“مصادرة الفكر والتدبر والاجتهاد هذا من أكبر الكبائر
نحن لا نسمح لأحد أن يصادر الفكر”
قابوس بن سعيد
1- حرية التعبير الديني والفكري في السلطنة:
نصت شرائع ومواثيق حقوق الإنسان على كفالة حقوقه وحرياته الأساسية؛ ومن بينها حقه في حرية التعبير، وعلى رأسها الميثاق الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن الصادر 1789، وإعلان حقوق الإنسان الصادر عن الأمم في عام 1948، والميثاق العربي لحقوق الإنسان، وغيرها.
وقد جاء النظام الأساسي للدولة مؤكدا لها؛ أي اعتبار حرية التعبير الفكري والديني حق مكفول، ومن حقوق المواطن الأساسية، ومن خلال المواد 28و29 و 31 حرية التعبير العقائدي والديني والفكري مكفوفة ومضبوطة بالقانون؛ حيث حدد قانون المطبوعات والنشر الصادر عام 1984 في الفصل الرابع من هذا القانون المسائل المحظور نشرها في المواد 25 إلى المادة 34.
ومن المعلوم أن لا وجود لسلطة دينية في الإسلام تحد من حرية الإنسان الفكرية والاعتقادية، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، والاتصال الروحي الفكري مفتوح ومباشر بين الإنسان وخالقه، لكن مع ذلك فهذا لا يمنع وجودها في الواقع باعتبارها خروج عن تعاليم الإسلام الأساسية، وفي هذا السياق نتساءل هل وزارة الأوقاف ممثلة في الإفتاء تمثل سلطة دينية:روحية وعلمية ملزمة لا يجوز الخروج عليها أو مخالفتها الرأي؟ ومن خالفها الرأي أو خرج عن إطارها الفكري يعتبر خارجاً من المذهب أو الدين؟ وهل ما يصدر من أحكام وفتاوى من مكتب الإفتاء ملزم بوجه قانوني أو شرعي لجميع المواطنين؟ نؤجل الإجابة لآخر المقال.
لكن هناك فرق بين إقرار هذه الحقوق وبين تطبيقها على أرض الواقع، وحتى نختبر مدى تطبيقها في واقعنا العماني فلا بد من وقائع نرى فيها مدى وجود حرية التعبير الفكري الديني، فجاءت ندوة تطور العلوم الفقهية التي تنظمها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، لتكون اختباراً حقيقياً لمدى تطبيق تلك المبادئ والحقوق.
أقامت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية ندوتها السنوية تطور العلوم الفقهية في الفترة من العاشر إلى الثالث عشر من أبريل الماضي وكانت بعنوان “الفقه الإسلامي في عالم متغير”، شارك فيها ما يقرب من مئة عالم ومفكر وباحث من كافة أنحاء العالم ومن أبرز الدول المشاركة في الندوة السعودية ومصر وسوريا والمغرب وتونس والجزائر وإيران وتركيا ولبنان والسودان وماليزيا وغانا،ووصل عدد أوراق العمل التي ستتم مناقشتها 36 ورقة عمل موزعة على أربعة أيام.
كان من بين أوراق العمل ورقة للباحث العماني خميس بن راشد العدوي وحسب الجدول المنشور في جريدة الوطن بتاريخ 10/4/2011 كان من المفروض أن يلقي الباحث ورقته يوم الاثنين 12/4/ 2011 في تمام التاسعة صباحاً، تفاجئنا كمتابعين بإلغائها، وبدون إبداء أسباب واضحة.
وحتى نفهم لماذا ألغيت وجهنا سؤالاً للجنة المنظمة يستفسر عن السبب فلم نجد إجابة منهم،فزاد استغرابنا، بعد ذلك وجهنا السؤال لصاحب الورقة فأجاب بأنه بنفسه تفاجأ بإلغاء الورقة وبدون إبداء أسباب واضحة ومنطقية، بعد أن وافقت عليها اللجنة المنظمة للندوة قبل عدة شهور.
فها هنا ليس أمامنا إلا قراءة الورقة واستعراض أهم ما جاء فيها، ربما كان فيها ما سبب إلغاءها.
2- ورقة العدوي/المصطلحات الفقهية العمانية المتعلقة بالاجتهاد والتجديد:
ليست الفقرات التالية قراءة نقدية للورقة بل محاولة اقتراب منها، نركز فيها على أهم طروحات صاحبها، حتى نقرر إن كان فيها ما يستحق المنع أو الإلغاء وفقاً للنظام الأساسي للدولة ولقانون المطبوعات والنشر، ويبقى للقارئ الحق في قراءتها والحكم عليها.
تحتوي هذه الورقة على العناصر التالية: النص والواقع، الفقه بين التقسيم الكلاسيكي والطرح القرآني،الفقه والاجتهاد والاستنباط،تقليد الصحابة، معالم الخط الفقهي في المدارس الفقهية العمانية،الانسداد بعد الانبعاث، مفاهيم تأصيلية للتجديد الفقهي، البحث عن مخرج.
