يعتبر تمثال الحرية أحد أكبر وأبرز معالم الولايات المتحدة الأمريكية، ومعلم الحرية الأبرز في العالم، وتعتبره الولايات المتحدة معلما وطنياً وأثرًا قوميًا لها وذلك 15 أكتوبر1924م، كما أعلنته منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة موقعاً من مواقع التراث الإنساني العالمي عام 1984م، ويرمز التمثال إلى التّحرر من الظلم والاضطهاد ويدعو إلى الحرية.

فكرة صناعة تمثال الحرية: تبدأ القصة بنحّات فرنسي عبقري هو فريدريك أوجست بارتولدي Frédéric Auguste Bartholdi(1) الذي جاءته أولاً فكرة التمثال دون أن تكون أمريكاً قد خطرت على باله، بل كانت فكرة إنسانية عامة تجسد الحرية والحضارة الإنسانية في شكل إمرأة تحمل شعلة تنير بها جنبات الدنيا، وقصد بالتصميم أن يطل التمثال على موقع ساحلي؛ ويعلو رأس المرأة تاج له سبعة أسنة مشعة، وهي ترمز للبحار السبعة التي تطل عليها قارات العالم(2).

النّحات والمثّال الفرنسي فريدريك بارتولدي.
وقد عاصر تصميم تمثال الحرية افتتاح قناة السويس للملاحة عام 1869م، زار بارتولدي مصر وذهب إلى صعيد مصر، وهناك أعجب وتأثّر من ضخامة التماثيل الفرعونية بالمعابد؛ حيث جمعت بين الدقة والروعة الفنية والضخامة، فاستلهم منها صناعة أطول تمثال في العالم، والتقى الخديوي إسماعيل واقترح عليه أن يضع هذا التمثال في مدخل القناة ليكون رمزاً لحرية الملاحة أمام العالم، ويصبح التمثال معبراً عن مصر(3).
لكن الخديوي إسماعيل اعتذر عن قبول اقتراح بارتولدي نظراً للتكاليف الباهظة التي يتطلبها هذا المشروع والتي قدرت بحوالي ستمائة ألف دولار، مقدراً له حبه لمصر وحماسه لتمجيد المكانة العالمية لقناة السويس؛ حيث لم يكن لدى مصر السيولة اللازمة لهذا المشروع خاصة بعد تكاليف قناة السويس وحفل افتتاحها، وبنى بدلاً من ذلك منارة بارتفاع 180 قدم(4).
وفي تلك الأثناء أراد المحامي الفرنسي والسياسي الشهير ورئيس جمعية مناهضة العبودية بفرنسا إدوارد رينيه دي لابولاي في عام 1865م إهداء الشعب الأمريكي هذا التمثال في احتفال الذكرى المئوية لإعلان الاستقلال، والتي يحين موعدها في 4 يوليو 1876م، وتمّ الاتفاق على أن يتولى الفرنسيون تصميم التمثال، بينما يتولى الأمريكيون تصميم القاعدة التي سوف يرتكز عليها التمثال، ونظراً لأن تكاليف التمثال والقاعدة باهظةً للغاية؛ ولذلك بدأت حملة ضخمة في كل من البلدين لإيجاد التمويل اللازم لمثل هذا المشروع الضخم وأسّس لذلك مشروع تمويل باسم (الإتحاد الفرنسي الأميركي لتمويل المشروع)، واختار له بارتولدي جزيرة في الولايات المتحدة في ميناء نيويورك تسمى جزيرة بيدلو (Bedloe’s Island) والتي عرفت بعد وضع التمثال بها باسم (جزيرة الحرية)، وكان سبب اختيار هذه الجزيرة أنه يمر بها كل الوافدين إلى نيويورك فقرّر أنها المكان المناسب لوضع التمثال.
وانتهت أعمال تصميم التمثال في فرنسا في يوليو عام 1884م، وتمّ شحن التمثال على الباخرة الفرنسية إيزري (Isere)، ووصل إلى ميناء نيويورك في 17 يونيو1885م، وتمّ تفكيك التمثال إلي 350 قطعة وضعت في 214 صندوق لتخزينها لحين انتهاء أعمال بناء القاعدة التي سيوضع عليها، وقام بتصميم القاعدة المعماري الأمريكي ريتشارد موريس هانت Richard Morris Hunt، وهى قاعدة عظيمة من الإسمنت والجرانيت، وتمّ الانتهاء من بناءها في 28 أكتوبر1886م، وقام الرئيس الأمريكي جروفر كليفلاند بافتتاح التمثال في احتفال كبير(5).

