“الأرانب تصل أولا”

كتب بواسطة سماح ممدوح حسن

وصلت رواية “حجر السعادة، تأليف الروائي العراقي أزهر جرجس” إلى القائمة القصيرة في جائزة الرواية العربية، البوكر2023. والصادرة عن دار الرافدين ببيروت.

صوت واحد وعودة بالذاكرة.

 إذا كان محور الحكاية الآلام والمعاناة البشرية فلن ينجح الكاتب بإيصال ما يرنو إليه إلا إذا وضع قارئه تحت وطأة الضغوط النفسية التي ينؤ بها كاهل أبطال حكايته فيهرب معهم عند الخوف وتقرصه معدته عندما يتضورون جوعاً ويتمزق قلبه آلماً مما يسمع من إهانات توجّه إليهم، ويبحث معهم عن مكان يصلح للمبيت حين يتشردون دون ملجأ. وهو ما نجح فيه “أزهر جرجس” باقتدار في رحلة كمال وحجر سعادته من الطفولة للكهولة.   

وأول تلك الضغوط محاولة اغتيال الراوي أو “كمال، كيمو” الحدث الذى سينفجر في وجه القارئ كقنبلة تبدأ بها الرواية ومن بعدها ينساب فيض ذكرياته يرجع به للطفولة ويعود به حتى مطلع يوماً لم ينفذ فيه انتقاما كان ينتويه، فيفرح.

يقص علينا الراوي حكايته التي تنقسم إلى قسمين أساسيين، على 32 فصلاً بعناوين مختلفة. القسم الأول، الطفولة المبكرة في “محلة المياسة” والقسم الآخر، بدايات سن المراهقة والشباب والشيخوخة في بغداد.

ملهاة”حجر السعادة”.

الحجر في الرواية يمثل نبع سعادة “كيمو” وهى المفارقة الأولى في الحكي. فكيف تنبع السعادة من قلب صلابة الحجر الحري به القسوة؟ ففي رحلة الهروب الأولى ل “كيمو” في بستان الجن، سيعثر على حجر أزرق صغير، سيظنه حجرا جالباُ للحظ لكن “كمال” خلق له قيمة أكبر بكثير، فقد اتخذه مصدرا للسعادة. الأكثر من ذلك كان حجر السعادة هو ملاذ كمال للحفاظ على آدميته، فهو ورغم كل ما ألمّ به من كوارث وضياع وجوع وإغراء على ارتكاب الشرور والآثام بمبررات سهلة إلا أنه أبى الانزلاق إلى هذه الدائرة الحيوانية بمساعدة حجر السعادة الذى حافظ رغم كل شيء على نقاءه الداخلي، ومعرفته لقيمة الحياة والحب والفن، حتى أنه لمّا أنتوى الانتقام تخلص من الحجر.

لا أعلم إن كان الكاتب قد قصد تبيان هذا التناقض أم لا، أقصد بالتناقض جفاف الرحمة من قلوب البشر، المُمثلين في الرواية في الأب القاسي وزوجته الظالمة، وإيجاد الرحمة والسعادة في الحجر المخلوق أصلا كرمز للقسوة.

لم يكن الحجر إلا ملهاة لإنسان مكروب. لجأ للحجر يبحث فيه عن مواساة بدلا من قلوب بشر بخلت عليه حتى بنظرة حانية. فالحجر والذى أشتق منه أسم الروية، مثله مثل أي رمز أخر يلجأ إليه إنسان غُلّقت في وجهه أبواب الرحمة، فيغوص في أحلام اليقظة، أو يسخر من المصائب، أو حتى يتناول عقاقير مخدرة، وغيرها من وسائل تبعث نشوة زائفة تواسي المكروب.

نظرة غير تقليدية إلى بغداد

 وكما كان حجر السعادة أجمل ملهاة عن كروب “كيمو” أضحى التصوير ولعه الأكبر والملهاة الأجمل. فكلما ضاق به الحال حمل كاميرته وجال في شوارع بغداد وأزقتها وألتقط بها ما تقع عليه عيناه. وهنا أخذنا الكاتب في رحلة غير تقليدية في شوارع بغداد. رأينا الأزقة والحارات والأسواق الشعبية قديما وحديثا، مصوّرة بالأبيض والأسود والألوان. أطلعنا على حياة الليل في العاصمة العراقية، ومخاطر البقاء في عري الشوارع وحيداً، وحياة الفقراء والمعوزين والمشردين فيها والمستغلين لهؤلاء بخدع مختلفة، كما هو الحال مع صاحب خان الرحمة.