ينطلق العدوي في ورقته من واقع المدرسة الفقهية الإباضية في بداية القرن الخامس عشر الهجري ليشخص مسارها باختصار منذ نشأتها الأولى حتى هذا الوقت، مسلطاً الضوء على المفاهيم والمصطلحات الفقهية التي لها أثر على الاستنباط والتجديد”
بعد الحديث عن مؤسس المذهب يصل العدوي إلى أن أصحاب المدرسة الجابرية أهل استنباط وانفتاح واجتهاد وتعدد آراء، وليسوا أهل تقليد أو إنغلاق أو أحادية الرأي.
يرى العدوي أن جميع الناس-ولإنهم عقلاء- فقهاء لكن ليس بالمعنى التقليدي لكلمة فقيه، بل يجب على كل إنسان أن يكون عالماً أو فقيهاً بما يستوعبه عقله، رافضاً الوساطة البشرية في فهم القرآن، ” فالإسلام جاء ليجعل من كل إنسان حركة فكرية فاعلة في الوجود”، ففهم القرآن حق من حقوق المسلم وواجب في نفس الوقت؛ واجب لإن الله عز وجل أنعم عليه بالعقل، وأمره بتدبر كتابه وتعقله، وسيحاسبه على ذلك، وليس لإنه إلتزم رأي مفسر معين فربما كان خطأ،”ولئن يخطأ الناس ثم يتدرجون إلى الصواب أفضل من أن يحال بينهم وبين كتاب ربهم”.
بعد أن يناقش أهم المراحل العلمية في تاريخ المذهب، وهي مرحلة التأسيس أو ما سماه المرحلة الجابرية، المدرستان الرستاقية والنزوانية،ثم المدرسة البونبهانية، وأخيراً المدرسة السالمية، يصل إلى أن أتباع المدرسة الفقهية الإباضية أهل استنباط وتطوير وتجديد، وليسوا أهل تقليد؛ “فلا يوجد عند الإباضية تقليد للأئمة فجابر لم يقلده من جاء بعده بل [اجتهدوا واستنبطوا] وخالفوه في مسائل كثيرة”.
ولكن المدرسة الفقهية الإباضية وبسبب تخليها عن خط سيرها الاجتهادي والاستنباطي والتجديدي، دخلت مرحلة انسداد وتراجع وأحادية الرؤية والاجتهاد، فيصف العدوي في نهاية الورقة كيفية الخروج من هذه المرحلة المأزومة، نلخصها في الأمور التالية: الدعوة لتعدد الآراء،وتجديد التعليم الفقهي، وإنشاء مركز للدراسات الفقهية المقارنة، انفتاح الإعلام وتبنيه رؤية عصرية تعطي للشباب مجالا واسعاُ.
3-أفق:
إن قراءة فكرية للورقة بعيدة عن الشخصنة والإيدلوجيا والأحكام المسبقة، توصل القارئ المنصف إلى عدم وجود ما يخالف النظام الأساسي للدولة أو قانون المطبوعات والنشر أو عموم الشرع الإسلامي، فلو أساء العدوي لأي شخص أو خالف النظام الأساسي أو قانون المطبوعات والنشر فأنا أول من يدعو لمحاسبته وفق القانون، أما لو أخطأ العدوي علمياً فيرد عليه بالعلم والحجة والبرهان، نحن في دولة مؤسسات وليس أشخاص.
إن فهم الدين الإسلامي أو المذهب الإباضي ليس حكراً على أحد، وليس ملكية فردية لأي كانت سلطته وشعبيته ودرجته العلمية، فالفهم والتدبر حق لجميع الناس، ومن يخطأ يرد عليه بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادل بالتي هي أحسن.
لا سلطة دينية في الإسلام، والعلماء لا يملكون سلطة إخضاع الناس لآرائهم فهم مجرد بشر وآرائهم اجتهادات فيها الصواب والخطأ، وليس أحد أياً بلغ اجتهاده أن يكون منزهاً عن الخطأ، وبالتالي يكون فوق النقد العلمي؛ نقد أفكاره وطروحاته.
أمر بديهي عدم وجود واسطة بين الخالق والمخلوق، لكن يبدو أن هذه الحقيقة غابت أو غيبت عن عقول وأرواح كثير من المسلمين. أما مكتب الإفتاء فهو مؤسسة حكومية “خدمية” جعلت لخدمة المواطنين علمياً، ولا لتكون واسطة بين الله عز وجل والمواطن، الإفتاء وظيفة علمية توضيحية، وليس سلطة على عقول أو أرواح المؤمنين، ليس لأحد سلطة شخصية على أحد، دولتنا دولة شريعة وقانون، الشرع والقانون هما السلطة الوحيدة التي تحكم علاقات الناس بعضهم ببعض.
وفي الدعوة لتدبر كتاب الله، إعلاء له وتقدير للإنسان الفرد باعتباره حق من حقوقه، ومن رغب في التنازل عن حقه في الفهم لعالم أو فقيه فله ذلك، لكن ليس من حقه إجبار غيره على تبني خياره الشخصي.
لم يكن إلغاء الورقة، وعدم وجود رد من اللجنة المنظمة مجرد حادثة عابرة يمكن أن تحدث في أي مؤتمر أو ندوة، بل كانت الورقة اختباراً لوجود ما لسلطة دينية شخصية (فوق شرعية وقانونية) في عمان من عدمه، ربما تمارس أقصى درجات الإقصاء ومصادرة الفكر لمجرد الاختلاف.