تلعب اللغة دوراً أساسياً، كأداة للفكر ووسيلة هامة من وسائل التواصل بين الأفراد والمجتمعات، من حيث كونها تشكل الوعاء الذي تنتقل منه الخبرة الإنسانية إلى الأجيال القادمة، ومع دخول البشرية ما عرف بالعصر الرقمي، الذي أسفر معه، ظهور لغةً جديدة أطلق عليها ” اللغة الحاسوبية”، التي انتشرت مع انتشار الحواسب الآلية في كل مكان في العالم، وفي مختلف المجالات، ولم تعد مقصورة على المبرمجين والمتخصصين في البرمجة الحديثة وعلوم الحاسب، حتى غدت لغة الخطاب الحضاري الجديد، التي تخطت الحدود وجمعت بين شعوب العالم على اختلافها تحت سقف واحد.
خصائص اللغة الحاسوبية:ـ
وللغة الحاسوبية، العديد من الخصائص، التي تميزيها عن غيرها من اللغات الإنسانية المتعارف عليها، وتتمثل أهم هذه الخصائص فيما يلي.
أولا: أنها لغة عالمية شبه موحدة لأول مرة في التاريخ البشري، ويرجع ذلك إلى أن النظام الحاسوبي، نظام موحد أو شبه موحد، فهي لغة ليس فيها فرقاً بين الصغير أو الكبير، فلا تستطيع التفريق بين المستخدمين لأي سبب، حيث تتهاوى معها الحواجز وتتساقط الستر، بين الشعوب والحضارات، ومع انتشارها العالمي، بدأ الحديث عن ثقافة عالمية واحدة يلتقي حولها الناس مهما تباعدت المسافات وتعددت اللغات واختلفت الأجناس.
ثانياً: أنها لغة تجمع بين اللغة الصوتية ، واللغة المكتوبة، “ففيها الشفرة الصوتية لبعض الأجهزة، مثل الحواسب والهواتف الذكية، وخاصة التعرف على صوت صاحبها وإمكانية تسجيل الصوت واستعادته، في أي لحظة وفي أسرع وقت ممكن”(1).
ثالثاً: أنها لغة جازمة لا تحتمل التأويل، تخلو من المشاعر والأحاسيس، وإن ظهر فيها مع التقدم في علوم الحاسوب، محاولة التعبير عن المشاعر والأحاسيس، من خلال وجود بعض التعبيرات والصور الموجودة في الحاسوب ومواقع الدردشة والتعليقات على الأنترنت.
رابعاً: أنها لغة تجمع بين التعليم الإرادي، والتعليم اللاإرادي، فنتعلم الكثير من لغة الحاسوب، وكيفية استعماله بالممارسة والمحاكاة من الآخرين، أوعن طريق الدراسة والبحث والتمرين في الدورات المتخصصة.
اللغات الإنسانية ولغة الحواسب:ـ
نشأت اللغات الإنسانية بصورة عامة، تعبيراً عن حاجات ايدلوجية ونفسية للإنسان، لأحداث نوعاً من التفاهم مع المجتمع المحيط به، فهي صورة من صور التطور التي تعبر عن رغبات الإنسان وميوله وحاجاته، أما لغة الحاسوب، التي هي من أهم خصائصها أنها لغة جازمة لا تحتمل التأويل، جعلنا نجزم بانه لا مجال للالتقاء بين اللغات الإنسانية ولغة الحواسيب الجامدة، وأمام ما أحدثه العلم من تقدم وتطور، ونحن نشهد عصر الرقميات وثورة الاتصالات، جعل هذا الجزم سرعان ما يتهاوى، حيث ان ثورة الاتصالات جعلت من المنطقي، بل ومن الحتمي، أن تلتقي اللغات الإنسانية ولغة الحاسوب، وذلك لسبب أساسي وبسيط، “هو كون اللغة الإنسانية تجسيداُ، لما هو جوهري في الإنسان، أي أن نشاطه الذهني بكل تجلياته، في الوقت نفسه الذي يتجه فيه الحاسوب، نحو محاكاة بعض وظائف الإنسان وقدراته الذهنية، متخذاً من الاعتبارات الإنسانية والهندسية البشرية محوراً رئيساَ لتصميم نظمه ومجالاَ لتطبيقاته ومطالب تشغيله، ولقد تدرج هذا الالتقاء حتى بلغ درجة عالية من التفاعل العلمي والتقني بصورة لا مثيل لها في أحداث التواصل مع اللغات الإنسانية” (2).
تواصل لا تباعد:ـ
ومنذ ظهور الحاسوب، في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، وصلته باللغة تتأصل وتتعمق، فاللغة تقع في قمة الموضوعات، التي تهتم بها العلوم الإنسانية، والحاسوب هو ذروة التقنيات الحديثة، لذلك كان من المنطقي، بل والحتمي أن توجد أسس للتواصل ونقاط للالتقاء بين اللغة والحاسوب، الأمر الذي دفع العلماء إلى وصف هذه العلاقة بالتبادلية، من حيث وجود عناصر رئيسية مشتركة، تجمع بين اللغات الإنسانية والحاسوب، تتمثل في الآتي.
1ـ محورية العامل الإنساني في مجاليهما، فالإنسان هو المحرك الأساسي في كليهما، الذي تتجه إليه اللغة ويتجه إليه الحاسوب.
2ـ ضخامة الدور المجتمعي لكل منهما، “فاللغة صلب المجتمع الإنساني، والحاسوب خصوصاً بالنسبة للتوقعات العلمية والعملية المرتقبة التحقيق، هو العمود الفقري لمجتمع المعرفة والمعلومات القادم” (3).
