دليل استخدام.. ماديةالتعامل مع الإنسان

كتب بواسطة وردة علي

سألتني الاخصائية النفسية في مركز الإرشاد النفسي الطلابي: بماذا تشعرين؟ أجبتها: لا أعلم. أعطتني اختبارا لقياس الاكتئاب،  وكانت الأسئلة معيارية للغاية، ومثيرة للسخرية، فكيف يمكن قياس معدل الاكتئاب من خلال أربع خيارات: دائمًا، أحيانًا، نادرًا، أبدًا. تجعلك تلك الاختبارات تشعر بأنك محرك سيارة توقف عن العمل، والمكانيكي يحاول أن يفهم المشكلة. هذه المادية في التعامل مع المشاكل النفسية تضحكني، وتجعلني أشعر بأننا مجرد أجهزة تأتي مع دليل المستخدم، يمكن تشخيص حدتها من خلال اسئلة ويتم ضبطها بمجموعة خطوات أو أدوية.

يتحدث ألدوس هكسلي في عالم جديد شجاع عن عالم في مستقبل بعيد، عالم ما بعد فورد، وفورد نقطة زمنية جديدة، هذا العالم الجديد، قائم على الطبقية، حيث أن لا ولادة بل أجنة مخلقة، ولا حب بل نفعية وعمل، ولا علاقات دائمة، بل علاقات جنسية عابرة يتعلمها الأطفال وهم في سن مبكرة جدًا. في هذا العالم المقسم لألفا وبيتا وجاما ودلتا وأبليسون، لا يثور أحد، ولا يغضب أحد، ولا يحزن أحد – ويبدو هذا العالم رائعًا- يشرب هؤلاء الأشخاص ذلك الدواء الذي يجعلهم سعداء ومرتاحين دومًا، عندما يشعرون بأي شعور مختلف يتناولون (سوما). في هذه الرواية بالذات تظهر مدى وحشية المادية التي صنعتها الرأسمالية،  التي جعلتنا مجرد أجهزة يتم التحكم بها بـ(سوما) عندما نحزن أو نكتئب أو نشعر.     

أعتقد أن الدليل الوحيد على إنسانية الإنسان، هو أنه لا يمكن أن يكون سعيدًا دومًا، وأنه يجب أن يمر بأوقات صعبة، تتراوح في حدتها بمدى رفاهية الحياة التي يحيها الإنسان، فهناك من يعاني من اكتئاب بسبب الفقر أو الحروب، وهناك من هو مكتئب لأنه فقد حبًا، وتطول القائمة. هناك نقطة ما، يجب أن يكون فيها الإنسان قادرًا على الاستمرار، هناك زاوية وجب أن يُحشد فيها الأمل. زاوية تشعرنا دومًا بأن العالم غير عادل بتاتًا، هذا العالم الغير عادل، القديم، والبائس، هو الذي يجعلنا نحاول في ظل هذا الوجع المتزايد التي تخلفه الحروب والصرعات والفساد، أن نغيره، لا لشيء، إلا لتتساوى أسباب الاكتئاب، وأن لا يكون سببها الفقر والاستبداد والحروب ، وأن نشعر بأن عالمنا الشجاع الجديد، هو الذي يمكننا أن نختار فيه، وهو العالم الذي لا يكتئب فيه أطفال لأنهم غير قادرون للوصول لطعام، هو العالم الذي لا تكتئب فيه النساء بسبب المعاملة القاسية والأبوية التي لا تجد مساعدة أو طريقة لحلها سوى تقبلها، هو العالم الذي لا يكتئب الناس فيه لأنهم غير قادرون على الوصول لما يجب أن يصل له الناس. عالم يمكن الصراخ فيه بأننا مكتئبون!

اعتقد أننا لسنا مجرد آلات يتم ضبطها بدليل الاستخدام، نحن مخلوقات معقدة، ومختلفة، نغضب ونحزن ونكتئب، ونفرح ونضحك ونتحمس، لأسباب مختلفة، لسنا أساطير أو ملاحم كلاسيكية تصل دومًا لنفس النهاية والخاتمة والقيمة الأخلاقية، مهما أختلف الناس فيها، ومهما أختلفت أدوارهم وشخصياتهم، تبقى القيمة الأخلاقية هي نفسها كما ذكر عدد من نقاد الأدب الكلاسيكي.

للاكتئاب أنواع مثل بقية الاضطرابات النفسية والعضوية، قد يكون اكتئاب حاد أو اكتئاب خفيف، أو إضطراب مزاج، جميعها يتم تحديدها من خلال مجموعة اسئلة؟ لا حتمًا، هناك عدد من الفحوصات الأخرى يتم من خلالها التأكد من ذلك، يتم النظر في الدماغ، كما يُرى المفصل المكسور عبر الأشعة السينية، يستطيع الطبيب رؤية المناطق المشعة في أدمغتنا ليقيس اكتئابنا. هكذا تطور العلم، وهذا تطور عظيم ورائع جدًا، ولكنني أعلم أن طريقة التعامل معه في ظل الرأسمالية، ورغبة شركات الأدوية لتحقيق الربح هو ما يجرد الإنسان من إختلافه، وتميزه.

أنا مكتئبة!

حسب دليل المستخدم، أنا مصابة بإكتئاب حاد، يبدو حادًا بشدة، ولكنني أعلم كيف يمكن ضبط الذات في مواقف عدة، وقد أفقد هذه السيطرة، ولكنني أحاول جاهدة أن أبتعد عن مصادر القلق، وعن دليل الاستخدام، ولكنني في لحظات اليأس، أفكر في تناول الوصفة، لعلها تعمل ما تعمله الأدوية المنومة التي أشربها للغرق في النوم والقضاء على الأرق، ولكنني أتراجع وأحاول النجاة بمفردي، ومن خلال القراءة والكتابة، والأصدقاء. 