شكل التمثال وهيئته: يتشكل تمثال الحرية على هيئة سيدة تحرّرت من قيود الاستبداد وألقتها عند قدميها، ثم تمسك بيدها اليمني مشعلاً يرمز إلي الحرية والتنوير، بينما تحمل في يدها اليسرى كتاباً نقش عليه بأحرف رومانية نصها تاريخ (4 يوليو 1776م)؛ وهو تاريخ إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية، وترتدي على رأسها تاجاً مكون من سبعة أسنة مدببة تأخذ شكل مشع، ويرمز إلى البحار السبع أو القارات السبع الموجودة في العالم، كما يحيط بالتمثال قطعة أرض تأخذ الشكل النجمي من عشرة رؤوس(6).
الآراء التي قيلت في شكل التمثال وتصميمه: تعدّدت الآراء التي قيلت في تصميم التمثال على هذه هيئة السيدة؛ فأحد الآراء يذكر أن النحات الفرنسي بارتولدي كان يخطط لتصميم نموذج مصغر لمنارة على شكل تمثال لفلاحة مصرية مسلمة تلبس الثوب الطويل وترفع يدها حاملةً شعلة يخرج منها ضوء لإرشاد السفن، وتحمل شعارEgypt Carrying the Light to Asia أي (مصر تحمل الضوء لآسيا)، وهذا التمثال يحاكي تمثال الفلاّحة المصرية والتي تحمل الجرة بدلاً من المشعل؛ والذي يطلق عليه المصريون اسم (البلاص) المعروف بأنه زاد الخير من عسل أو جبن أو زيتون منذ زمن الفراعنة، لتكون صاحبة التمثال هي رمز الزاد الحديث للخير في مصر الحديثة، ورغب بارتولدي في أن ينصّب هذا التمثال عند مدخل قناة السويس الأمر الذي رفضه الخديوي اسماعيل لتكاليف تنفيذه، ويؤكد هذا الرأي نموذج التمثال الذي صنعه بارتولدي والمحفوظ في متحف مدينة السويس(7)، وأكّد هذا الرأي الكاتب باري مورينو في كتابه (تمثال الحرية) بقوله أن (المرأة المنحوتة في التمثال الأساسي كانت امرأة فلاحة ترتدي الحجاب) (8).

ويعتقد البعض أن فكرة التمثال استلهمه بارتولدي كصورة مقتبسة من والدته (شارلوت بيسر)؛ ولذا فقد كان زوار أمريكا يطلقون على هذا التمثال اسم (الليدي ليبرتي).
ويؤكد الأستاذ في علم التاريخ إدوارد بيرينسون في كتابه (تمثال الحرية: قصة عابرة للأطلسي) أن (بارتودي رسم مقترحات عدة لتمثال الحرية بدءاً من امرأة فلاحة مصرية وطوّرها إلى الإله ليبرتاس).
جوستاف إيفل مصمم برج إيفل الشهير في باريس يشترك في تصميم التمثال: اشترك في تصميم تمثال الحرية مجموعة من أشهر المهندسين؛ فبجانب بارتودي الذي وضع تصميم التمثال وطرازه، كما وضع تصميم القاعدة المعماري ريتشارد موريس هنت، أمّا عن الهيكل الإنشائي، فكان يعمل عليه المهندس الفرنسي يوجيني لو دوك Eugène Viollet-le-Duc لكنه توفي قبل الانتهاء من التصميم، وتمّ تكليف المهندس الفرنسي جوستاف إيفل Gustave Eiffel مصمم برج إيفل الذي يحمل اسمه حتى الآن في باريس(9)، وصار من أشهر معالم الدنيا هو الآخر؛ وقام إيفل باستكمال الإنشاء وقام بتصميم الهيكل المعدني بحيث يتكون من إطار رئيسي للتمثال يتم تثبيته في إطار ثانٍ في القاعدة لضمان ثبات التمثال.

هكذا أصبح تمثال الحرية المعلم الأكثر شهرة في العالم ويحرص زوار نيويورك على زيارته، وصار هذا تمثال الحرية أنموذجاً يحتذى به في بلدان العالم وصنعت تماثيل أخرى تحمل نفس الاسم تمثال الحرية في العديد من البلدان أخرى؛ منها على سبيل المثال تمثال الحرية في أودايبا بطوكيو باليابان، كما يوجد نسخة مماثلة هو تمثال الحرية في فرنسا على نهر السين وغيرها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مقال بعنوان (من هو مصمم تمثال الحرية؟)، منشور بموقع الموسوعات العربية للمعلومات على شبكة الإنترنت http://ar-encyclopedia.blogspot.com/2009/11/blog-post_3506.html
(2) أيمن أبو الروس، عجائب الدنيا السبع، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2015م، ص19.
(3) https://www.arageek.com/2015/08/16/gustave-eiffel.html
(4) مقال لسارة رأفت، بعنوان (حكاية تمثال الحرية، والسفر إلى نيويورك بدلاً من قناة السويس)، منشور بمجلة الغد، أبريل 2005م.
http://www.alghad.com/articles/حكاية تمثال الحرية. والسفر إلى نيويورك بدلاً من قناة السويس
(5)https://ar.wikipedia.org/wiki/%d8%aa%d9%85%d8%ab%d8%a7%d9%84_%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d9%8a%d8%a9
(6) ياسر قطماش، مصر في عيون فرنسية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، وزارة الثقافة، القاهرة، 2014م، ص73.
(7) Harris, Jonathan, A Statue for America: The First 100 Years of the Statue of Liberty. New York City: Four Winds Press, a division of Macmillan Publishing Company, 1985, pp7–9.
(8) http://archive.almanar.com.lb/article.php?id=127166
(9) كان الغرض من إنشاء برج إيفل هو الاحتفال بمعرض عالمي بمناسبة مرور مائة عام على الثورة الفرنسية، وكان تصميم هذا البرج يعد تحدياً كبيراً لمجال الهندسة في ذلك الوقت، واعتبر إحدى العجائب في تلك الفترة حيث شيّد بالكامل من الحديد الذي بلغ وزنه ستة آلاف طن ووصل ارتفاع البرج إلى 300م. للمزيد انظر، أيمن أبو الروس، عجائب الدنيا السبع، ص19.