تُعتبر عَدَن مِن أَشهر مُدن الجَزيرة العَربية بِشَكلٍ عَام، وَتَتمتع بِمَوقعها الإستراتيجي الكَبير وَأَهميتها التُجارية؛ فَكَانت بِمَثابة الشُريان الرَئيسي الذي يَتحكم في طُرق التِجارة العَالمية القَديمة ويَربط بين قَارات العَالم القَديم، وتَتمتع عَدَن بِمَكانةٍ كَبيرة في تَاريخ اليَمن، وَلقد هيّأ الله لها هَذا المَوقع لِتَكون مَدينة تُجارية تَنمو وَتَزدهر وَجَعل مِن تَضاريسها التي يَغلُب عَليها المُرتفعات الجَبلية ما يوفر لَها الأمن وَالحِماية الطَبيعية، كَما تَضم بين جَنباتها المَآثر التَاريخية المُتنوِّعة التي تُعبّر عَن التَناغم الحَضاري وتّرمز إلى تُراثها الثَقافي وَمَوروثها الحَضاري العَريق وَالذي أَعطى لِعَدَن طَابعًا مُميّزًا وَجَعلها قِبلةً سِياحية.

عَدَن التَسمية وَالنَشأة؛ يَختلف المُؤرِّخون حول تَسميتها وَبِداية نَشأتها؛ فَيَرى البَعض في تَسميتها بِعَدَن؛ نِسبة إلى عَدَن بِن سَبأ بن يَشجب بن يَعرُب بن قَحطان، بينما يَنسبها آخرون إلي رَجُل اسمه عَدَن كَان أَول مَنْ أقام بِها، وَأقرب الأَقوال في تَسميتها مِن المَعني اللغوي لِعَدَن وَمَعناها أَقام وَسَكن؛ فَهي مَأخوذة مِن (العُدون) أي الإِقامة والاستقرار وَالسَكن، وَلِذا يَربط البَعض بين تَسميتها وَبين قَوله تَعالي في سُورة التَوبة آية72 (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ)، في تَشبيه عَدَن بِجَنّات عَدْن في الجَنة بِاعتبارها جَنّات الإِقامة السَعيدة في الأَرض، أَمّا عَن نَشأة عَدَن فَيَتفق المُؤرِّخون عَلى قِدمها؛ حيث كَانت مِن أَهم المَراكز التُجارية في العَالم القَديم، وَتَعاقبت عَليها عَددٌ مِن الحِقب التَاريخية قَبل وبَعد الإِسلام، فَنَظرًا لِمَوقعها الإِستراتيجي وَأَهميتها التُجارية الكَبيرة كَانت مَقصدًا للغزاة عَبر التَاريخ وَكان آَخرها الاحتلال البِريطاني لِلجَزيرة عَام1839م، وَالذي أَطلق عَلى عَدَن القَديمة اسم كريترcrater وتُعني (فُوهة البُركان)، وَتَضم عَدَن عِدة مَناطق مِنها المعلا وَالتَواهي وَخُور مكسر وغيرها.

الأَهمية التَاريخية وَالحَضارية لِعَدَن؛ احتلت مَدينة عََدن مَكانة بَارزة في التاريخين القَديم وَالحَديث وَالمُعاصر؛ لِمَوقعها الإستراتيجي الذي يَربط بين المُحيط الهِندي وَالبَحر الأَحمر عبر مَضيق بَاب المَندب، وَيُعتبر مِيناؤها التُجاري مِن أَفضل خَمسة مَوانئ طَبيعية في العَالم، الأَمر الذي جَعلها مَنطقة تِجارة حُرة إِقليمية وَدولية، وَمَحطة عُبور لِلتِجارة العَالمية بين دُول العَالم في الشَرق وَالغَرب، وَلَعبت دَورًا مُهمًا في حَركة النَقل التُجاري، وَقَد أَهلّ مَوقعها أَهل اليمن لأن يَكونوا تُجارًا، وَأَنْ يَقوموا بِدَور الوَسيط التُجاري بين شَرقي آَسيا وَإفريقيا وَإقليم البَحر المُتوسط، وَقد اشتُهرت عَدَن بِشَكلٍ خَاص بِتُجارة التَوابل وَالبُخور، وتَميّزت بِأَسواقها التُجارية المَرموقة مُنذ القِدم لِلبََيع وَالشِراء وَالتَبادل التُجاري وَكَانت مَحَطْ أَنظار التُجار الذين يَمرون بِها مِن الشَرق وَالغَرب.