أعلم أن الكثير من الناس يعانون من الإكتئاب بأنواعه، والعديد من الأضطرابات النفسية في ظل هذا التحول الكبير، الذي يفرض على الإنسان غالبًا الإنعزال عن المجتمع، ويبني العلاقات على المنفعة، كما حدث لجيجور في مسخ كافكا عندما تحول لحشرة لا تنفع فتركه الجميع وكرهته عائلته وحاولت التخلص منه. يؤكد أميل دوركايم على أن أنواع الاكتئاب في دراسته الوضعية، على أساس التفاعل الاجتماعي، فيكون المجتمع في ظل النفعية التي فرضتها الرأسمالية شكلًا من أشكال الانتحار الإنساني، وتتطلب الكثير من الجهد للنجاة، والكثير من الحب والعطف في تعامل الناس مع بعضهم البعض.

لم أطلب المساعدة، إلا عندما قررت للمرة الثالثة الإنتحار، كنت قد وضعت أمامي جميع الأدوية، وقررت أنني لا أريد أن أحيا مجددا، لا أريد تنفس الهواء الملوث بالألم والعذاب، لكنني تراجعت، وفتحت هاتفي لأعرف من صديقتي أنها هنا، فأكلنا وأخبرتها فصمتت وتفهمت، ومن ثم أخبرتُ صديقتي الأخرى بذلك، غضبت قليلًا، وذهبت للمصنع، وعرفت مشكلتي التي يبدو أنها خطأ مصنعي ساعد العالم الخارجي على إخراجه للوضوء، نُقلت للطب السلوكي، للمراجعة الأخيرة، ولم أذهب، تراجعت. قررت حينها أنني بإمكاني إصلاح نفسي، والتعايش مع المرض، ومحاولة التعامل معه، أحيانًا يثمر ذلك، وأحيانًا لا يثمر، فأغرق في اكتئابي واشاهد عدة أفلام أو مسلسلات لساعات، وأحاول مرة أخرى، أحاول من جديد. أفقد تركيزي عندما اقرأ وفي أحيانٍ كثيرة أعجز عن الكتابة لشهور، أنا التي أعيش لتأمل أفكار ومشاريع قصصٍ عدة، لتأمل العالم ليبعث فيّ أفكارًا، تهرب كل ما حاولت كتابتها بسبب إكتئابي، لذلك وجب العودة للمصنع مرة أخرى ومحاولة لحل المشكلة.

الطب النفسي بتطوره ساعد كثيرين في التخلص مشكلاتهم أو تخفيف وطأتها غالبًا، عبر الجلسات النفسية، وباستخدام الأدوية كأمر مساعد، فكما قالت الدكتورة كاي جيمسون ريدفيلد التي تعاني من الاضطراب الثنائي القطب في سيرتها (عقل غير هادئ) بأن الأدوية وحدها لا تكفي، فالجلسات لها دور كبير في العلاج. الجلسات النفسية هي محاولة متعبة لفهم المشكلة، وأصلها، لفهم الذات وتقلباتها، وهذا يساعد على التحكم بها. 

يتحدث محمد أبو الغيط في سيرته مع السرطان عن كون “السعادة اختيار”، ورغم أنني لا أؤمن بهذه الفكرة إلا أنني أعلم بأن “ السعادة ممكنة كهزة أرض” كما يقول محمود درويش. هذه المحنة عبارة عن عملية التعايش مع الحياة بقتامتها والبحث عن مناطق الضوء فيها، الاكتئاب إلى جانب كونه عرضً جينيًا في عدة حالات، إلا أنه كالجسد الذي يمرض بسبب عمل أجهزة المناعة فور وجود أي عرض طارئ وجديد، هو حرب الجسد مع المرض، يحارب الإكتئاب القبول بالعالم كما هو، يحارب اللاعدالة، والوجع. الإكتئاب هو قدرتنا على الشعور بإنسانيتنا. وهو رغم ذلك سرطان النفس والدماغ، يمكن الحد من أعراضه، ويمكن السيطرة عليه، والتعافي منه، يتطلب ذلك العلاج، ويتطلب الدعم النفسي والمعنوي. بلا وجود دعم نفسي وجلسات علاج لا يمكن للأدوية أن تصنع شيئًا، مضادات الإكتئاب تعمل بشكل مؤقت، لذلك يجب أن يكون هناك خطوات عديدة. والتخلص منه لا يعني أنه لا يعود بل الفحص المستمر وخلق أسلوب حياة صحي هو الذي يساعد على التعافي منه.

أتمكن بوجود أصدقائي التغلب على بعض الأوجاع، وأستطيع من خلال القراءة والكتابة تنظيم عقلي وإيجاد بعض مناطق الضوء في العالم، من خلال العلاقات الدافئة، والضحك والتعايش المر مع حقيقة المرض، أتنفس وأعيش، ومن خلال عدم القبول الدائم ورفض الاستبداد والظلم أجد الأمل، الذي يمنحني الرغبة في الاستمرار، لعلي، ولعلنا جميعًا نجد يومًا حقنا الطبيعي في التعبير عن اكتئابنا بصوت عالٍ في عالم جديد، لا يجوع فيه الناس، ولا ينتحر الشباب أو يقتل شبابهم في السجون، ولا تقتل فيه الطفولة بالعقد النفسية، والحروب، والأبوة الغير مستحقة، ولا يكون الإنسان فيه جهازًا يضبط بالمتعة والترف أو بالفاشية والخوف.

مختارات الثقافة والفكر

عن الكاتب

وردة علي