الإخلاص للموروث العُماني
الرواية الأصيلة هي التي تستنطق بيئتها.
الوقوف أمام عتبات النص ضرورة تتيح للمتلقي الإمساك بمفاتيحه الرئيسة، وتُمهّد له دخول فضاءاته ، غلاف العمل هو المدماك الأول في البناء الفني ، وهو من يأخذ بيد المتلقي للوقوف على جزئياته ، حيث يفترش الأزرق -رمز الماء- غلاف الرواية بالكامل ، لأن الماء هو المحور الأساس والثيمة التي ينهض عليها العمل ،وتنتظم وتلتقي شخصياته من حوله ،وهو الذي يحمل السؤال الوجودي غير المباشر الذي يوصل رسالة العمل السردي ” الماء سر الحياة وجدلية الموت”، وهو الخيط الذي يصل بين المغزلين ،رمزا لحياة الغافر التي بدأت بالماء وانتهت به، فأم الغافر قضت غرقا ،و نهاية والده مطمورا تحت انقاض سقف فلج منهار، ليظل حيا في الماء يصارع فرص الحياة، وما يمثل المغزلان من رمزية مراوحة الحياة وجودا وعدما ، وأملا من الزوجة بعودة الغائب، وليظل الإنسان في وجوده مرتبط بالماء وجودا وعدما، وما نشوء الحضارات الكبرى وتمددها واتساعها على منابع الماء وضفاف الأنهار، عن تاريخ البشرية وتطورها ببعيد.
عنوان الرواية ” تغريبة الغافر”، عتبه دلالية هامة أخرى، فالتغريبة من الغربة ،والاغتراب ،والوحدة ،والبُعد ، والتفرد ،وإدارة الظهر لما هو شائع وسائد ،ورفض الانتماء لما يجمع القطيع ،في حين أن القافر بطل الرواية الذي تلتقي عنده خيوط السرد جميعا ، و لكل شخصية فيه أسطورتها، لكن “القافر” أسطورة النص الكبرى ،يتجاوز المعنى المباشر الذي تحمله المفردة من دلالة البحث عن الماء لإرواء العطش، إلى السعي للخلاص من الفقر ،وآلام الحالة المزرية ، ومحاولة الخلاص من شروط الراهن البائس ، وصولا لتحقيق الشرط الإنساني للحياة، إذا أضفنا لذلك دلالات كلمات العنوان باللون الأسود ،وما ترمز إليه وتوحي به من الغموض، والتمرد، والعمق والتحدي والاكتئاب والموت والشر، أدركنا مدى التوفيق الذي حالف الكاتب في طرح مضامينه.
عندما يكون الفضاء الروائي للنص امتدادا للشخصيات الروائية ،من حيث قيمها الدلالية والرمزية ،فإن ذلك لدليل على تميز العمل، فإذا أضفنا البيئة القروية ومفرداتها ،محورا رئيسا ، فذلك يعكس الروح التي ينطلق منها الخطاب السردي ،بما يُمثّل من أمانة الحفاظ على هذه البيئة وكينونة بقائها في الوعي الجمعي ، لأنها النسيج الذي يشكّل نكهة وطعم الخصوصية المحلية ،التي تميزها عن البيئات المغايرة، بكل ما يكتنفها من ملامح ورؤى واقعية أو أسطورية، فإن توفر في النص التأثر، وحاز على التأثير، وتمثلت فيه المتعة والتشويق، صار العمل أهلا لينال القبول والمتابعة ،ويقف منافسا لنيل أسمى الجوائز ، من هنا نرى النص وثيقة أنثروبولوجية ،توثّق وتحفر بجدارة في مكونات البيئة المحلية العُمانية /عالم القرية / بكل ما يكتنفها من مثيولوجيا شعبية، تتاخم حدود الأسطرة والفنتازيا ،وتوثق للعادات وأساليب العيش ومكابدات الفقر ، لهذا تُشكّل الرواية مرجعا أنثروبولوجيا يمكن اعتماده في دراسة وفهم كينونة المجتمع الذي ساد في الفترة التاريخية التي يطرحها النص ،و تؤرشف لواقع الأفلاج التي تتميز بها سلطنة عُمان ،وتتفرد بها ،مما صار في الماضي أو أوشك أن يندثر، أمام هجمة التقدم التقني في الزراعة ، والري ، ومناحي الحياة كافة ، تأسيسا حسب وجهة نظر الكاتب على مقولة أن الإغراق في المحلية والإخلاص لها ،عتبة أولى للوصول للعالمية ، فنحت الروائي وبتفوّق ،أسماء أبطال عمله بفنية تعكس فضاء المجتمع والبيئة القروية في عُمان ،بعاداتها وطرائق عيشها ونمط تفكيرها وأمثالها وطقوسها الحياتية ومواجهتا لصعوبات الحياة .
