قراءة معرض (على سفر) للمصورين عبدالمنعم الحسني ودالية البسامية
في بيت الزبير
مارس ٢٠٢٣م
لم تتح لي الفرصة إلا مؤخرًا لزيارة معرض المصورَين المشترك في بيت الزبير والذي انطلق في مارس هذا العام، أخيرًا بعد إنجاز عمل استغرق عدة أيام اعتبرت زيارة المعرض نوعًا من مكافئة فنيّة، للتأمل والصمت، هذا كان أكثر ما كنت بحاجة إليه.
اغتنمت فترة انتصاف النهار، لحظة الضوء الكاملة، لزيارة معرض ضوئي، وكما توقعت لم أجد غير موظف استقبال، فأخذت راحتي بين الأعمال، بدأت من يمين الصالة، كانت الصالة فسيحة ولا يعيبها برأيي غير الإضاءة، التي بدت لي غير مناسبة لتسليط الضوء على الأعمال، فضلًا عن أن الصور كانت خلف زجاج يحميها أكثر مما ينبغي، ويعكس أضواء القاعة، لحظة الضوء الكاملة تحولت إلى أن أرى القاعة وأضوائها ونفسي وظلي منعكسًا في كل صورة، والزجاج الذي كان يفترض به أن يحمي الصورة، صار يعيق نفسه النظر إليها أكثر، والآن وأنا أتذكر وضعي حينها محاولًا تأمل الصور واختيار زاوية مناسبة كي أرى موضوعها بوضوح أكبر، كل ذلك كان يورطني أكثر لأصبح أنا نفسي موضوعًا من مواضيعها!
حين اكتشفت ذلك، ارتبكت وخرجت بسرعة.
قبل زيارتي كنت قد سمعت صديقًا حدثني عن زيارته للمعرض قبلي، وحكى لي شيئًا عن الغضب، لذلك كنت أبحث ببساطة عن ذلك الغضب، وبعد الالتفافة الأولى على الأعمال، أدركت أنني أفسد استمتاعي بالتوقعات المسبقة، هكذا أعدت الطواف من جديد، متبعًا الخيط الذي فوتّه وأنا أشاهد صورة مدينة لعبدالمنعم الحسني، وهي عبارة عن أعجاز نخل ميتة من الجفاف، وكان العنوان مدينة، في تناقض ظاهري، لكننا نطلق في الدارجة المحلية على المقبرة لفظة مدينة، والعمل أميل لذلك المنحى أكثر منه لمعنى المدينة الشائع، تلك هي مقبرة أشجار، لكنها لم تسقط بعد، إنها هي الأخرى على سفر.
زائر المعرض يمكنه أن يتلمس من الوهلة الأولى تقنية التصوير، بين التشظي والتشقق في صور عبدالمنعم، والضبابية والنداوة في صور دالية، وكلا المصورين يعمل على ثيمة وموضوع السفر، التقنية التصويرية تستدعي من المشاهد التوقف أكثر أمام كل صورة، الاقتراب منها ومحاولة الابحار معها لحظة المشاهدة، إن التقنية هنا بما هي عامل معيق ظاهريًا للرؤية، أو لما اعتاده المرء من صور، ينتج عنه أن يقوم المشاهد بالتوقف أكثر أمام كل صورة، يدقق أكثر، يحاول استخلاص الصورة التي خلف التشظي والضبابية، إنها تدفعنا لقراءة الصورة ببطء، التقنية هدفها إبطاء التلقي للصورة في عصر استهلاكها. والهدف أن نتأمل ليس الصورة فحسب، بل ما يحدث لنا كذلك ونحن نتلقاها، فنحن إما مسحورين أمام صور ضبابية، أو متحيّرين أمام صور متشظية، لندرك أن الصورة جاءت غير واضحة، عن عمد فني، وسابق ترصّد وإصرار، إذا أمكن استخدام مثل هذا التعبير الدارج لتشبيه العمل الفني للمصوّر.
التقنية التصويرية أصبحت على سطح الصورة، وتلك الصورة الكامنة خلف التشظي والضبابية، وتلك التقنية تحديدًا تدعونا، بل وتلح إلحاحًا، لرؤية وقراءة الصورة من خلالها، ولا نملك أي وسيلة كي نزيحها عن أنظارنا، لأنها غدت جزءًا لا يتجزأ من الصورة.
العامل التقني
التشظي السطحي والتشقق قد يعبر عن أشياء كثيرة مثل السياج والسجن والعازل وفيه من الانكسار الكثير، إن الزجاجة كسرها لا يُجبر على رأي الشاعر، والضبابية والنداوة قد تعبر عن الرؤية الغائمة وذوبان الملامح في التكوين، كما أن لها مسحة الحلم، تلك الأشياء التي يفترض أنها عيوب في قواعد التصوير السليم، تغدو هنا مادة وأسلوبًا فنيًا، وما دمنا ذكرنا الدارجة فإننا نقول عن شق الزجاج شغّ بتحويل القاف إلى غين، ونقول تشغشغت الزجاجة وانشغّت بدل تشققت وانشقّت، وتلك تقنية لغوية هي الأخرى.
