إن المذهب الإنساني، هو تعبير عن تلك النوازع وضروب النشاط التي يتوصل الإنسان الطبيعي بفضلها إلى ما فوق الطبيعة. فإن نموذج المذهب الإنسان ليس الإنسان الطبيعي ولا الإنسان فوق الطبيعي كبديل له، بل إنه بالضبط الثنائي المؤلف من الإنسان الطبيعي، ومن امكاناته على التسامي. أن الإنسان الطبيعي مسوق دوما نحو تنمية امكاناته. وأن المنبت الذي يخرج منه هو عالمه الذي يحدد الشروط التي لا مهرب منها لحياته العضوية النامية. والإنسان يتفحص عالمه هذا عن طريق المعرفة ويستخدمه لتحقيق المثل العليا، ويزينه ويتمتع به بواسطة إحساسه بالجمال.
فالمذهب الإنساني إذن، هو رسالة أو حركة ثقافية أو برنامج تعليمي، نشأ في أوروبا جعل الإنسان هدفا ومثالا، أنه أن الإنسان كائن يستحق الاهتمام والإعجاب. وعندما يقترن المذهب الإنسان بالثقافة والتنوير، عندها يصبح بإمكاننا أن نعتبر القرن الثامن عشر مرحلة متأخرة من عصر النهضة رافقها، كما رافق عصر النهضة الايطالية، بعث للمعرفة القديمة. فلقد سادت فيه الثقة نفسها في الفكر الإنساني المتحرر، والنهم ذاته للمعرفة ولعبادة العقل. وفي الوقت ذاته وُسِّع مجال المعرفة توسيعا كبيرا، ذلك المجال الراقي الذي أنقذ من تيه الجهل وصحرائه، حتى إن الناس أصبحوا يشعرون أن العلم بكل شيء أصبح في متناول العقل.
المذهب الإنساني والأخلاقية:
إن ما يشوش التفهم لعلاقة المذهب الإنساني بالأخلاقية إنما هو سوء الإدراك العميق الذي يحيط بهذا المجال من الحياة. إن الأخلاقية تتطلب النظام، ولهذا يتوجب عليها أن ترفض الاستسلام للرغبات دون قيد أو شرط. ولكي توفق بين الرغبات وتحقيق الشراك بينها يجب عليها أن تضبط أي رغبة متفردة بنفسها، أو أي جزء واحد من مجموعة الرغبات. وبما أن هذه المعارضة هي أقوى إدوارها درامائية (إثارة) فقد اكتسبت الشهرة بأنها ضد الميول الفطرية.
والحقيقة أن الأخلاقية ليست ضد الرغبات بحد ذاتها، وإنما هي ضد تفلت الرغبات وميوعها فقط. فيس مبدؤها الانكار ولكنه التأكيد الإيجابي. إن الأخلاقية إذا نظر إليها على أساس أنها متمشية مع ميول الإنسان وضروب اهتمامه الايجابية، ومع تحقيقه لهذه الميول والاهتمامات، فلن يكون هناك أي أساس للتناقض بينها وبين المذهب الإنساني.
المذهب الإنساني والطبيعة:
علاقة المذهب الإنسان بالطبيعة، قضية حساسة. فإذا كان يُعنى بالطبيعة مستوى ذا قيمة معينة، فإن المسألة تصبح مبهمة لأن التعبير يستعمل بمعنيين: المعنى القدحي وهو يشير إلى ذلك المستوى من الطاقة الإنسانية التي يشارك الإنسان فيها سائر الحيوانات أو العالم غير العضوي، والمعنى التقريظي وهو يلمح إلى ذلك المستوى الذي لا يبلغه إلا الإنسان وحده على أرقى حالاته.
إذن، فإذا ما فسرت الطبيعة حسب المعنى الثاني، فإن المذهب الإنساني يجب أن لا يفهم فهما تجريديا أو مفككا. فإن مقياس الحياة الإنسانية بالنسبة له ليس كمال الأنواع البشرية مهما كانت. كما وأن المذهب الإنساني ليس مفهوما ميتافيزيقيا يعتبر مقياس الحياة هو تحقيق الإمكانات الإنسانية بغض النظر عن نوعها. وكذلك فإن مثال الإنسان في نظر هذا المذهب يجب أن لا يعرف بأوصاف الإنسان الميتافيزيقي ويرقّى إلى أعلى مراتب الوجود، كما فعل سبينوزا معه. بل إن الإنسان الطبيعي بالنسبة إليه إنما يعرف تجريبيا لا ميتافيزيقيا: إنه ذلك الوجود الإنساني الذي نتعرف عليه عن طريق الإدراك الحسي والذي يطابق في جزء منه، إن لم يكن في كليته، الجسم البشري كفرع من العالم المادي.
فالمذهب الإنسان بتعبير أدق، إنما هي في أساسه، فلسفة تعبر عن رد الفعل ضد الإلحاح غير الطبيعي الذي يفرضه مذهب الزهد على نكرات الذات. إنه يثق بالرغبات ويتمتع بالحياة بضمير مرتاح وينمي فن السعادة. غير أن هذا لا يعني أن المذهب الإنساني يفتقر إلى النظام والانضباط، بل إنه يعني أن انضباطه الذاتي انضباط بنَّاء تبرره الخصوبة المثمرة. إن المذهب الإنساني لا يجد أي فضيلة إطلاقا في إنكار الذات وتعذيبها، بل إنه يجد أن الأشياء الجيدة في الحياة تنبع تلقائيا من ذخيرة أساسية أغناها النمو والعلاقات الإنسانية.