ها هو زهران القاسمي يأخذ بأيدينا لولوج نصه بلغته الشاعرية المتدفقة الرصينة الموحية المعبرة ومن خلال إطلالة مشهدية مشوقة ” غريقة … غريقة “
يرتفع بالنداء صوت الطارش في بلدة “ المسفاة ” وهو يطرق الأبواب صائحا بالناسان أحدا قد غرق .
يوظف النص الغرائبية والفنتازيا بشكل لافت كبقر بطن الغريقة الميتة الحامل واستخراج مولودها الحي، كمفارقة يتم فيها التأكيد على الجدلية الضدية التي تشتبك مع الفضاء القرآني “ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ (27)آل عمران، وفي غفلة الناس ،سحبت كاذية بنت سالم سكينا من حزام أحد الحاضرين، ورفعت ثوب الغريقة وشقت بطنها ثم أدخلت يديها لتخرج الطفل ، وما أن قطعت حبل المشيمة ورفعت الطفل حتى سمع الجميع بكاءه ،ص 15، ومن الغرائبية أيضا نزول المطر صيفا على الجنازة “وازداد انهمار المطر عند اقتراب النعش من المقبرة ، فابتلت الرؤوس وخضّل المطر اللحى” ص 30.
وظف النص كذلك تقنية التناص مع المثل الشعبي “صبر ساعة ولا عوق دوم ، ص19″ فقير وشوره دمير ” ص163، وتم أيضا توظيف تقنية الحلم ورمزيته في أكثر من موضع في النص “كانت تغفو على ظهر الدابة وتحلم بيد صغيرة لطفل تخرج من صفحة الماء، تمتد لها طلبا للنجدة” ص ، 47،”يقال أن الشايب حميد أخذته سنة من النوم وقت الضحى ، فرأى نارا تجتاح البلاد حتى التهمت كل شيء.. وكان الناس يهربون منها، يلوذون بالقمم والكهوف ” ص 98.
رواية “تغريبة القافر” كسرت المقولة النمطية التي ذهبت مثلا من أن الرواية وليد شرعي للمدينة ، وها هي بطرحها موضعها الفريد، تلغي هذه الفرضية ،بطرح اشتباك الواقعي بالمتخيل ، وخصوصية الحياة القروية العمانية ، ونقل ورصد وإبراز عادات المجتمع القروي ،وأساطيره وموروثه الشعبي،ولهجته المحلية ،وتلتقي شخصياتها جميعا حول بؤرة الفقد والفجيعة والألم ، وقد تعاضدت جميعها في حمل مضمون النص وإيصال رسالته ، وإن كان لكل منها إطاره وملامحه، كما هي شخصية سالم بن عبد الله ، ذلك الطفل الخارق المختلف الذي وضع رأسه على الأرض ثم ألصق أذنه بالتراب وبدأ يهمس بخفوت كأنه يود من العالم حوله أن يصمت حتى يستطيع أن يستمع لصوت يأتيه من الأعماق الصخرية … ويتمتم بهدوء تام ماي.. ماي ” ص 68، والجد غانم صاحب الطبل والد كاذية الذي هجر البيت وهي في الخامسة من عمرها ،وخرج هائما في الوديان والقرى ، يحمل طبلا معلقا على كتفه، ويضرب عليه بعصا غليظة ،ضربات هادئة وبنسق بطيء، ص 76 ،وغيرها من الشخصيات كشخصية كاذية بنت غانم التي أجمع أهل القرية على قدراتها الخارقة ، والوعري ود عامود، الإنسان الكريم المتعاون الذي يحترمه الجميع ” توقف الناس عن الكلام ساعة وصوله، بات الكثير منهم يكن له الاحترام على ما فعله من دون أن يتباهى أو يحاول استثمار كرمه، ظل على حاله لا يرد السلام بأكثر من كلمة عندما يأتون ليأخذوا نصيبهم من ماء حوضه ” ص ،108.