أما هنا فإن تقنية التشقق والتشظي تبدو هي النقيض والضد من تقنية الضبابية والنداوة، يجمعهما الموضوع، وفي حين تتجول صور عبدالمنعم بفعل تشظيها وتشققها في المدينة، تبقى صور دالية كما لو كانت حبيسة محطة السفر، هكذا يحاول هذا المعرض الإحاطة بالمدى البصري لموضوعه.
فإذا افترضنا أن هذه التقنية التصويرية استخدمت الزجاج لتنفيذ التقنية، الزجاج أمام العدسة، الزجاج كعازل ضوئي، لكن العدسة من زجاج كذلك، إن العازل والمستقطب من مادة واحدة، نفس المادة لكن مع اختلاف الاستخدام، بين عزل واستقطاب الضوء، حركة بين الجذب والإبعاد في نفس الوقت، شيء يعبر عن التردد بين نقائض وأضداد، الزجاج ضد نفسه، منقسم أمام الصورة، وهذا التضاد تنتج عنه الصور، فكأن الصورة ضد نفسها، ضد ماهيتها كصورة، ضد وضوحها ونقاوتها هي نفسها، كأنما الصورة تسلم نفسها وفي نفس الوقت تهرب من كونها صورة.
التشقق والتشظي
التشظي الذي استخدمه عبدالمنعم الحسني طريقة رؤية يجري ترسيخها في الصورة، نتذكر المرآة المتشظية بل المرآة المتشظية على الحائط هي إحدى أعمال المعرض، عليها دعوة لالتقاط صورة شخصية، سلفي، وهي كأنها دعوة للمشاهد للنظر إلى المعرض الفني من منظور التشظي نفسه، هذا المنظور الذي استخدمه المصور نفسه لرؤية السفر، هل يذهب بنا ذلك الى سؤال ما الذي يكسر المرآة؟ ما الذي يشظيها؟
المرآة أداة تعكس الضوء نستخدمها عادة لرؤية الذات، وعندما انحنى نرسيس على صفحة الماء أغرم بجمال وجهه ظل يتطلع ثابتًا مكانه، كما جاء في قصيدة التحولات لأوفيد، حتى تحول إلى شجرة نرجس، ومن تلك القصة جاءت صفة النرجسية بوصفها حب الذات؛ هنا نرى العكس، نرى المرآة لكن ليس في صفائها ونقاوتها بل في تحطمها وتشظيها، شيء يذكر بمشهد غرق أوفيليا في مسرحية هاملت لشيكسبير، فقد كانت هي الأخرى تحمل مرآة.
هكذا إذًا نفهم من التشظي أن الصورة المنعكسة لم تعجب الرائي، فرمى المرآة بحجر، نقول المرآة لا ذنب لها كما نقول الصورة لا ذنب لها، ذلك أن للصورة علاقة أصيلة بالمرآة، فالمرآة إحدى جدات الصورة، لكن هذه الصورة والمرآة تعرضت لحادثة، سقوط ربما، فانكسرت، انكسار المرآة تشظيها وتشقق زجاجها، ولنقل افتراضًا أن الكاميرا سقطت وانكسرت العدسة، لكن المصور بقي مصرًا على التصوير بها، لم يتوقف عن عمله، حاله كالمرآة التي رغم تعرضها للتشظي إلا أنها ما تزال تعكس الضوء، مخلصة للضوء رغم كل شيء، رغم الانكسار، التشظي، ومن ذلك الانكسار والتشظي ولد فن الموزاييك، والفسيفساء، وحتى التزجيج.
التشظي يشير لحادثة، ومن ينظر للصورة لا يعرف شيئًا عن الحادثة لكنه يرى النتيجة. موضوعات التشظي هنا السفر، والصورة الوحيدة التي نجت من التشظي هي صورة عنوانها الفنان، فيها نجد بدل التشظي تخطيطات الرسم واسكتشاته تعزل الصورة، لكن التشظي لا يشير فقط للانكسار.
إن التشقق والتشظي صيرورة أجسام، جزء من أعمال الزمن، نراه في وجه العجائز، هذا التشقق هو الفعل الطبيعي للتقدم في العمر، بل أن من يطالع اللوحات الفنية القديمة في المعارض الفنية، التي مضى على رسمها مدة طويلة، حين يقترب من اللوحة سيرى أثر الزمن على العمل الفني، داخل اللوحة وفي تفاصيلها الدقيقة تبدأ اللوحة بالتشقق، التشظي، نتيجة لفعل الضوء نفسه، هكذا لا يكون التشظي غير نتيجة طبيعية، والحادثة التي لم نعرفها في البدء، الحادثة التي أدت لتشظي المرآة والزجاج هي حادثة الحياة شخصيًا، ونحن أنفسنا المرآة.
