فِي تَجْرِبَةِ الشَّاعِرِ عبد العزيز أمزيان
يواصل الشاعر المغربي (عبد العزيز أمزيان) ترتيب فصوص تجربته الشعرية بأناة واشتغال دؤوب، بوصفه أحد الأصوات الشعرية المغربية الجديدة، ماضيا باتجاه وعد الشعر حيث القصيدة معنية باصطياد الغيوم، والحفر العميق في سراديب الذات الشاعرة، وكشف هجراتها السرية إلى القبض على مفاصل الألم، مستعيدة ارتطامات الذات الشاعرة وهي تختبر أرجوحة الحياة وفتوحاتها وامتداداتها، ولأن وعد الشعر يقيم في المستقبل يجتهد الشاعر في إعادة بناء ثقوب الذات والعالم من حوله، وفق رؤى شعرية تستبعد المعنى الشعري المباشر، محتمية باللغة الإيحائية الإشراقية، غير منحازة، بالمطلق، إلى استعادة الوزن الخليلي، بل تبني أسوار تجربتها بالإيقاع الموازي الذي تؤسسه اللغة والمعنى الشعريان، والنتيجة تجربة شعرية مفتوحة على دهشة الشعر(كصدى غور روح سفينة/ كصدى رنين المطر/ أصير بردا في غيوم الدوح/ تنهمر أصابعك في روحي/ فأتفتت نشيدا في طعنة رحيقك).
وتصير الذات الشاعرة، في ذهابها إلى دهشة الشعر، بردا في دلالة الانشطار الروحي وانصهارها في دال الأنثى/ الغياب/ القصيدة، وتتحول إل فتات متحصل من فعل «الطعن» القادم من غيوم الماضي القاسية، مما يؤجج اشتعال الجرح وحدته، لذلك تختار الذات من فجوة الوداع خلاصا وجوديا به يتلاشى الجرح الوجودي،(كم وردة أحتاج/ كي أرسم قبر الوداع/ كم دمعة للبوح أتوسدها/ جراحا للرحيل)، وبهذا الكشف الذي تمارسه اللغة الشعرية الشفيفة داخل نصوص الديوان، تتأسس حدود الرحيل باعتباره بديلا لعالم يتقاذفه الطعن والوجع، إلا أن الذات الشاعرة سرعان ما تبدي تحديا لخيار النأي، رغم افتقارها إلى مبدأ نشيد الحياة، واستحالة خوضها ايقاع الرقص على النشوة المعلقة في وتر الروح المكبلة بالخيبات، (لكني لأجلك/ سأنوء بحمل الأيام/ وأمضي/ إليك أبدا بومضاتي).
وعلى هذا الأساس، تحقق الذات الشاعرة تناصها مع «سيزيف» الدال على التحمل، ومجابهة الوجود نكاية بقوى الشر، وتمجيدا للقيم التي تعيد ترتيب فوضى العالم، وتبني الذات والعالم على أسس بديلة قائمة على الوصل بوصفه سفينة الغد الموغل في الضوء والحلم والرؤيا،(كلما ضاقت سبل الوصال/ أنا المبهور/ ولدت من الفتنة/ فأصابني الجنون)، لكن الوصال لا يتحقق للذات الشاعرة المبهورة في عالم متلكئ، تتقاذفه صور اليومي الغائصة في وحل الرتابة والتناسخ والتكرار، لذلك تحتمي بالجنون ماضية بخطى واثقة نحو الصفو والطهر، باعتبارها قيما منشودة وبديلة،(أيها الشهم الطافح بالصفو والطهر/ تمضي واثق الخطو/ كطعن الرمح)، وبالإضافة إلى الجنون، تتمسك الذات الشاعرة بالسمو والبياض في إصرارها السيزيفي على مجابهة الريح كمعادل موضوعي للخيبة المستبدة بالدواخل، مادامت أنها تدرك يقينيا أن العالم لا يمكن أن تستقيم رؤاه الشريدة إلا بالعودة إلى بناء القيم الإنسانية،(تسامت روحي/ وخفت مثل ريش تطاير/ بياضا غي عطر السماء).
وتترادف لفظة الريح داخل النصوص الشعرية ضمنيا مع الألم والعزلة، فالذات الشاعرة تقف عاكفة على توصيف جراحها في إصرار على الانتصار للحلم، وتحشد كل قواها بغية بناء مجاريه متحدية جبروت الحياة المليئة بالمتناقضات التي تعصف بكل ما هو شفيف وأخاذ، كأن الذات الشاعرة تقف في مواجهة عاصفة بكل ما لا ينتمي إلى القيم الضاربة في الروح، منتصرة للغيم باعتباره دالا على التحول الذي تتوق إليه الذات عينها،(كنت وحدي أقطع الحلم بين أسلاك العمر/ تباعد سقف الغيم ورسا على رأسي)، ودالا على الطفولة التي تسعى الريح إلى اجثتاث جذورها، واستنبات مجرة المعاناة، كأن قدر الشاعر لا ينفتح إلا على كوات الألم التي تغطي سماء الذات الشاعرة، فما الذي يعوض مجرات الألم وريحها المكبلة للأنفاس؟.
إن الذات الشاعرة تتبدى ميالة إلى تعويض قتامة الريح بالأقحوان، لذلك تتخذ من الصمود بوصلة في رحلة اختبار الحياة والعالم والآخر،(سأصمد كثيرا في انشدادي إلى حمرة الأقحوان في رضابك/ لن أترك المساء يسافر في ضباب العمر/ أو أترك البحر يرحل في نوحي)، متمسكة بالقصيدة وبالموسيقى كبديلين يحميان الشاعر من الانهيار، ويدفعانه إلى تثبيت اليقين الراجح بجدوى الانتماء إلى الإنسان، وبهما يعيد ترسيم الرؤى والاختيارات الوجودية المتسامية عمّا يخدش بهاء الروح، الروح التي يجتهد الشعر اليوم إلى إعادة ترميمها وانتشالها من عوالم يهيمن فيها الخبث والغباء، ويتعالى فيها نداء الموت، موت القيم المرتبطة بالجوهر الإنساني، رغم إلحاح الشاعر على العودة إلى مجاورة الصوت الهارب من الحياة ذاتها، صوت الأم/ البيولوجية المتوفاة، لذلك يصير الموت تأسيسا لأبدية أخرى متشحة بالبياض والبهاء،(وأمشي إلى أمي/ أوشح صدرها بقطافي/وعمري/وأحيا في قلبها/ كي لا أموت)، فالذات الشاعرة بقدر ما تصر هنا على استبدال العوالم المرتبطة بالخيبة والإحباط والانهيار، تحتمي بالأم بوصفها رمزا يحيل على المطلق والملاذ الآمن، ملحة على الانتصار للحياة، ونبذ الموت بمعانيها السلبية المرفوضة الرتيبة والاعتيادية والمستنسخة.
جدير بالذكر أن الشاعر عبد العزيز أمزيان من مواليد مدينة القصر الكبير المغربية عام 1963، شارك في العديد من الأماسي الشعرية داخل المغرب وخارجه، حاصل على جائزة ناجي نعمان الأدبية سنة 2013 عن مؤلفه(رسائل الحب)، صدر له: مواقد الروح(شعر)، رسائل حب(رسائل)، نافذة على الغيم(شعر)، جمرات الريح(شعر).