لطالما فاخر الأدباء وأرباب الفن والقلم باستباقهم لأزمنتهم من خلال تنبؤهم بالاختراعات والاكتشافات وأنماط التحضر المستقبلية، فلو قدّر للروائي جولس فيرن أن ينطق من مثواه اليوم لقال لنا: ألم أخبركم باستفاضة عن سفينة فضائية تنطلق من الأرض لاستكشاف القمر؟ بعد نبوءتي؟ حدث الأمر نفسه لدى روائيين كثر قبل فيرن وبعده، سبقوا بريشة الفنان وخياله الخصب مهندسي ناسا وعباقرة مايكروسفت في رسم الاختراعات الحديثة.
أما اليوم فتستفيق البشرية على إثر دقات صاخبة على أبوابها، وتتحفز الحضارة الإنسانية لقفزات جديدة بدخول تقنيات الذكاء الاصطناعي حيز المشاركة المباشرة في انشغالاتها اليوميّة. ومثل كل مرة نتذكر أصدقاءنا الأدباء، أو تذكرنا بهم نبوءاتهم الذكية، ففي روايتها الشهيرة المنشورة سنة 1818م، أبدعت ماري شيلي شخصية (فرانكشتاين)، العالم الذي يوظف خبرته العلمية لابتكار مخلوقٍ صناعيّ بهيئة إنسان، يذكرنا ذلك بما نشهده اليوم من تطوير العلماء لذكاء اصطناعي يحاكي ذكاء الإنسان ويتمتع بقدر من الاستقلالية، وبغضّ النظر عن المنحى الدرامي المظلم لأحداث الرواية، فإن حديث الساعة اليوم لم يغادر بعيداً مربع تساؤلات شيلي حول الوعي والمسؤولية والعواقب.
أما خِراش فهو أعرابي من مشاهير العرب، كانت قصة شهرته أنه خرج يصيد يوماً، فلما أرهقه التعب أخذ غفوة لبعض الوقت، ثم إذا به يستيقظ وقطيع من الظباء يحوم حوله، التقط خِراش سهامه مستعجلاً في مزيج من الفرح والدهشة، وكلما همّ أن يصيد ظبية رأى أخرى أسمن منها فترك الأولى ليصوّب على الثانية، واستمر في ذلك حتى هربت منه جميعها. فأنشأ قائلاً:
تَكاثَرَتِ الظِّبَاءُ على خِرَاشٍ *** فَما يَدْري خِرَاشٌ ما يَصِيدُ!
بيت خراش الشعري وحادثته هذه أصبحت في ما بعد مضرباً للمثل في سياق الإغراءات المفضية إلى الحيرة والضياع، وموقف خراش هو ما نجد أنفسنا فيه اليوم ونحن نغرق في الكم الهائل من المعلومات والدراسات والتغريدات والمنشورات والرسائل. وبقدر ما يصح القول بأننا نعيش في المدينة الفاضلة للمعرفة في هذا الزمن نتيجة لتوفر المعلومات وتنوعها وسهولة الوصول إليها، فإنه يحول دون الاستمتاع بملذات المعرفة وثمارها مصيدة من المصائد الشائكة التي أوصلت كثيراً منا لحافّة إدمان الإنترنت، وهو اضطراب عقلي أضيف أخيراً لأدلة التشخيص المرضي كما يشير صاحب كتاب “مصيدة التشتت”، حتى أصبح من السائد قضاؤنا ساعات من الوقت كل يوم أمام الشاشات الصغيرة والكبيرة في تعطّش لجرعات الدوبامين التي تجود بها وسائل التواصل الاجتماعي على مستخدميها، ثم لا تفضي بهم إلا لمعرفة انتقائية أو سطحية، أو أذهان مغبشة عن إدراك ما حولها واستيعابه وفهم المعنى والوجهة والأدوار في هذه الحياة.