النداوة والضبابية
نفترض هنا أيضًا أن التقنية المستخدمة هي الزجاج، مع أن الضبابية في الصورة يمكن انتاجها اليوم بفعل التقنيات والعدسات والفلاتر، لكن الضبابية استخدمت في ذاكرتنا البصرية لتحيط بعالم الأحلام، نتذكر فيلم المرشد ١٩٧٩ Stalker لأندريه تاركوفسكي حيث مرور الضباب يحوّل المشاهد في المنطقة:
ضباب الغيوم
تتحول في لحظات
مئات المشاهد.
ماتسو باشو
إن الضبابية تذهب مذهبًا آخر هو معاكس لمذهب العصر اللاهث خلف الدقة القصوى، إنها تذهب في الاتجاه الآخر، اتجاه الحنين للماضي، الصور الضبابية تحيل كذلك داخلها إلى تاريخ التصوير، إلى صور الأفلام بدل الصور الرقمية، تلك الضبابية جزء ومكون رئيسي من صور الأفلام القديمة، فكأن تلك الضبابية التي استخدمت للتعبير عن الأحلام بصريًا ولدت مع الفيلم القديم، وكان الارتباط ارتباطًا لا ينفك بين الفيلم والحلم، حتى وصلت الكاميرات الرقمية بدقتها.
حين نستخدم الضبابية في تصوير السفر، فكأننا نحيطه بهالة بيضاء، تلك الهالة البيضاء تشبه نزول الغيم للأرض، صور الضبابية كأنها بطريقة أو بأخرى تحاول الجمع بين السماء والأرض، ذلك الجمع الذي يحدث حين تنزل السحب وهي ساكنة السماء إلى الأرض، لكن ما الضباب في النهاية غير ماء مسافر؟ وحتى ما ندعوه ضبابية الرؤية سببها نداوة السطح، هكذا يتغلغل الماء في الضوء.
يدخل الضباب إلى الصورة وتلتقطه المصورة، لكنها تضعه أمام موضوعها، كعازل هو الآخر، كتقنية تصويرية وفنية، كأنما تدخل بذلك موضوعات الصورة في عالمها المفارق ذاك، تدخل السماء بما هي درب السفر المعاصر، داخل صورها التي تبدو لأول وهلة ملتقطة في المطارات، لكن بالنسبة للمشاهد فإن كل مواضيع الصور الضبابية تلك تعطي ظهرها للعدسة، كأنما كل الشخصيات في الصور شبحية، هي الأخرى مياه متخفية في هيئات أخرى، هيئة سفر.
الأشباح ظل غير مؤكد، ليست الضبابية وحدها موجودة بل هناك الأشباح، الأشباح مظلمة غير واضحة الملامح كذلك، إنها ظلال متحركة، لا يمكن القبض عليها، للكاميرا امتياز تصويرها وسط الضباب كظل أسود، السواد يذكرنا بالجو اللوني الذي تجري فيه اغلب صور الضبابية، جو الزرقة والبياض، الزرقة والبياض يحيلان مباشرة للدرب السماوي، درب الطائرات، هكذا يتغلغل الموضوع هو الآخر داخل الصورة، ليؤكد حضوره الطاغي.
الأشباح خلف ضبابية العازل، خلف الزجاج، لكنها تعطي ظهرها للعدسة، ربما لأنها مسافرة، لكنها ذاهبة وليست قادمة، هكذا يبدو السفر باتجاه واحد، ذهاب بلا عودة، وذلك الذهاب بلا عودة لا يذكرنا إلا بالسفر الذي باتجاه واحد، بالحياة بوصفها كذلك سفرًا في اتجاه واحد هو الموت، إن إصرار الصور الضبابية على قبض تلك اللحظات الغائمة يورطنا، بالأحرى نغرق في الندى، نغيب في الضباب، لنبلغ في معنى السفر الأعمق.
إذا كان التشقق يذكرنا بالمرآة، والمرآة انعكاس مائي، فإن الضبابية والنداوة تستحضر الماء لنرى الصورة من خلاله وداخله، وما كان يبدو نقائض وأضداد عاد ليتحد فجأة، وحين نقف أمام صورة حصاد المسافر نجد البياض والسواد، في النهاية، في التجريد، حصاد المسافر هو الذهاب، وبضع شظايا، ولم يبق غير ضوء وظل، نهار وعتمة، تلك الأشياء التي هي نفسها قصة الصورة، وهي نفسها قصتنا، لأنها الصورة هي الأخرى مثلنا ابنة الزمن.
الصورة غائمة، لا أدري هل كنا نحلم أم نتذكر، هل سافرنا فعلًا أم أن ذلك حلم؟ أم خيال؟ أم ذكرى، مسافر نائم في حلم مسحور يحاول إيقاظ نفسه، دون جدوى.