إن المذهب الإنساني الذي يمتدح الإنسان لا زهوا ولكن احتراما لقدرة الإنسان الخاصة على الاختيار النير، فإنه يرز اهتمامه على الحرية متمثلة في الاختيار النير. وإننا نجد أن الكرامة الإنسانية تتكون من اعتماد الفرد على ملكتي المعرفة والإرادة. وحتى الآن يم تكتشف التجربة أو التواتر أية قدرة روحانية تفوق هذه. وإنه إذا كان على الإنسان أن يستجيب لما يظهر بجلاء إنه فرصته الكونية الفريدة فإن المتطلبات الرئيسية هي اثنان: جهده الواعي، وشجاعته على أن يقاوم إغراء التشكك بينما يبذل قصارى جهده كما لو لم يكن هناك أية تجربة سابقة للإخفاق الإنساني.
غير أن هذا الوظائف الإنسانية في رأي رالف بارتون، والتي تضمنتها العلوم الطبيعية لا تحافظ على نفسها. فلاإنسانية العلوم تمكن في أنها ما تزال دوما تعري نفسها من إنسانيتا. إن قوتها تنبثق من صفتها التقنية وميزتها تنبع من صفتها التطبيقية. غير أن العلماء قد يكونون أقوياء وشهيرين دون أن يكونوا إنسانيين. فلكي نحافظ على إنسانية العلوم فإننا نحتاج إلى علماء راسخين في نزعتهم الإنسانية لكي يقاوموا تأثير تدريبهم الدراسي، وامتداح الناس لنفعهم، ويتساموا فوقها.
عاطفة الإنسان:
إن للناحية العاطفية من الحياة مثالبها المميزة، وتعرف نقائصا بالفتور واللامبالاة والوهن والهروبية. أما الإفراط في العواطف فهو لا يقل خطرا. فالعواطف الرئيسية تجنح إلى أن تصبح وكأنها نوبات عارضة، وكأنها تجرفنا معها بعيدا. إنها تنو بما تتغذى به، لا سيمت عندما يشترك فيها أعضاء الجماعة، ومن دون أن تفقد التوازن مع المناسبة التي سببتها- كما يحدث عندما يصبح الخوف رعبا جماعيا- فهناك دورة تصاعدية من العاطفة العنيفة- تزيد العاطفة الواحدة فيها من حدة العاطفة الثانية.
إن خطر الحياة العاطفية الأكبر يكمن في القوة الغلابة التي تميز العواطف السلبية. فالكراهية والخوف والشراسة، مع الأسف تبدو في حد ذاتها أقوى من الحب والأمل واللطف، كأنما الطبيعة قد منحت اهتمامها الأول لحفظ الحياة في محيط خطر يهددها.
لذلك، فإن أكثر فصول التاريخ الإنساني ظلاما هي تلك التي قويت فيها العاطفة وقد تحكم بها عقل منخفض المستوى، عقل لعله كان كافيا ليخترع المعتقدات ولكن على حساب القوى الفكرية الناقدة. هذه الحالة المعروفة بـ “التعصب” إنما هي أفظع القوى الإنسانية المدمرة للذات وأقواها شرا. إنها شريرة لأنها تمحو أو تهدم جميع حوافز الرأفة وتزي ضوابط الفكر النير وهدايته وتجرد الإنسان من نزعته الإنسانية وتفسد الحياة وتحقرها في صميما.
وعلاج هذا الداء –التعصب- يتطلب حرية الفكر المفضية إلى التسامح مع آراء أقوال الآخر المختلف. أو مع أعمال لا يوافق الإنسان عليها مطلقا. إن الإنسان يحتاج إلى موقف متجرد عن الميول الذاتية. وهو يلح على أن الناس يجب أن يتمسكوا بالفرق بين الميل الشخصي أو التحيز، وبين المبدأ الذي يقول بأن الفروق في الميول والتحيزات يجب أن تكون مسموعة ومحمية، أولا من أجل المجتمع ككل وثانيا لأن الإنسان قد يجد نفسه يوما في الجانب غير المرغوب . وإن رؤية هذا المبدأ وتأكيده بعزم ثابت إزاء تيارات العاطفة المتقلبة يتطلب عملا فكريا واضحا.
ذلك، أن استعمال القوة لا يحسم الخلافات، وإنه لحق أن القوة قد تقضي على أتباع عقيدة ما وتفنيهم. ولكنها لن تبرهن على تفوق عقيدة المنتصرين. كما أن استعمالهم للقوة كفيل بإفساد عقيدتهم هذه. فإن يبد أحد الفريقين إبادة كاملة فإن استعمال القوة سيكثف تعصب الجانبين ويدفع الحزب الأضعف إلى العمل السري أو يضفي عليه بريق الاستشهاد الساحر. ولكي يحسم موضوع الخصام حسما بناء فإنه من الضروري أن تكون هناك فترة طويلة الأمد يتخلى فيها الفريقان عن استعمال القوة. خلال هذه الفترة لم يتنازل أي من الفرقين عن معتقداته ولكنهم سينشد انتصار هذه المعتقدات بالصبر، فيزاولها أفراده ويظهرون فضلهم في عقر دارهم، بينما يمارسون التسامح في خارجها. وأن حفظ التوازن بين المواظبة على العقيدة وبين ضبط التصرف إنما هي السياسة المتنورة. وهذا ما يقصد بفكرة التعايش السلمي، وتحقيق هذه الأخير يستلزم استحضار العقل وحرية الفكر وليس العاطفة المفضية إلى التعصب.
فعلاقتنا بحرية الفكر لها ثلاث مناح بالغة الأهمية وهي: أولا أن نتمتع بها، وثانيا أن نمنحها للآخرين – كحق وليس هبة- وثالثا أن نعلمها عن طريق الكلمة والمثال، بذلك نكون مواطنين كونيين لا مواطنين منعزلين عاطفيين متعصبين.