 وثّق الكاتب تاريخ بغداد بصور كمال، تاريخ أمكنة وتفاصيل لا يراها عادة الكثيرين ولا يعرفها إلا من عاشها فتخلدت تلك الأمكنة بالصورة والحكي رغم زوالها.

 التقطت كاميرا كمال بسرد أزهر، حال التشظي العراقي والتناحر الطائفي والفساد السياسي في مراحل تاريخية عدة، وحروب لم يذكرها الكاتب إلا بالتلميح لكن التصريح بالفجائع أعلن عما يقصد من حروب سواء حرب الخليج أو غزو أمريكا للعراق في مطلع الألفية وكرب تسلط المليشيات على بلاد الرافدين وأهلها.

 يأخذنا “كمال توما” يتيم الأم، إلى “محلة المياسة” يعرّفنا على أبيه قاسي القلب السكير وزوجته الشرسة التي كانت تعامله كخادم وتوفر كل الدلال والعاطفة والراحة لابنها “ريمون” تحت سمع وبصر الأب. وعندما نمضي مع كمال في حكايته سنري كيف أن قسوة الأب الذى طالما نعته بالفاشل الساقط، وظلم وزوجته هما بالأساس ما أوصلا “كمال” إلى ما وصل إليه من تشرد في عاصمة هو فيها كنقطة في بحر، وجوع يقرص أمعائه حتى أكل التبن، والنوم على أرصفة الطريق حتى طعنه أحد المشردين المجانين وفقط على إثر الطعنة إحدى كليتيه.

 بدأت رحلة “كمال” في التشرد في العاصمة وفى هذا الطور من الرواية سيبرع الكاتب في استكمال الضغط النفسي على القارئ الذى ربما سينخلع قلبه بعدما تشرد مع كيمو في بغداد وهرب معه من خان الرحمة الذى ما كان إلا واجهة لزعيم عصابة يستغل الاطفال المشردين ليعملوا كالصوص لحسابه في مقابل الفتات، الرجل الذى تخفي في ابتسامة شيخ ومسبحة ويربض وراءها ذئب ينقض على ضحاياه بعد إحكام قبضته حول رقابهم.

تبدأ رحلة كيمو في الهروب بعد اتهامه بجريمة لم يرتكبها. فبعدما ألح عليه أخوه الأصغر “ريمون” ذات يوم أن يأخذه إلى النهر ليعوّما سفينة صنعاها من الورق. ولأن كمال خاف على أخيه الأصغر من أن يصيبه أذى ومن عقاب زوجة الأب وأم ريمون إن حدث لابنها المدلل مكروه، خاف اصطحابه، لكنه أنصاع بعد إلحاح وإغراء باللعب. وتلك كانت المرة الأخيرة التي يلعب فيها كمال ويرى أخيه.

كان كمال ضعيفا البنية وسط أقرانه، وضعيف المكانة بسبب ما كان أبيه يذيقه من العذاب والمهانة والسب أمامهم فاستهانوا به. وفى اليوم الموعود استغلوا وجوده عند النهر وأخيه، وأوسعوه ضربا، ووسط حمي القتال ركل أحدهم أخيه ليسقط في نهر دجلة ويغرق ويموت. ولمّا خمّن ما سيلاقيه من عقاب على ما حدث هرب من القرية كلها، وبات ليلته في “بستان الجن” الذى سيعثر فيه على “حجر السعادة” والذى به سيمحو كل ألم يعتريه في حياته القادمة، فقط كلما ألمّ به  مكروه من نوائب الحياة همّ بإلقاء الحجر في فمه وأمتص من ينبوع سعادته ليهدئ ويتخلص بعدها من التأتأة التي تربط لسانه عند الشدائد، ويعود إنسان طبيعيا ومُقبلا على الحياة. من البستان يرتمي في عربة لم يعرف وجهتها إلا لاحقا، إلى بغداد. وهناك بدأ فصلا جديدا في الحياة.

مصوّر الورق.

كان لكمال قبل حادث غرق أخيه، يوما هو علامة فارقة في حياته. وحدث ذلك عندما ألتقى لأول مرة بمصوّر قريته”موريس أفندي” الوحيد الذى أثني عليه بعد أخته جانيت، وقال له أن الكاميرا تحب وجهه وألتقط له صورة، لكن الأب القاسي مزق الصورة وأتهم الأبن بالسرقة. هذا لم يمنع شغف كمال بالتصوير حتى أنه صنع كاميرا من الورق صارت هي عينه التي يرى بها وهويته، وأوصى صديق طفولته الوحيد، والمنبوذ مثله، بدفن الكاميرا مع أخيه ريمون بعد هروبه. وهذا ما سيصنع منه مصورا حقيقيا لا حقا وموثقاً لتاريخ بغداد.