تميز الكاتب في نصه باقتناص المنسي والمهمل، باستعمال الراوي كلي المعرفة ،الذي أضاء عوالم التداوي بالأعشاب ،والسحر ،والرقى ،ومسحوق أوراق الشجر ،وتعليق الأحراز في رقاب الأطفال ،واستعمال الصمغ والحرمل والبخور، والإيمان بالطلاسم ، لطرد الجن ، ونذر النذور وزيارة القبور ، ورمي قطع الحلوى في عيون الماء “يا عين زولي العين عن شنة بنت آسيا ” ، ص 53.
تقنية الثنائية الضدية مما تميز به النص أيضا ، فالمتتبع يلحظ أمثلة على ذلك كضدية الحياة والموت/الصخر والماء /العطش والارتواء/، كما تميز بتوظيف اللهجة العمانية المحلية التي أضفت على جو النص مزيدا من الواقعية والمصداقية ، وليت المؤلف استعان بهوامش لتوضيح المفردات التي يصعب فهمها.
وظف النص خاصية التخاطر النفسي كما عكستها حالة نصرا بنت رمضان زوجة سالم، ص200.
فنيا ، أرى أن شخصية إبراهيم بن مهدي ،لا ضرورة لها ،وهي مقحمة ، فلم تأت معاضدة لغيرها من الشخصيات في حمل رسالة النص ، على العكس تماما من شخصية زوجته آسيا مرضعة القافر.
ومن جانب فني أيضا ، أظن أن أقرب توصيف لهذا النوع من السرديات هي النوفيلا، سواء على مستوى حجم الصفحات أو محدودية الشخوص عددا ودورا ، فشخصيات الرواية كثيرة ، متشابكة متطورة، معقدة ،في حين شخصيات النوفيلا محدودة العدد والمساحة والحركة ، و أقرب للعرض البانورامي .
مما يُدهش المتلقي للنص، نهايته المفتوحة ورمزيتها..” تتالت الضربات، وتحول جسده كله إلى يدين، لا هم لهما إلا ضرب ذلك الجبل.. كأنه يضرب كل ما عاشه مذ كان طفلا ، يهوي بالمطرقة على سجنه ، على غيابه، على اليأس من مغادرته تلك العتمة ،على شوقه الجارف إلى زوجته...على الفكرة التي لا يرغب بمواجهتها … تداعت الصخرة أمامه، وانفتح الخاتم على النفق الطويل، فانطلق الماء بقوة ن وجرف معه كل شيء.
هذه النهاية التي تشارك المتلقي ،وتحترم عقله وتفتح له آفاق التأويل، تستحق التنويه لأنها تضع القارئ امام خيارات ينتقيها حسب وعيه وثقافته وذوقه.
** تغريبة القافر ، رواية من تأليف زهران القاسمي، ط1، 2022، دار رشم للنشر والتوزيع ، تونس .
*** الرواية الفائزة بجائزة البوكر لهذا الموسم