قَالوا عَن عَدَن؛ أَفاض المُؤرِّخون وَالرحَّالة في وَصف عَدَن وَذِكر مَحاسنها، فَوَصفها ابن خرداذبة بِقَوله:(وَبِها العَنبر وَالعُود وَالمِسك وَمَتَاع السِند وَالهِند وَالصِين وَالزِنج وَالحَبشة وَفَارس وَالبَصرة وَجِدة وَالقَلزم)، وَوَصفها المَقدسي قَائلاً (وَعَدَن بَلدٌ جَليل عَامرٌ آَهل حَصين دِهليز الصِين وَفَرضة اليَمن وَخَزَانة المَغرب وَمَعدن التِجارة، كَثير القُصور مُبارك عَلى مَنْ دَخله مُثير لِمَنْ سَكنه، مَساجده حِسان، وَمَعايشُ وَاسعة، وَأخلاقٌ طَاهرة، وَنِعمٌ ظَاهرة)، ويَقول عَنها ابن خَلدون (وَعَدَن هَذه مِن أَمنع مَدَائن اليَمن وَهي عَلى ضِفة البَحر الهِندي)، ويَصفها الرَحَّالة الفِرنسي أَندريه ثِيفيت في ق16م بِقَوله: (وَفِيما يَخُص مَوقعها فَهي رَائعة وَمُزودة طَبيعيًا بِما لا يُمكن أنْ تُشاهدوه دُون مَا تُبدون اندهاشًا كَبيرًا، فَالمَباني فِيها جَميلة وَجَيّدة التَشييد، وَذَات أَحجار قَوية وَمَواد جَيّدة).
شَواهد مِعمارية وَتنوّع فَني؛ تَشتمل عَدَن عَلى العَديد مِن المَواقع الأَثرية القَديمة وَالإِسلامية والتي تَتميّز بِتنوّعٍ مِعماري فَريد، وَتَقف شَاهدةً عَلى تَعاقب الحَضارات وَالفَترات التَاريخية عَليها، وَتَعكس رُقي مُستوى فَن العِمارة بِها والتي استَمدت قِيمتها الأَساسية مِن التُراث الحَضاري وَالطَبيعي لِمَدينة عَدَن ومن أَبرز مُنشآتها؛ القِلاع الحَربية التي تَقف حِصنًا مَنيعًا يُدافع عَنها وَمِن أَشهرها قَلعة صِيرة والتي تُنسب لِلوَالي العُثماني عُثمان الزَانغابيلي التكريتي، ويَعود تَاريخها إلى ق10هـ/16م وَسُميت بِذَلك نِسبةً لِجَزيرة صِيرة الوَاقعة بِالقُرب مِن مِيناء عَدَن، وَأيضًا الدَرب التُركي وَالذي يُمثل حِصن عَدَن المَنيع.
وَمِن أَهم مُنشآتها الدِينية؛ مَسجد إِبان بن عُثمان وَالذي يُعد مِن أَقدم المَساجد التَاريخية في الجَزيرة العَربية، وَيُنسب لِلصَحابي إِبان بن عُثمان بن عفّان المُتوفّي105هـ/723م، وَجَامع العَيدروس وَالذي شيّده الشَيخ الصُوفي المَشهور أبو بَكر بن عبد الله العَيدروس عَام٨٩٠هـ/1485م، وَمِن أَشهر مَعالم عَدن الدِينية كَذلك مَنارة عَدن؛ وَهِي الجُزء المُتبقِّي مِن أَول مَسجد بُنـي بِعَـدَن في عَهـد الرسولﷺ.
كَما تَحتضن عَدَن مَعلمًا مُهمًا مِن المَعالم الهَندسية المَائية الرَائعة؛ وَهُو صَهاريج الطَويلة وَوظيفتها الأَساسية تَجَميع مِياه الأَمطار عَبر جُدران حَاجزة مَنحوتة في الجِبال وَتَخزينها في صَهاريح كَبيرة ثُم تَصريفها حيث تَكون الحَاجة إليها عَبر شَبكة مِن المَمرات وَالقَنوات المَائية، وَمَثّلت هَذه الصَهاريج إبداعًا هَندسيًا لِلمِعمار اليَمني وحلاً لِحَماية عَدَن مِن السِيول، وَاستغلالاً أمثل لِلمَوارد المَائية.
