليهود ، وأنّ اليهودي فقط من يُحاصر بقدره المحتوم  بالاضطهاد ،حيثما حلّ وارتحل، ص 330/331 ، مؤكدا على أن  الدعاة المسلمين هم من يحضون على إبادة وقتل اليهود ،ونهب أموالهم ..وكان كثير من التجار اليهود قد أقاموا في هاتين الواحتين ، بيد أنهم وقعوا ضحية اضطهاد عجيب ، ففي العام الذي سقطت فيه غرناطة بالذات ، وكان في الوقت نفسه عام طرد اليهود الإسبان ، حضر أحد وعاظ تلمسان إلى فاس مُحرّضا المسلمين على إبادة يهود المدينة ، وما أن علم الملك بأمر هذا الداعية حتى أمر بطرده ، ولجأ هذا إلى جزيرة “توات ” وغرارة ”  ونجح في إهاجة الناس على اليهود ، ولقد ذُبحوا عن بكرة أبيهم تقريبا ونهبت أرزاقهم ، ص 178، ومما دسته الرواية أيضا ، تشويه صورة الصائم :كان أبي نادرا ما يخرج من البيت قبل المساء ، لأن الناس في غرناطة كانوا أثناء النهار ثائري الأعصاب ، كثيرة مشاجراتهم ، وكان مزاجهم المعكّر آية على التُقى ، لأن غير الصائم وحده كان قادرا على الاحتفاظ بابتسامة تحت شمس محرقة ،ص10، وليته اكتفى بذلك ،بل استمر في السخرية  من الأسرة ، مجاهدا في كسر صورة الأب فيها  ، وجعله دائم السكر ، لا يراعي حرمة نساءه ، والاستمرار بالغمز من المجتمع المسلم ، سواء من  حفل الختان أو من طقوس رمضان المبارك ،العامرة مآدبه بما لذ وطاب من اللحم والشراب والحلم ، (مستدركا الكاتب) أن الخمور لا تُقدّمُ في رمضان احتراما لقدسية الشهر الفضيل ، ص 18ولا يتوقف الكاتب  عن مواصلة هجومه على المجتمع ، مُصوّرا الناس همجا غير ناضجين ،في صفحة روايته التالية ، التي حازت ، جائزة الصداقة الفرنسية العربية ، بقوله .. وفي ذلك اليوم اختلطت  نساء الأحياء الشعبية محجبات وسافرات بالرجال من جميع  الطبقات، وانتشر المشعوذون والحواة والمهرجون والبهلوانات والقراد والمتسولون ، من عميان حقيقيين ومزيفين ، ص 20…وتضاعف عدد السكارى في الشوارع ، واقترفت السرقات ، وشجر الخصام بين عصائب الفتيان ، فكانوا يتقاتلون بالهراوات حد سفك الدماء،  وخشي السلطان الفوضى فأمر بوقف الاحتفالات ص 19، ويستمر في رحلته التشويهية ومحاولة تذويب شخصية البطل /الإنسان : … خُتنتُ أنا حسن بن محمد الوزان ، يوحنا ، ليون دومدتشي ،بيد مُزين وعُمّدتُ بيد أحد الباباوات ، وأُدعى اليوم “الأفريقي”، ولكنني لست من إفريقية ولا من أوروبا ، ولا من بلاد العرب ، وأُعرفُ أيضا بالغرناطي والفاسي والزياتي ، ولكنني لم أصدر عن أي بلد ، ولا عن أي مدينة ، ولا عن أي قبيلة ، فأنا ابن السبيل ، وطني هو القافلة وحياتي هي أقل الرحلات توقعا . جميع اللغات والصلوات مُلك يدي، ولكني لا أنتمي إلى أي منها ص 9.

يتجلى الانحياز وعدم الإنصاف وغياب الموضوعية عندما رسم الكاتب صورة المرأة في روايته في كتاب رومة ص309-378 فكتب  عن مادالينا اليهودية المرتدة من غرناطة ،مصورا إياها كاملة العقلانية، صلبة الشخصية، مؤثرة الحضور، مكتملة الأنوثة، تتفوق على جميع نساء رومة في المشية والنظرة، سوداء الشعر، على العكس من أمه المسلمة الذليلة التي تطأطأ رأسها لزوجها المتجبر، وبعكس زوجته ،وبخلاف زوجة أبيه المسيحية “وردة” التي ابتاعها والده لتكون للفراش فقط، بل وشوه محنة المسلمين على أيدي الأسبان القشتالة ، ومر عليها مرور المتجاهلين ، لكنه بعد أن عاد من رحلته لتونس وتجول في دول بني يعرب، رصد وسجّل ما خفي وظهر من سلبياتها ، بل وأعلن قبوله التام للحضارة الغربية .

خلاصة ما يريده العمل أن تكون بلا هوية، ولا مانع لديك من وجود مجموعة هويات مختلطة فيك، لا تعطيك ملمحا ولا كينونة، هل عرفنا السر في الجوائز التي تهطل على أعمال الرجل، ولماذا لا يكتب بلغتنا روايات لنا، تخاطب وجداننا وتحكي همومنا؟  

على الجانب الفني، وظف الكاتب أسلوب السرد الذاتي /ضمير المتكلم نقلا عن مرويات أمه سلمى ووالده محمد الوزان، كما استخدم أسلوب أدب الرحلة والسرد المتسلسل للتاريخ، وإن تميز بقدرته الفائقة على استبطان مشاعر الشخصيات فجاءت كأنها قطعة بوح ذاتي، وقسّم النص الروائي على كتب متبعا الأسلوب التراثي فجاء كتاب فاس وكتاب القاهرة وكتاب روما، وقُسم كل كتاب لفصول يغطي كل منها فترة زمنية معنونة بتاريخ معين. 

أدب ثقافة وفكر

عن الكاتب

سمير أحمد الشريف