حرفية خلق شخوص الرواية.

رغم أن الرواية كتبت بطريقة الاسترجاع حيث بدأت من نقطة النهاية وعادت إليها ورغم أن الرواية تُعد رواية”الصوت الواحد، الرواي العليم” إلا أن ما كانت لتكتمل إلا بحترافية رسم بقية الأشخاص، سواء الصالحين منهم أو الطالحين.

الأب القاسي وزوجته الشريرة اللذان دفعا كيمو للهرب خوفا من عقاب على جريمة لم يرتكبها، الأخت الحنون بمثابة الأم “جانيت” التي مثّلت في حياة كيمو نقطة نور وسط ظلمة حياته بين الموصل وبغداد. مصور قرية الموصل “موريس أفندي” أول مَن قال له أن الكاميرا تحبه فكانت الكلمة التي أتكأ بها على تِيهه عن هدفاً لحياته والعصا التي أشار له بها عما سيكون مستقبلاُ.”العم خليل “المصوّر العاشق الذى أتخذ من كيمو أبناً بدلا من ابنه الغريق. العم خليل الذى آواه وعلمه وأورثه الفن والموهبة وحرفة التصوير والتاريخ “لهذا الحد كنت بارعاً في التقاط الصور ياعم؟! أم هي بعد بغداد التي ما خلق الله الكاميرا إلا لأجلها؟!” وكان له بغداد والعالم أجمع. ثم رفيق الصبا والشباب والكهولة “صالح” الذى كسب التصوير عن كمال كموهبة ومهنة وكان لصديقه خير معين.

 الحبيبة “ناديا” التي جاءت بمثابة جائزة وتعويض عما مضى ودلالة على أنه إنسان لا يزال يشعر بالحب ومتخم بالعواطف ليس مجرد أرنب مذعور لا يعرف سوى الهروب بأسرع ما يمكن والوذ بالصمت، نادية الحافز الذى أزاح نية الانتقام الأخيرة عن قلب كيمو بعدما ألقى بحجر السعادة في نهر دجلة وأشترى بثمن تاريخ بغداد المُصوّر مسدسا، لكن بوجود الحبيبة غاب في ليل حب طويل أستيقظ منه على نهار لم يعكر فيه صفاء قلبه بانتقام لا يشبهه.

الأرانب تصل أولا.

“الأرانب تصل أولا” وهى الجملة التي بثها جن البستان في بداية رحلة الهروب التي حث بها كمال على مواصلة الركض لينجو وصارت تلازمه طويلاً. والأرنب يصل أولا رمز السرعة في الحكايات العربية الكلاسيكية فدائما ما كان بسرعة ركضه يصل لنهاية السباق.

طالما اطلق رفاق الصبى على كيمو لقب الأرنب دلالة على الهشاشة والضعف الذى يدفعه للهروب سريعا. لكن بقية الرواية دلت على أن الأرانب في النهاية هي مَن تصل وتنجح. فنجاة كمال من كل ما مر به من فواجع كان أفضل دليل على تلك الحقيقة حتى وصل للنجاة من محاولة اغتيال ليروي لنا قصته من البداية.

أتسمت لغة الرواية بنسيج متنوع من الأدوات والأساليب الفنية والكتابية. فعبّر الكاتب عن المأسي والأوجاع النفسية والبدينة التي تعرض لها أبطاله بالسخرية أو الكوميديا السوداء أحيانا وأحيانا أخرى بلغة فلسفية صاغ بها أسئلة تمور في أدمغة سائليها عن الحياة والخلق ووجود الإله والوطن، ومعني الوطن إن كنت فيه نكرة. عن معضلات وطن أبتلى بحفنة فاسدين أوصلوه للحضيض. عن معضلات اجتماعية تجعل بعض البشر لا يعلمون قيمة أبناءهم وتأثير الكلمات عليهم.

أيضا برع الكاتب في اختزال اللغة وتكثيفها بحسب السياق السردي، لم يخل حتى في جملة واحدة بأن أطنب في موضع الاختزال ولم يسرد تفاصيل كان الأبلغ تكثيفها، وهذا دليلا على الإجادة التامة لاستخدام اللغة والتقنية.

أدب

عن الكاتب

سماح ممدوح حسن