عَدِن وَالمَلكة إِلِيزَابِيث الثَّانِية قِصة عِشق؛ اختارت إِلِيزَابِيث الثَّانِية عَدَن – وَالتي كَانت مُستعمرة بِريطانية- لأنْ تَكون وَجَهتها لِقَضاء شَهر العَسل مَع زَوجها الأَمير فِيليب عَام1954م، وَلَم تَكن تَعلم أَنَها سَتَقع بِحُب هَذه المَدينة وَتَعشقها وَتَحرص عَلى زِيارتها كُل عَام، وَأَقامت بِفُندق كِريسنت التَاريخي بِالتَواهي، واستَمتعت بَمُشاهدة المَناظر الطَبيعية الخَلابة مِن شُرفات الفُندق، وَمُشاهدة بُرج (سَاعة هُوغ)؛ الذي صمّمه مُهندسون بِريطانيون عَام1890م، ويُعد أُنموذجًا بِريطانيّاً مُصغّراً لِسَاعة بيغ بن الشَهيرة بِلندن، وَأصبح يُعرف بـ(بيغ بن العرب) أو (بيغ بن الشرق)، وتَرجمت إِلِيزَابِيث حُبها لِعَدَن وَأَمرت بِبِناء مُستشفى كَبيرة تُضاهي كُبرى المُستشفيات العَالمية، وَكَانت تُحفة مِعمارية تَطلّ عَلى شَاطئ أَبين خور مكسر.
عَدَن عَاصمة التَعايش وَالتَسامح؛ لَقد عَكست عَدَن أَروع الأَمثلة عَلى التَسامح الدِيني وَقُبول الآَخر، فَكَانت رَمزًا لِتعايش الحَضارات وَالثَقافات، فَكَان بِها أَصحاب الدِيانات السَماوية، وَأيضًا الهِندوس وَالمَجوس، وَقد تَعايشوا في جَو يَسوده التَسامح الدِيني وَيُمارِس كُل مِنهم شَعائره الدِينية بِحُرية تَامة، فَتَتجاور بِها المَساجد وَالكَنائس، وِمِن أَقدم كَنائس عَدَن كَنيسة سَانت جُوزيف١٨٥٠م، وَكَنيسة القِديسة سَانت مَاري١٨٧١م، كَما اشتَملت عَلى نَحو عَشرة مَعابد لِليَهود أَشهرها؛ مَعبد مَاجن أَبراهام1865م، كَما يُوجد دُور عِبادة لِلفُرس وتُعرف بِالبُرج وأشهر أمثلتها بُرج النَار بِكريتر المَعروف بِبُرج الصَمت1866م، وَهَذا التَنوّع الفَريد لِلأَديان وَلِدُور العِبادة بِعَدَن يُبرهن لِلعَالم أَنّ أَهل عَدَنْ وَاليَمنين شَعب يَتصف بِالتَسامح وَالتَعايش، وَقَد سَجّل الأَلماني كَارستن نِيبور في رِحلته لليمن انطباعًا رَائعًا عَن هَذا التَسامح قَائلاً (وَيَبرز تَسامح المُسلمين مَع مَنْ اعتنق الإسلام في عَدم مَنعهم مِن الإستمرار في التَعامل وَالإحتكاك بِأتباع دِينهم السَابق، وَإذا تَزوّج مُسلم مِن مَسيحية أو يَهودية، فَإنه يَحترم عَقيدتها وَلا يُجبرها عَلى التَنكُّر لِدِينها، وَيُمارس اليَهود حَياتهم وَطُقوسهم الدِينية، وَيُشيّدون مَعابدهم بِكُل حُرية).
وَخُلاصة القَول، هَذه قِصة مَدينة تَميّزت بِتَاريخٍ حَضاري عَريق جَعلها قِبلة لِلوَافدين مِن الشَرق وَالغَرب، وَتَميّزت بِتَنوّع دِيموغرافي وَثَقافي رَائع يُعبّر عَن عُمق وَتَنوّع التُراث وَالمَوروث الحَضاري لِبِلاد العُرب السَعيدة.
المصادر والمراجع؛
أحمد صالح رابضة، معالم عدن التاريخية، ص62، أندريه ثيفيت، وصف عدن في ق16م، ص243، بامخرمه، تاريخ ثغر عدن، ص24، الهمداني، صفة جزيره العرب، ص306.