تكتسب تقنيات الذكاء الاصطناعي خطورتها وأهميتها من قدراتها العملاقة على استيعاب أكوام من البيانات وتحليلها والربط بينها، فإذا صح قولنا بأن سيارة صغيرة من تويوتا اليابانية تعمل بقوة 160 أو 200 حصاناً، فإننا لا نبالغ كثيراً إذا قلنا أن نموذجاً لغوياً للذكاء الاصطناعي يستطيع أن يعمل بذاكرة جمعيّة لملايين البشر! ذلك أن الآلة تجمع في تدريبها الكتب والموسوعات العلمية والتخصصية والثقافية، وذاكرات المؤسسات والأفراد، وأكواماً هائلة من البيانات والتجارب والاستجابات، تمنحها بصيرة مضاعفة عن بصيرة الفرد الواحد، وقدرة على سبر آلاف الحقول المعرفية في أجزاء من الثانية.
وعوداً على متلازمة خِراش التي أرهقت عقولنا ونحن نحار بين ظباء المعرفة أيها نصيد وأيها نترك، فإن هذه المتلازمة تأخذ بُعداً جديداً مع الذكاء الاصطناعي، فهذا الباب الذي تفتحه التقنية الآن يُدخِل البشرية في سباقٍ محموم لمسايرة التقدم الهائل لذكاء الوحش الصناعي الذي بدأ يلتقم الوظائف والشركات ويعبث بالمنظومات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وهو إذ يمضي في طريقه المتسارع يفتح للإنسان آفاقاً لم تخطر له على بال من أجل إنجاز مهمته الأزليّة في استكشاف العالم واستصلاحه وإعماره. وفي طفرة المعلومات والقدرات الآلية يبرز للإنسان تحدٍ شديدُ الإلحاح للتركيز في اختيار ما يريده من الكمّ الهائل من المعلومات والقدرات والطاقات الراكعة بين يديه، والتي يتعذر عليه أن يدركها جميعاً أو يحيط بها في حياة واحدة، وفي تحديد موقفه من كل ذلك، ففي الوقت الذي تقبل فيه الأوساط العلمية في بعض الأقطار على استكشاف الوحش الآلي وترويضه لخدمة مصالحها بلهفة وتعطش، يتهافت كثيرون للتبشير بفرانشكتاين ثانٍ ينقلب على صانعه أو يؤذن بحتف البشرية ودخولها النفق المظلم، في ما تمارس أمم أخرى عادتها في الارتباك الحضاري، والترقب، والتوجس، والفرجة!
وأياً تكن وجهة العالم في غده،..، وحتى لا ننجرف خلف أوهام الشعبويين العلميين ومؤلهي الآلة الذكيّة الخطِرة (حقاً)، فإنه من الوجيه أن نذكُر دائماً تمايز الإنسان بهويّته وبصمته الشخصية وأسلوبه وإحساسه – وحتى جنونه- عن الآلة بالغةً ما بلغت، وقديماً قالت العرب: “ليست النائحة كالثكلى”. وأن نقرّ بأن ذكاء تلك الآلة يظلّ ذكاءً محدوداً بالمدخلات والمعطيات البشرية التي ينتجها صنّاعها والمشوبة بكمّ لا يستهان به من الانحيازات المعرفية، في نقطة مظلمة توازي العدم إذا ما قيست بالنسبة للأكوان اللامتناهية. فمن وجهة نظرٍ متعالية لا زال الإنسان وما يصنع ويطوّر أطفالاً يتلمّسون ما حولهم من فُتات المعارف، بعيداً بعيداً عن الألغاز والحقائق الكبرى السابحة في أكوان وأزمنة وسماوات لا حدَّ لها.
وبقدر ما كان الشعور بالمسؤولية بالغ الأهمية للمجتمعات والدول في محطات التاريخ المختلفة، فإن الحاجة لشعورها بالمسؤولية اليوم يزداد إلحاحاً، أما على صعيد الأفراد فلا بد لهم من الارتقاء للوعي باللحظة الحضارية الراهنة، أن لا تفارق ناظرهم غاياتهم وأهدافهم، وأن يحسنوا الإمساك بالوقت وتسخيره وفقاً لأولوياتهم، مع الحذر كل الحذر من الالتهاءِ بالمغريات الآنية وفوات الفرص الكبيرة.