3ـ الخاصية الاتصالية، حيث تعد الوظيفة الاتصالية، من أهم وأهداف النشاط اللغوي، في الوقت الذي تعد فيه نظم الاتصالات شقاً أساسيا من نظم الحواسيب.
4ـ التعامل الرمزي، حيث يعتمد التعامل اللغوي، أو الحاسوبي أساساً على أبجدية من الرموز الأولية المتفق عليها، وتستخدم هذه الرموز الأولية، “لتكوين رموز مركبة، خلال سلسلة متدرجة من عمليات التركيب، التي تتسم عادة بالخطية، إذ تتلاحق الرموز اللغوية كتلاحق الحروف في الكلمات، والكلمات في الجمل، والجمل في السياق، والصورة تتشابه في بعض جوانبها بتابع الإشارات الميكانيكية والكهربائية والإلكترونية، التي تتعامل معها النظم الآلية وفي مقدمتها الحواسيب” (4).
5ـ التشابه البنيوي، هناك كثير من عوامل التشابه البنيوي، بين منظومة الحاسب ومنظومة اللغة، حيث ان دماغ الإنسان مزود بنظام رباني فطري، يقوم بتخزين اللغة واسترجاعها عند الضرورة، فالنظام اللغوي البشري مبني على شكل حاسب له مدخلات ومخرجات، ففي مرحلة المدخلات تتم عملية تحليل المداخل، والبنيات اللغوية إلى أجزاء الخطاب، وذلك من خلال قواعد وبيانات لجميع البنيات اللغوية التي اكتسبها الإنسان، “وقام بتخزينها على شكل خوارزميات وقوانين حسابية صورية، أما في مرحلة المخرجات فتتم عملية توليد المداخل والبنيات اللغوية، وإنتاجها بشكل لا نهائي، حيث يتم عرضها على الخوارزم بعد تحليلها تمهيداً لعملية التواصل، والحاسوب ما هو إلا منظومة برمجية منطقية تقوم على مجموعة من الخوارزميات الدقيقة، التي كانت بدورها هي الموضوع المشترك بينهما.” (5).
لغة الحواسب والتواصل الإنساني:ـ
أحدث الحاسوب تواصل إنساني كبير بين البشر، وخلق أنواعاً من التفاعل لأغراض تعليمية وثقافية بل وترفيهية، ومزج بين اللغة المكتوبة والمنطوقة، وإن كان التركيز فيه على المكتوبة التي تشبه المنطوقة، من حيث سرعة رد الفعل والتفاعل السريع وفيه إمكانية التعديل، في أي وقت للمشاركة وإصلاحها بالإضافة للنقص أو الحذف، الأمر الذي خلق أنواعاً من التفاعل والتواصل، وحقق قدراً من الانسجام بين الإنسان والألة من ناحية، والإنسان وأخيه الإنسان من ناحية أخرى بأحداث نوعاً من التزاوج، الذي تم بين تقنيات الحواسب وتقنيات الاتصال الإنساني، الأمر الذي جعل الحوار بين الحواسب، أيا كان موقعها الجغرافي أمراً عادياً، خاصة مع نجاح الحاسوب في وقتنا الحالي في التعامل مع كافة اللغات الإنسانية بكفاءة كبيرة وبصورة مباشرة، دون الحاجة إلى إضافة تعريفات بواسطة قرص مضاف، كما كان الشأن في السابق، وقد أذن ذلك إلى شيوع استخدام الحواسب في شتى مجالات الحياة وتعامل معها أنواع مختلفة من البشر، يتحدثون عبر مصطلحاته الخاصة لغة واحدة، وإن هذه اللغة قد راقت لجمهور عريض من البشر، أصبح قادراً عبر هذه اللغة على التواصل مع الغير، وهكذا تمتعت تكنولوجيا عصر حضارة ما بعد الصناعة، بميزة فريدة ألا هي ” ديموقراطية” اقتناء تقنيات المعرفة، بما تعنيه من قدرة الإنسان العادي، على تملك الأدوات اللازمة لحفظ ومعالجة والتواصل مع المعرفة، أيا كان مكانها ولغتها في الوقت الملائم له، كما تطور استخدام اللغة الحاسوبية، في دعم التواصل والحوار الإنساني، من مرحلة معالجة المعلومات ، فيما يعرف بالمعالجة المعرفية، إلى مرحلة دعم الحوار، التي بدأت منذ سنوات ، وانصب الاهتمام فيها على كيفية استخدام ” الحاسوبيات” في دعم عملية التحاور الخلاق بين بني البشر، وهكذا ظهر جيل من البرمجيات يعرف بمنظومات العمل التعاوني، المدعوم بالحاسوب، الأمر الذي أحدث نوعاً من العلاقة التكاملية بين المستخدمين ، على اختلاف بلدانهم ولغاتهم، عبر تواصل بعضهم البعض، عبر ما يعرف ” بالحوسبة الاجتماعية” ، التي قربت بين الأشخاص ، على اختلاف لغاتهم وأجناسهم، وسهلت سبل التواصل فيما بينهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المراجع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- (1) التواصل في عصر الرقميات، د/ عصام محمود، مجلة الرافد الإماراتية، عدد إبريل من عام 2015م .
- (2) اللغة العربية والحاسوب، د/ نبيل علي، ص . 114
- (3) مجلة الرافد مصدر سابق.
- (4) اللغة والحاسوب، د/ نبيل علي، مصدر سابق، ص 129.
- (5) المصدر السابق